مداد القلم: قيصر جديد وفساد قديم

قيصر جديد وفساد قديم

كيف انتقلت السلطة من يلتسين إلى بوتين

 

مع وفاة بوريس يلتسين كثر الحديث عن إنجازاته وتجاوزاته، وقليلا ما تناول الواقع القائم من بعده، في عهد خلفه فلاديمير بوتين، ناهيك عن الإشارة إلى أنّ وصول الأخير إلى السلطة، كان من “إنجازات.. أو أخطاء” يلتسين، والحصيلة هي ما شهدته الشاشان في الدرجة الأولى، علاوة التراجع الملحوظ فيما سبق الاعتقاد بتثبيته من حريات وحقوق عقب سقوط الشيوعية وانهيار معسكرها الشرقي. المقالة التالية واكبت انتقال السلطة في حينه (عام 2000م)، وفي مضمونها ما يعطي تفسيرا لكثير من السياسات الروسية في الوقت الحاضر (عام 2007م).

 

في الديمقراطيات الغربية ألوان من الفساد والانحرافات ومن العدوانية وانتهاك حقوق الإنسان، وكثيرا ما وصل ذلك إلى أعلى المستويات، وكثيرا ما أثار التساؤلات عن تفسير لأسلوب التعامل معه، كما لو كان من الأمور الاعتيادية في حياة الطبقة السياسية !. وما قضية كلينتون وانحرافاته الجنسية بغائبة عن الأذهان، ولا حكايات الساسة الإيطاليين مع الجريمة المنظّمة بمجهولة، ولا الفضائح التي طالت بعض الوزراء وكبار العاملين في أجهزة حكومية وأمنية في فرنسا وبلجيكا بأقلّ شأنا مما انكشف أمره من بعد من فضائح مالية على أعلى المستويات الحزبية في عهد هلموت كول بألمانيا، أمّا العدوانية وانتهاكات حقوق الإنسان فالنسبة الأعظم مما يًرتكب في البلدان الديمقراطية الغربية يصيب الإنسان في البلدان النامية، فلا يؤبه به كثيرا، ولا يجد طريقه إلى الكشف عبر وسائل الإعلام إلاّ قليلا، ناهيك عن المحاسبة والمقاضاة. بل على النقيض من ذلك إذا ارتكب مجرم من غير السياسيين والديبلوماسيين أيضا، جريمة ما في بلد من البلدان النامية، لا خلاف حول استحقاقها العقوبة، ولا حصانة تمنع العدالة من أن تأخذ مجراها بشأنها.. ولكن كان ضحيتها إنسان أو أكثر من أهل ذلك البلد المضيف، فليس مجهولا ما تبذله الدولة الأمّ لتخليص مواطنها المجرم من المحاكمة بأي ثمن، ولو كان فيه فساد علاقات ديبلوماسية وتجارية، وما قصص ممرّضة بريطانية في السعودية وخادمة فيليبينية في الإمارات وتاجر ألماني في إيران بمجهولة. ولا يعني هذا الحيفُ على حساب الدول النامية نجاةَ أهل الغرب أنفسهم من انتهاكات حقوق الإنسان، كما يشهد ما ينكشف من التعامل الأمريكيين البيض مع السود والملونين، وتجارة الرقيق الأبيض في كل مكان، ومصير الأطفال المعتدى عليهم بمختلف أشكال الاعتداء الوحشي.

 

هل لهذا علاقة بفلاديمير بوتين ووصوله إلى كرسي الرئاسة في الكريملين ؟..

إنّ ما ينكشف في الغرب من علاقة لبعض المسؤولين في قطاعات السياسة أو الاقتصاد أو رجال الأمن بتلك الألوان المتعدّدة من الفساد وسواها، إنّما ينكشف في فترة متأخرة، بعد أن يكون المسؤول قد استقرّ في منصبه، أو بعد نهاية فترة وجوده فيه، ثم قد يجد الملاحقة السياسية، كما كان مع نيكسون، وقد لا يجد ما يستحقّ من جزاء كما في حالة كلينتون، ولكنّ هذا ما يعود إلى فساد الأولويات بين المصالح المادية والأخلاقيات، وإلى فساد معايير القيم واضمحلالها، إنّما نادرا -وليس مستحيلا تماما- أن تنكشف فضائح من هذا القبيل أثناء معركة انتخابية، ثم ينجح المرشّح الغربي رغم ذلك في الوصول إلى منصب يتطلع إليه، وهذا ما يدفع في إطار الحديث عن بوتين إلى المقارنة والتساؤل عن المستوى الذي انحدر إليه واقع الاتحاد الروسي في هذه الأثناء، بعد أن سقطت الشيوعية المتفسخة وأقيمت أركان الديمقراطية الغربية مع مناهجها الاقتصادية وأخلاقياتها، فكأن الروس يريدون التفوّق على الغربيين في مساوئ مناهجهم قبل أن يرسّخوا ولو بعض ما يعوّض شيئا ما عن ذلك من محاسنها وميزاتها.

