مقالة العبوديّة الطّوعيّة

مقالة العبوديّة الطّوعيّة

booook

نشر “مركز دراسات الوحدة العربيّة” في بيروت مؤخرا كتابا يقع في 262 صفحة صادرا عن “المنظّمة العربيّة للترجمة”، بعنوان “مقالة العبوديّة الطّوعيّة” من تأليف الكاتب الفرنسي “إيتيان دو لا بويسي” من ترجمة الكاتب والمترجم “عبود كاسوحة”.

ويُعرف المؤلف من خلال ما قدم سابقا عن موضوع يعزز فيه ذكر “الحرية ضد الطّغاة”.

يقول المؤلف في كتابه ان مقاومة البؤس والقهر حسب رأيه لا تمر عبر العنف والقتل لأن عبودية الشعوب هي عبوديّة طوعيّة والشعوب هي من “تذبح نفسها بنفسها”، وان خضوعها الطّوعي لنير الطّغيان يشوّهْ من الطّبيعة البشريّة القائمة بالأصل على “الإنعتاق والحرّيّة”.

وفيما يلي تحليلا دوّنه “طائر الحب” أحد أعضاء منتدى “روعة المنتدى العام”، بعنوان: “مقالة العبودية الطوعية: نشيد في تمجيد الحرية” يقدم فيه أفكارا رئيسيّة معبّرة لما جاء في الكتاب:

لا يهدف إيتيان دي لا بويسي في كتابه “مقالة العبودية الطوعية” لتأسيس نظرية سياسية، ولا لتوصيف الطغاة، ولا لوضع دليل للتخلص من العبودية، بقدر مايهدف إلى تقديم نشيد في تمجيد الحرية، باعتبارها الراية التي ترفعها الفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم الإنسانيات كمعادل حياتي، ولذلك لايرى فيها دي لا بويسي فيها حقاً طبيعياً فقط، بل قيمة يجب الدفاع عنها والتضحية في سبيل الحفاظ عليها، لأنها وحدها ما يستحق التضحية لأجله، ويرى في العبودية الطوعية سلوكاً انتهازياً ترافقه رغبة طمع وتحقيق مكاسب ما، لكن هذه المكاسب، وغالباً ما تكون تافهة، لا توازي أبدا الثمن المدفوع لأجلها، وهو الحرية، وقد سميت هذه المقالة في بعض الفترات التاريخية باسم (رسالة ضد الفرد) وذلك لأن الكاتب ركز فيها على الرغبة في الخضوع لدى الآخرين، وإذا كان قد أدان الملوك والمتسلطين فإن إدانته للأفراد تبدو أكثر وأشد عنفا، لأن المؤلف يرى أن الذليل لا يمكن أن يكون ذا فائدة في شيء مهم، ويعتبر استغراب البعض من هزيمة جيوش كبيرة أمام مجموعات صغيرة غير مفهوم، لأن المقاتل الذي يقاتل في سبيل حريته والحفاظ عليها من الممكن أن يقتل، لكن من الصعب أن يهزم، لأنه يعرف عن ماذا يقاتل، بينما الآخر يعرف أنه أرسل ليقاتل في سبيل شيء لا يعرفه لذلك تكون هزيمته سريعة، لأن لا شيء هناك يدعوه للدفاع عنه.
ينطلق الكاتب من مقولة وردت في الانياذة على لسان أوليس هي: (لا أرى خيرا أن يكون للإنسان أسياد عديدون، فليكن سيد واحد، وملك واحد)، لتوصيف حالة العبودية الطوعية التي يتسابق إليها أناس لا يقدرون الهبة الإلهية والإنسانية في أن يكونوا أحراراً، معتبراً أن أوليس لو توقف عند (لا خير في أن يكون للمرء أسياد عديدون) لكان كافياً إذ لا شيء يبرر العبودية حتى لو كان المستعبد حاكماً، ولايقدم الكاتب قراءة نضالية لمرحلة من مراحل التاريخ الإنساني، بقدر ما يقدم دعوة أبدية للحفاظ على الحرية، مورداً أمثلة من التاريخ عن النموذج الإنساني الحر الذي يأبى أن يستعبد لأحد، مهما كان هذا الأحد، دون أن يحدد الطغاة، أو ماهيتهم، أو أساليبهم في الاستعباد، فما يهمه في مقالته هو متابعة رغبة العبودية لدى الجمهور العريض، التي تنافي الحقيقة الإنسانية والجوهر البشري، معتبراً أن الجماهير غالباً هي التي تقدم الذرائع للمستبد حتى يسيطر عليها.
يعرّف لا بويسي العبودية الطوعية باعتبارها السلوك الجبان الذي يرضى به المستعبد، وهو يظن أنه يحقق الاستقرار ورغد العيش لنفسه وأسرته بارتهانه للآخر، من دون أن يفكر بأنه عبر هذا السلوك قد بادل أفضل ما يملكه وهو الحرية بأسوأ ما يملكه الآخرين وهو التسلط، فالناس هم الذي يقدمون المبررات لاستعبادهم، بدون أن يفكروا وللحظة واحدة أنهم أورثوا العبودية لهم ولذريتهم، وحولوا أبنائهم إلى وقود لحروب الطاغية، وبناتهم لتلبية رغباته وفجوره، وأصبح ما يملكونه معرض للمصادرة في كل لحظة، ومن دون أن يتأملوا في كون ما يدفعه لهم من وجبة طعام، أو إبريق شراب، أو قطعة فضية، هو قليل مما سلبه منهم، أو ما سلبه بواسطتهم من الآخرين، ومع تكرار القتل والمصادرة لا يتعظ هؤلاء العبيد بمصير الآخرين وينتظرون مصيرهم حتى يقتنعوا أن لا حرية لهم، وما هم إلا عبيد برغبتهم أولاً، لأنهم هم من قدم نفسه للمستبد ونسي حريته، ويرى في خلق الإله للإنسان المتساوي مع الآخرين ميزة ودليل أن لا أحد أفضل من أحد، فلكل إنسان يدان وعينان ورأس، والكل متساوي مع الآخر من حيث الخلق، والطاغية المستبد لا يملك أكثر من ذلك، لكنه يملك الرغبة بالتسلط فيما يملك الآخرون الاستعداد للاستعباد، وهذه هي المشكلة في غياب روح الحفاظ على الحرية، معتبراً أن ولادة البشر أحراراً غير كافية، إذ ينبغي عليهم القتال للحفاظ على هذه الحرية، لأن التراخي في التمسك بالحرية الفردية يحيل الفرد إلى عبد ذليل.
ويعطي المؤلف أهمية كبيرة لتربية الفرد، فيعتبر أن البعض يولد رقيقاً ويربى كذلك، ولا يعرف غير العبودية فهذا الشخص لا يفتقد شيئاً ولا يشعر بعبوديته لأنه لم يعرف حالة أخرى، أما من ولد حراً، أو من امتلك العقل ليفكر، فلا يمكن له أن يرضى بالعبودية، ويروي للتدليل على كلامه قصة رجلين من اسبرطة ذهبا كرسولين إلى ملك الفرس كسرى، وحسبا أن كسرى سيقتلهما لا محالة، إذ اعتاد أهالي اسبرطة على ذلك، والتقيا أول شخص من بلاط كسرى وكان مستشاراً له فأكرمهما وأخبرهما أن سيده سيرحب بهما لأنهم يكرم من يستحق التكريم، وأنهما لو قاما بخدمته فلربما عينهما حاكمين لإحدى المدن، فأجاباه: انك تقدم لنا نصيحة غير نافعة، إذ تطلب منا أن نكون خدماً، لأنك تجهل ما ننعم به من حرية، ولم تعرف غير إحسان الملك عليك وتجهل طعم الحرية العذب، ولو أنك خبرت هذا الطعم لنصحتنا بالدفاع عنها لا بالرمح والترس بل بالأسنان والأظافر أيضا.
ويرى لا بويسي أن مسخرة المساخر تكمن في مجموعة الحراس والقلاع والحصون التي يحصن بها الحاكم نفسه، فهو يفعل ذلك ليخلق لنفسه رهبة في نفوس عبيده، ولكن لا يمكن لهذا العدد والحصون أن يحميه عندما يفكر الآخرون بحريتهم، مذكراً بأن عدد الحكام في التاريخ الذين قتلوا على أيدي حراسهم والمقربين منهم يفوق أضعاف من قتلوا بيد الأعداء، ويسخر من حالة الكوميديا التي يلجأ إليها البعض، إذ كان ملوك الأشوريين والميديين من بعدهم لا يظهرون أمام شعوبهم، لترسيخ فكرة الإلهي فيهم عند الآخرين، وكان فراعنة مصر عندما يظهرون في الأعياد أو غيرها، يكللون رؤوسهم بأغصان النخيل تارة أو بصور ما تحجب حقيقة وجه الحاكم، وكل هذا حتى لا يقارن الشعب بين صورة الحاكم وصورة الإنسان العادي، لأنه سيكتشف حينها أن لا شيء يميز هذا الحاكم عنه، والأدهى من ذلك الإشاعات التي ينشرها العامة ويصدقونها وخاصة عن الحكام وقدرتهم على صنع المعجزات، وشفاء المرضى وآلاف الأوهام الأخرى.

