مداد القلم: ذاكرة قلم..يلتسين على طريق إيفان الرهيب وستالين

ذاكرة قلم..يلتسين على طريق إيفان الرهيب وستالين

غزو الشاشان وبداية النهاية للامبراطورية الروسية

ما الذي يجعل قضية جمهورية الشاشان وشعبها “مشكلة روسية داخلية”، وجعل قضية جمهوريات البلطيق الثلاث أيام انهيار الاتحاد السوفييتي “قضية دولية”؟..
ما هو تعليل المطالبة بحقّ تقرير المصير لبعض الشعوب وإنكاره على أخرى من الشعوب التي يستعمر الروس أراضيها؟..
كيف تتعرّض موسكو للضغوط لتسحب البقية الباقية من قواتها من أراضي البلطيق وتجد التشجيع على أعمال التقتيل والتدمير والإرهاب في أرض القوقاز؟..
هل يوجد فارق موضوعي واحد يعطي جواباً منطقياً على هذه الأسئلة وأمثالها، سوى أن أهل جمهورية الشاشان وأخواتها في منطقة القوقاز وما حولها، مسلمون، من أصل زهاء 25 مليون مسلم لا يزالون تحت سيطرة الاستعمار الروسي، ولا تزال أراضيهم تحت سيطرة الاستغلال الروسي!..
لقد نشأت الامبراطورية الروسية، القيصرية فالشيوعية فالرأسمالية، قبل زهاء ثلاثة قرون فقط، وكانت من اللحظة الأولى دولة استعمارية، احتلّت الأراضي الإسلامية في تركستان وقفقاسيا بالقوة العسكرية، وحملات التهجير الكبرى والتقتيل الجماعي، وحاولت عبثاً صناعة تاريخ جديد وجغرافيا جديدة فيها، من خلال الاستيطان الروسي الاستعماري، وجهود التنصير المتواصلة، ثمّ نشر الإلحاد الشيوعي بالحديد والنار. وهي نفسها روسيا الاستعمارية نفسها التي تحرّكت غرباً فاحتلت أراضي أوكرانيا وروسيا البيضاء ومولدايفيا وأجزاء من رومانيا ودول البلطيق. وسقطت القيصرية، ثمّ سقطت الشيوعية، فما هي الأسس القانونية الدولية التي يُعتمد عليها لاعتبار بعض الأقطار التي كانت مستعمرة دولا مستقلة واعتبار بعضها الآخر مقاطعات تابعة للاتحاد الروسي في عهد الوفاق الجديد بينه وبين الدول الاستعمارية الغربية القديمة والحديثة؟..
الشاشان.. وشاعت تسميتها بالشيشان
mapp
وجمهورية الشاشان بالذات قامت واستقلت رسمياً قبل قيام الاتحاد الروسي نفسه بشكله الجديد، فقد ارتبطت إعادة تكوينه بوضع ما سمي “المعاهدة الاتحادية” في عهد يلتسين، ولم تشارك جمهورية الشاشان في وضعها ولا في التوقيع عليها، وبقيت رسميا وبمفهوم القانون الدولي خارج نطاق الاتحاد الروسي، مثلها في ذلك مثل 17 جمهورية مستقلة نشأت فور انهيار الاتحاد السوفييتي. رغم ذلك فإن ّالدول الإسلامية جميعاً لا الدول الغربية فقط، امتنعت عن الاعتراف بالدولة الإسلامية الناشئة واستقلالها، وفضّلت مراعاة موسكو ومطامعها الاستغلالية في ثروات الشاشان وأخواتها، بينما لم تكن موسكو على استعداد لمراعاة المسلمين وقضاياهم على أيّ صعيد، فمارست أشدّ الضغوط على جمهوريات تتاريا وداغستان وباشكيريا وسواها، لا سيما تلك التي بقيت الهياكل الشيوعية القديمة مسيطرة عليها، كي تستمر السيطرة الروسية الاستعمارية عليها أيضا، كما مارست أشدّ الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية لتفريغ الاستقلال من مضمونه الحقيقي في طادجكستان وقيرغيزيا وأذربيجان وقازاقستان وأوزبكستان وفرض الهيمنة الروسية عليها مجددا. هذا علاوة على ما تمارسه موسكو من سياسة همجية عدائية ضدّ المسلمين في البلقان، وسياسة تواطؤ دولي ضدّ العرب والمسلمين في فلسطين، وهكذا في كل منطقة لا تزال قضايا المسلمين فيها تنتظر موقف العدالة الدولي منذ عشرات السنين، كما في كشمير والفلبين وبورما وسواها.
إنّ روسيا التي تقصف بطائراتها ودباباتها وصواريخها ومدافعها المدن والقرى في أرض الشاشان، ولا تميّز في ذلك بين مدنيين وعسكريين، ولا بين رجال ونساء، وشيوخ وأطفال، هي عينها روسيا التي كان قيصرها الجديد يلتسين يدعو بين الشاشان وسواهم من الشعوب المستعمرة إلى ممارسة حقهم في تقرير المصير، ويعارض استخدام القوّة العسكرية لإنقاذ الاتحاد السوفييتي من الانهيار، يوم كان يمارس تلك السياسة وسيلة في معركته على السلطة ضدّ جورباتشوف.