إنّ جميع ما ذكر ويذكر عن فلاديمير بوتين لترجيح احتمالات انتخابه رئيسا للاتحاد الروسي، وعن ظروف ارتفاع نجمه خلال فترة وجيزة، لا يندرج تحت عنوان تعداد المآثر والمحاسن والميزات، وإنّما يُفهم كشكل من اشكال التبجّح العلني بأسوأ ما يمكن تعداده من مواصفات لرئيس دولة، ناهيك أن تكون لرئيس دولة كبرى، أو هي راغبة في هذا الموقع على الأقلّ!..

لا يقتصر الأمر على أنّ مدخله إلى معترك المسرح السياسي الروسي كان عبر بوابة المخابرات، وهي بوابة مخزية، لا سيّما في الفترة التي كان محور نشاطات المخابرات السوفييتية فيها متركّزا على الروس أنفسهم وعلى شعوب الدول الشيوعية الصديقة لهم، ولا غرابة أن يكون في مقدّمة أعمال بوتين الرسمية بعد استلامه منصب الرئاسة بالوكالة، وقبل أن يزور جنوده الروس في جبهة القتال، زيارته لضريح الرئيس السوفييتي الأسبق آندروبوف، وهو الذي بقي في الحكم فترة وجيزة قبل جورباتشوف، ولكن يميزه أنّه كان أيضا رئيسا للمخابرات قبل استلام الرئاسة في الدولة الشيوعية المنهارة.

ومن بوابة المخابرات إلى بوابة الفساد فقد كان مدخل بوتين إلى مبنى الكريملين عن طريق تشوبايس، أوّل من سقط من منصبه -مؤقتا- من بين أركان “عائلة” يلتسين، بسبب الفساد، ليس لانكشاف أمره، ولكن لأنّ الفساد بلغ مدى يزكم الأنوف من جهة، وبسبب صراعات تدور بين أصحاب المليارات الجدد على مناصب توجيه الحكم في موسكو من جهة أخرى، وأحدهم تشوبايس نفسه. وكلمة “عائلة” لا تعني هنا صلة القرابة، وإن كان قد انكشف أمر استشراء الرشوة والفساد في أقرب أقرباء يلتسين كابنتيه وصهريه، ولكن تعني -على غرار ما تعرفه جزيرة صقلية تحت سيطرة عصابات الإجرام المنظمة / المافيا- وجود ظروف مماثلة في قمّة هرم السياسات السياسية والاقتصادية بموسكو.

بوتين فرد من أفراد “العائلة”.. ولهذا كان سهلا عليه أن يدفع ثمن وصوله إلى موضع الحظوة عند يلتسين، والاتفاق على استقالة الأخير في اللحظة المناسبة لوجوده هو في منصب رئاسة الوزراء، وبالتالي في موقع استلام الرئاسة بالوكالة وفق الدستور، وكان الثمن الظاهر للعيان، وقد يكون المخفي أعظم، أن يوقع بوتين أوّل مرسوم رئاسي يحمل اسمه في قمّة الكريملين، بما يعطي يلتسين وأقرباءه وافراد عائلة فساده المالي والسياسي “صك غفران” مدى الحياة، فلا يلاحقهم جهاز سياسي ولا قضائي، ولا يحاسَبون عما ارتكبوه وانكشف أمره أو ما ارتكبوه ولم ينكشف أمره بعد، رغم أنّ الوثائق عمّا انكشف من ذلك باتت مفتوحة منشورة، وأنّ الحسابات المالية وما دخل إليها من أموال بالملايين معروفة مكشوفة، وأنّ عمليات غسيل ما يسمى “الأموال القذرة” في جنيف وفي نيويورك قضايا ثبتت على أصحابها متلبسين، فلم يعد السؤال هل ارتكب هؤلاء الذين يمنحهم بوتين “الحصانة” أعمالا تثبت عليهم تهمة الفساد وسواها أم لا، وإنّما السؤال هو هل يلقون عقوبتهم أم لا، وصعد بوتين إلى قمّة السلطة في موسكو بتوقيعه على كلمة “لا” في هذه الحالة، مع أنه اشتهر اثناء وجوده في الكريملين بأنّه لم يكن يقول شيئا تجاه سيد الكريملين السابق سوى كلمة “نعم”!..