مقالة العبودية الطوعية” نشيد للحرية الإنسانية في أنصع تجلياتها، حرية أن يعيش الفرد دون أن يكون له سيد أو أسياد، وكما يشتهي ويتمنى هو نفسه لا كما يريد له الآخرون، فلا شيء يجبره على الخضوع لأحد، إلا إذا توهم أن هناك فائدة يمكن أن ينالها إذا سمح للآخرين باستعباده، ودعوة أيضاً للحفاظ على ما هو إنساني في حياة الشخص، والتمسك بالحرية التي لا يمكن لشيء أن يعوض عنها، باعتبارها القيمة الإنسانية الوحيدة التي تستحق التضحية في سبيلها، لأن البشر يفقدون حياتهم بفقدانهم لحريتهم، فالوجود الإنساني بدون حرية ليس أكثر من حالة بهيمية في أحط مستوى، وعلى الرغم من أن “مقالة العبودية الطوعية” قد أثارت الجدل والاهتمام على مدى قرون، إلاّ أن أياً من الفلاسفة والمفكرين لم يستطيعوا تجاوزها، وتجاوز أفكارها، وهو ما يلاحظ في حجم وكم التعليقات والهوامش الكثيرة التي تناولت موضوع الكتاب، من دون رأي سلبي واحد، وهذا فضلاً عن موازاة هذه المقالة من حيث الأهمية الفكرية لكتاب مكيافيللي”الأمير” لكن في الاتجاه العكسي، فمكيافيللي كتب إرشادات للأمير تساعده في التسلط على الرعية والحفاظ على ملكه، بينما دي لا بويسي كتب هذه المقالة ليعلم الناس أهمية الحرية والحفاظ عليها.

أخبار شركيسيسا

Share Button

اترك تعليقاً