وكما تحرّك جورباتشوف بالقوّة العسكرية ضدّ المسلمين في أذربيجان في محاولة يائسة لإنقاذ الاتحاد السوفييتي آنذاك من الانهيار دون جدوى، إذا بيلتسين يتحرّك بالأساليب العسكرية نفسها، بعد إخفاقه على كل صعيد داخلي في موسكو ليعيد للامبراطوية العجوز مظهر الدولة الكبرى الحديثة، وإذا بالجيش الروسي مع أواخر القرن الميلادي العشرين يعيث فساداً كما كان يصنع الجيش الروسي في عهد إيفان الرهيب قبل ثلاثة قرون، وكما كان يصنع الجيش الروسي في عهد ستالين قبل بضعة عقود، وذلك في الأراضي الإسلامية نفسها، في طادجكستان وأذربيجان، وأوستينيا الشمالية وإنجوشيا، وفي الشاشان، أي في كلّ منطقة تجدّدت فيها مبادرات التمرّد بروح إسلامية ضدّ الاستعمار الروسي بشكله الحديث، ولم تتمكّن الأنظمة المحلية من إخمادها بدعم روسي مباشر أو غير مباشر كما في أقطار أخرى داخل تركستان وقفقاسيا.
وكانت واشنطون أوّل من أعلن قبيل بداية الغزو الروسي الأخير، وأثناء مسرحية الخلاف المتقنة في قمة بودابست على حساب المسلمين في البوسنة والهرسك.. كانت أوّل من أعلن أن قضيّة الشاشان في نظرها مشكلة روسية داخلية، وكأنّها تدعو يلتسين إلى التخلّي عن مخاوفه من حريق القوقاز، وإلى إرسال قوّاته العسكرية لتصنع ما صنعته في أرض الشاشان. وكان هذا الموقف الأمريكي إيذاناً بمواقف مماثلة صدرت عن باريس ولندن وعواصم أوروبية أخرى، وهي تردّد في الوقت نفسه، ذرّا للرماد في عيون الرأي العام لديها، أنّها تعارض استخدام القوة العسكرية “المكثّفة” على النحو الذي يصنعه الروس بأسلحتهم، بعد أن عجزوا عن الوصول إلى أهدافهم طوال ثلاث سنوات سبقت من خلال اصطناع “تمرّد محلّي مسلح” وإمداده بالمقاتلين والسلاح.
ولكن.. هل تستطيع القوة العسكرية الروسية إخضاع مسلمي الشاشان ومسلمي قفقاسيا وتركستان مجددا للامبراطورية الروسية؟..
أين في ذلك منطق التاريخ على امتداد ثلاثة قرون مضت، كانت الغزوات السوداء والحمراء الروسية تتوالى خلالها في تلك المنطقة، وكانت الثورات الشعبية ضدّ الغزاة تتجدّد فيها أيضاً دون انقطاع؟..
وأرض الشاشان بالذات كانت أرض الشيخ شامل الداغستاني وثورته التي استمرّت أربعين عاما ضدّ القياصرة الروس وامبراطوريتهم الاستعمارية الكبرى آنذاك، وكانت أرضَ الثورة التي استمرّت عدة أعوام ضدّ القيصر الأحمر ستالين وهو على رأس امبراطوريته الشيوعية في أوج امتدادها الدموي عالميا. ولم يبقَ بعد الغزوات والثورات، وبعد التنصير الأورثوذوكسي والإلحاد الشيوعي، إلاّ إسلام شعوب يأبى الخضوع جولة بعد جولة وحقبة بعد حقبة.
ولقد كانت أرض الشاشان بالذات شاهدا على ذلك، عندما ألغت الامبراطورية الروسية لفترة وجيزة قوانين التنصير التي بقيت سارية المفعول عشرات السنين، وإذا بمئات الألوف من السكان يعلنون مجدّدا أنّهم لا يزالـون على إسـلامهم.
كما كانت جروزني، عاصـمة الشـاشـان بالذات شاهدا على ذلك، عندما هوت صروح الشيوعية المهترئة، فإذا بها خلال سنوات معدودة تشهد أكبر موجة بناء للمساجد، بعد أن كان القياصرة والشيوعيون قد هدموا المئات منها فلم يبقَ فيها سوى ستة مساجد فقط في مطلع الثمانينات الميلادية.
كذلك فقد كان شعب الشاشان بالذات شاهدا على ذلك، فقد شرّد القياصرة ثلثه، وشرّد الشيوعيون نصفه، وإذا بأبنائه يعودون إلى أرضهم، ويجدّدون عهدهم مع الإسلام عليها، وعلى الجهاد من أجل تحريرها، وإذا بأهل الشاشان الذي لا يصل تعدادهم داخل أرضهم اليوم إلى عُشر تعداد العاصمة الروسية موسكو وحدها، يتحدّون قوّات الدولة التي ورثت أسلحة الاتحاد السوفييتي وزهاء أربعة ملايين جندي من قواته تحت السلاح!..