ويُعلّل صعود نجم بوتين السياسي شعبيا وفي أوساط العسكريين ولدى الأحزاب الحاكمة والمعارضة، بتحرّكه في حرب الشاشان بتصميم قاطع على المضي بالحرب إلى نهايتها بأي ثمن، وهنا أيضا لا يعني ذلك صعود نجمه بفضل بطولة عسكرية في معركة مشرّفة، أو ميؤوس منها ثمّ نجح هو في انتزاع النصر فيها، بل يصعد نجمه رغم افتقاد أيّ جانب مشرّف في المعركة نفسها وفي مجراها، وكان من المفروض وفق مقاييسهم العسكرية أن يتحقّق النصر العسكري الروسي خلال أيام فقط. إنّما كان صعود نجم بوتين لأنّه استطاع حتى الآن إخفاء العدد الحقيقي لقتلى الروس في الغزوة الجديدة لأرض الشاشان، ولكن سيّان هل كان العدد بالمئات أم الألوف أم تجاوز بضعة عشر ألفا كما كان في حرب الشاشان الأولى، يبقى من المخزيات المذهلة، أن يجد بوتين في حرب الشاشان التأييد من جانب المسؤولين الروس على اختلاف مواقعهم ومشاربهم واتجاهاتهم السياسية، فهذا لا يحسب له ولا لهم، وإنّما يؤكّد أنّ الأرضية التي تتحرك عليه السياسة الروسية باتت فاسدة حتى النخاع، لا تتورّع عن الجرائم الحربية بأبشع صورها، وأنها تسير حذو النعل بالنعل وراء ما سبق وسارت عليه السياسة الأمريكية أيام فييتنام (ومن قبل ومن بعد كما في أفغانستان العراق)، حيث بقي تأييد الحرب قائما إلى أن بدأ ينكشف حجم الخسارات البشرية الأمريكية، فبدأت فجأة “حملات الدفاع عن حقوق الإنسان الفييتنامي” كما قيل. هنا أيضا يصعد نجم بوتين سياسيا ما دام ضحايا حربه في الشاشان ليسوا من الروس “البشر”، بفضل أساليب القصف الإجرامي عن بعد، خوفا من التلاقي العسكري وجها لوجه مع المجاهدين المدافعين عن أصل وجود شعبهم وبلدهم.

ثمّ يقال بعد ذلك كلّه إنّ الساسة الغربيين، كما ورد على هامش قممهم ولقاءاتهم المتعددة، لا يريدون ممارسة ضغوط ما على بوتين بسبب حرب الشاشان، كيلا تضعف فرص نجاحه في انتخابات الرئاسة آنذاك، فليس من مصلحة الغرب أن يأتي على رأس السلطة في الكريملين سواه من الساسة الروس!.. وفي هذا الموقف الغربي كثير من الدلائل التي تنسجم مع حقيقة أن الفساد السياسي قد استشرى إلى أقصى حدوده.

إنّ الساسة الغربيين يقولون بذلك -ودون أن يطرف لهم جفن كما يقول المثل- إنّ مصالحهم أهم ممّا يزعمون باستمرار أنّهم يعطونه الأولوية على صعيد حقوق الإنسان، ويقولون واقعيا إنّ التعامل مع سياسي صعد على سلّم الفساد، وحصّن أركان الفساد، وارتكب الجرائم الحربية بأنواعها، وما زال يرتكبها، ولكن يخدم مصالحهم على وجه الاحتمال، أفضل عندهم من التعامل مع سياسي قد تتناقض سياسته مع مصالحهم!..

وليصدّق من شاء إذن أنّ النوايا الغربية بريئة، وأنّ شعاراتهم صادقة، عندما يتحدّثون عن ملاحقة مسؤولين آخرين في مواقع أخرى مثل صدام وميلوسوفيتش، بدعوى الدفاع عن الشعوب، وهذا علاوة على أنّ محاضن الفساد التي نشأ فيها أولئك جميعا وترعرعوا، إنّما هي محاضن غربية المنشأ والهوية والأسلوب والاتجاه، من البداية إلى النهاية.

إنّ وصول بوتين إلى منصب الرئاسة، وإنّ موقف الغرب ممّا يرتكبه في الشاشان ودعمه إياه في الوصول إلى منصب الرئاسة، إنّما يؤكّد في خاتمة المطاف، أنّ موسكو استكملت بذلك المشوار من الشيوعية المنهارة إلى الرأسمالية القائمة على هياكل ينخر فساد الذمم والضمائر فيها نخرا، وينكشف أمره بلدا بلدا وعاما بعد عام وحربا بعد حرب وميدانا بعد ميدان، فعاد بذلك الروس إلى الأرضيّة الغربية المشتركة، التي كانوا يتحرّكون عليها من عهد القياصرة إيفان وألكسندر وأقرانهما، من قبل عهد الشيوعية مع لينين وستالين وأقرانهما، فتابع المسيرة الآن يلتسين وبوتين وأقرانهما !.

نبيل شبيب

http://www.midadulqalam.info/midad/modules.php?name=News&file=article&sid=294

 

 

Share Button

اترك تعليقاً