نظرة على الإبادة الجماعية الشركسية / الإبادة المنهجية في قباردا (2) – من كتاب “شركيسيا: ولدت لتكون حرة” للكاتب عادل بشقوي

حضرات القُرّاء الأعزاء،

يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسيا: ولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد

عادل بشقوي


09 نوفمبر/تشرين الثاني 2021

نظرة على الإبادة الجماعية الشركسية

الفصل الرّابع

الإبادة المنهجية في قباردا (2)

PHOTO-2021-11-08-21-18-01

عندما كان الوقت مناسبًا لهم، بدأوا في بناء القلاع والحاميات والمراكز العسكرية التي من شأنها أن تكون بمثابة حصان طروادة لمنطقة القوقاز بأكملها. بعد بضع سنوات، انتشرت هذه البؤر الاستيطانية الاستعمارية عبر القوقاز، بالإضافة إلى وجود حاميات بحرية على ساحل البحر الأسود. وستكون وظائفها جميعًا إقامة وتشديد الحصار والمراقبة والعقوبات للسيطرة على شركيسيا والقوقاز.

أقنع فولينسكي (Volynsky) بيتر {بطرس} (Peter) ببناء قلعة كيزليار (Kizlyar) على نهر تيريك (Terek) في عام 1735 كخطوة أولى نحو غزو شمال القوقاز، وبدأ هذا الخط العسكري الذي امتد في النهاية من شبه جزيرة القرم إلى بحر قزوين.498

كان هناك دائمًا انعدام في الثقة، وشك وإيجاد أحداث مصطنعة وفقًا للعقلية الروسية. كانت نيّتهم ​​دائمًا التهرب من أي اتفاق أو تعهد أو التزام أو تفاهم تم الاتفاق عليه مع الشركس.

فعلى سبيل المثال، عندما يتم حث الروس على تنفيذ تعهداتهم، وعندما تكون هناك حاجة للمساعدة وفقًا للاتفاقيات، وعندما يُطلب منهم الوفاء بما هو مطلوب منهم عمله في حالة وقوع هجوم، فإنهم يتنصلون من تعهداتهم.

كما تجاهل فولينسكي معاهدة روسيا طويلة الأمد مع قباردا. طلب بشي أرسلان قايتوقة (Pshi Arslan Kaituke) مرارًا وتكرارًا المساعدة في صد هجمات القرم من 1718 إلى 1721، لكن فولينسكي رفض إرسال أي قوات. ومع الإدراك بأن حلفاء القباردي قد تخلوا عنهم، شن الخانات غزوًا رئيسيًا، مما أدى إلى تدمير قباردا.499

خَلَفَ فولينسكي في منصبه مجموعة من القادة الذين عاملوا شعوب شمال القوقاز على أنهم رعايا متمردين. فبدلاً من إهدار الموارد في محاولة غزوهم واحدًا تلو الآخر، اختارت قيادة القوقاز نظامًا تابعًا. في مقابل المساعدة المالية والمادية، حيث يتعهد في هذا السياق زعيم محلي أو قبلي بالولاء لروسيا. انتهى هذا الترتيب بتعيين بافل تسيتسيانوف (Pavel Tsitsianov) كقائد أعلى لجيش القفقاس في عام 1802. 500

لم يكن بوسع القادة الروس أن يتغيروا بمرور الوقت، خاصة فيما يتعلق بأسلوب التعامل مع شعوب القوقاز. أدى التغيير المستمر للقادة والزعماء في روسيا إلى زيادة وتيرة غطرستهم اللاإنسانية، وفقًا للعقلية الساحقة للطغاة الاستعماريين. وهذا من شأنه أن يتناسب مع تكتيكات الأولوية السائدة التي أضرّت بالتالي بعشرات الشعوب.

على الرغم من أنه شغل المنصب لمدة أربع سنوات فقط، فقد شرع في دفع عجلة الوحشية التي كانت السمة المميزة للجهود الروسية اللاحقة لغزو شمال القوقاز. أشاد المؤرخون الروس بالإجماع تقريبًا  بتسسيتسيانوف: مُتحدِّثاً عن إدارته في جنوب القوقاز، لاحظ المؤرخ القيصري فاسيلي بوتو (Vasily Potto) أنه مع تعيين (تسيتسيانوف) جاءت أوقات أفضل . . . وتحوُّل كامل في السياسة الداخلية والخارجية.501

لا يعتبر وصف ما حدث بأي حال من الأحوال تحيزًا ضد أمة أو شعب معين. إنه وصف للأشخاص الذين كانوا على رأس القيادة، الذين لم يكن لديهم أي شيء في ترسانتهم باستثناء الأسهم المشؤومة والعنصرية والأنانية الهزيلة المتفشية في أذهان أولئك الذين لم يعرفوا شيئًا سوى السيطرة على الشُّعوب والأمم الأخرى. ركّزوا هدفهم ​​دائما على الاستيلاء على أوطان الآخرين كطريقة لضمها إلى إمبراطوريتهم باستخدام نشر الرعب والإرهاب والموت والإبادة الجماعية.