ولا تزال التحليلات الروسيّة نفسها والتحليلات الغربيّة عاجزة عن تفسير ظاهرة الصمود في أرض الشاشان، إلى درجة أنٌ القوّات التي تجاوزت الحدود تحت حماية غارات جويّة مستمرّة ليلا ونهارا، وقصف صاروخي ومدفعي شمل المدن والقرى سبعة أيام متوالية.. إذا بها تضطر إلى التراجع عن أكثر من موقع في اليوم الثامن للقتال، أمام عدد محدود من المقاتلين يغيرون عليها هنا وهناك.
ولم تعد التساؤلات تُطرح فقط عن مصير الغزوة الروسيّة الجديدة، وعن مصير المسلمين الشاشان، بل أصبحت تقترن بالتنبّؤات العسكريّة أنّ احتلال الشاشان عسكريّا لا يعني انتهاء القضيّة، بل بداية النهاية ليلتسين على الأقلّ، ولأحلامه القيصرية الروسية فوق ما يصنع من أنقاض ويزهق من أرواح وسط تواطؤ دوليّ رهيب لا يماثله إلاّ ما كان من تواطؤ دوليّ مع نشأة الامبراطورية الروسيّة للمرّة الأولى.
والعجز في التحليلات الأجنبيّة وكذلك على أقلام من ينهج نهجها داخل البلدان الإسلامية، عن تفسير ظاهرة الصمود في أرض الشاشان وأخواتها، عجز صادر عن ذلك المنطق المادي القاصر عن استيعاب التاريخ والسنن الربّانية في صنعه، فهذا ما يدفع كثيرا من تلك الأقلام إلى التعلّق بتعليل يقول بوعورة الجبال الشاهقة في القوقاز فلولاها لهزم المسلمون نهائيا، وهي عينها الأقلام التي تريد إقناعنا بأنّ صمود المسلمين في فلسطين يرجع إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردّية فحسب فإن تحسّنت “نسي” المسلمون عهدهم مع الإسلام ضدّ الاغتصاب والغاصبين للأرض المباركة، ويقال شبيه ذلك عن صمود المسلمين في كشمير، وفي طادجكستان، وفي البلقـان.. وهكـذا كأنّ أولئك المحلّلين لا يرون ولا يريدون أن يروا القاسم الأعظم المشترك بين المسلمين في سائر المناطق المذكورة وسواها، والذي يجمع بينهم، ويصنع صمودهم واستبسالهم، ويفتح أمامهم الطريق نحو انتصارات قادمة حتما، عاجلا أو آجلا، فقد استيقظت العقيدة في أعماق القلوب وعلى سواعد المجاهدين وفي واقع الحياة اليومية على السواء. وهذا الذي تشهده الأراضي الإسلاميّة، ما بين طادجكستان والبلقان، وفي حياة الفتيات الناشئات المحجّبات على أرض فرنسا وفي أيدي الصغار والكبار وهي تقذف الأحجار على أرض فلسطين.. هذا ما تخشاه القوى الدوليّة المعادية، لأنّها تقدّر نتائجه على المدى القريب والبعيد، فهو جزء لا يتجزّأ من السنّة الربّانية الثابتة في مجرى التاريخ منذ القدم في صناعة الأمم، وفي صناعة الأمّة الإسلاميّة على وجه التحديد.
إنّ العودة إلى العقيدة، وتجدّد فهم الإسلام، واستيعاب دوره في حياة البشريّة، ورؤية الأحداث والتطوّرات العالمية عبر المنظور الإسلاميّ، وكذلك الإقبال على تطبيق ما يقتضيه هذا الوعي في كلّ ميدان ممكن، ورسوخ اليقين بأنّ الطاقات الذاتيّة هي التي تصعد -بإذن الله- بالمسلمين من عصر الانحطاط الراهن الذي نعاني من آثاره ونتائجه، إلى المستقبل المشرق بتجديد مآثر الإسلام في حياة البشرية حقّا وعدلا وسماحة وهديا.. هذه المسيرة التي أخفقت جهود عشرات السنين الماضية وعجزت عن إطفاء جذوتها، هي التي تجعل قوى الوفاق الدوليّ الحديث تخفق أيضا في منطقة بعد أخرى وفي جولة بعد جولة، وهي التي تجعل شدّة الضربات ووطأة المحن من وسائل تستهدف القهر، إلى منطلقات تجدّد العزائم وتضاعف أسباب التعبئة والنهوض والجهاد، على طريق واصلة إلى الأهداف العزيزة الجليلة، حتّى ولو تطاولت هذه الحقبة جيلا أو جيلين، فهي في عمر التاريخ لمحة وجيزة، ومقياسها عند المسلم لا يتبدّل ما دامت غايته إحدى الحسنيين، مرضاة الله وجزاؤه الأوفى في الآخرة الباقية، أو نصر للإسلام في هذه الحياة الدنيا.

 


Share Button

اترك تعليقاً