وفي مطلع القرن العشرين، امتدح الرحالة البريطاني جون بادلي (John Baddeley) تسيتسيانوف لقدرته الإدارية العالية، إلى جانب روحه العدوانية والمتغطرسة التي خدمته بشكل مثير للإعجاب في تعاملاته مع الحكام المحليين من الشعوب الأصلية، مسيحيين ومسلمين. الباحث الأمريكي موريل أتكين (Muriel Atkin) يحتفظ بموقف مختلف تمامًا، حيث زعم أن بلاغة تسيتسيانوف شابها الضجيج، تمامًا كما شوه الخداع نبل شخصيته؛ الطاقة التي بذلها كانت إلى حد كبير طاقة الشعوب الأخرى؛ وقد تجلى تصميمه في عمليات القتل. بينما يقدم المؤرخ البريطاني ديفيد لانغ (David Lang) وصفًا أكثر دقة، واصفا إياه بأنهمارق وخائن لشعبه، لكنه رجل في خدمته لروسيا، وجه العديد من الضربات الساحقة لأعداء جورجيا التقليديين“.502

للأسف، أولئك الذين فقدوا البوصلة ولم يعرفوا الفرق بين آسيا وأوروبا تم تكليفهم بمهمة احتلال أراضي وأقاليم الآخرين وإخضاع شعوبهم لاحقًا بأي ثمن. كانوا يميلون دائمًا إلى التشهير بشخصيات الآخرين باتهامات كاذبة لا تستند إلى المصداقية. لا يمكن وصف بصمتهم المميزة إلا بالوحشية.

ومن الغريب في الأمر أن هناك حقيقة في كل هذه التصريحات، لكن للأسف فقط الخصائص السلبية لتسيتسيانوف هي التي تقلدها خلفاؤه، ولا سيما وحشيته وكراهيته المرضية لِالآسيويين“ (Asiatics). أفاد بوتو أن أساليب تسيتسيانوف في التعامل مع شعوب القوقاز كانت تستند إلى الاعتقاد بأنالآسيويّين يطالبون بأن يُعاملوا بازدراء استثنائي“.503

وقد ثبت أن إيذاء الأشخاص الذين انتهكت حقوقهم هو سلوك عنيد. وصلت بعض القضايا إلى حد الإساءة للقادة المحليين، والتي لم تكن هذه الإساءات إلًا الإجراء المتهور الوحيد الذي تم تنفيذه عمداً. تم توجيههم وإعطائهم مهمة تنفيذ سياسات روسيا المتعجرفة. لقد غضّوا الطرف عن حقيقة أنهم غرباء عن المناطق والأقاليم التي وفدوا إليها، ولا يحق لهم انتهاك حقوقها وسيادتها.

تكدست التهديدات والشتائم على القادة المحليين. في رسائل إلى العديد من زعماء داغستان، والتي كانت تُفتتح مرارًا وتكرارًا بالتحية الملونةالأوغاد غير الموثوق بهم“ (untrustworthy bastards)، استخدم تسيتسيانوف عبارات مألوفة مثلأنا متعطش لغسل حذائي بدمكوتوعّد بانتظام بأن يحرق القرى وأن يخرج المجموعات السكانية بأكملها من أراضيهم.504

يظهر السلوك الأحمق الجهل والافتقار إلى المعرفة الأساسية بأصل مجموعات مختلفة من الجنس البشري. مناطق شمال القوقاز هي الجزء الجنوبي الشرقي من أوروبا. كانت الخطة هي ضم المنطقة بأكملها إلى الإمبراطورية المتعجرفة، حتى لو كان ذلك يعني إهانة الناس وتأجيج المشاكل الدائمة في المستقبل.

لم يكن لدى تسيتسيانوف أي ثقة في نظام التبعية، معتقدًا أن الطريقة الفعالة والوحيدة لضمان بقاءالآسيويينمخلصين هو الغزو والاستيعاب. لذلك، يجادل ياكوف غوردين (Yakov Gordin)، بأن أسلوبه المُنمّق المتعصِّب عند التعامل مع شعوب القوقاز كان محسوبًا لإثارة التمرد، وسيستخدم التمرد كذريعة للغزو العسكري. لقد كان نمطًا سيتكرر تقريبا من قبل جميع خلفاء تسيتسيانوف.505

تميل مجموعات الضباط الروس الذين لديهم نفس الأفكار والمبادئ العنصرية إلى تطبيق وتنفيذ التمييز. كان هناك تشابه منقطع النظير في التصور العام لمفاهيمهم. وفد مارسوا التّنَمُّر لأنهم شعروا بِأنهم مخلوقات متفوقة.

كان بولغاكوف (Bulgakov) من نفس قالب تسيتسيانوف. من المؤمنين الراسخين بتفوق روسيا وازدرائها لشعوب القوقاز. حتى قبل حادثة شهر يونيو/حزيران، عندما استهدف أتاجوكين (Atazhukin) بمضايقته، وأصر على خضوعه للحجر الصحي بعد عودته من قباردا في مارس/آذار. وتبين أن هذا كان إقامة جبرية ضدّه، حيث جُرِّدَ أتاجوكين من سلاحه واحتُجِز حتى طالب بالعودة إلى قباردا في يونيو/حزيران.506

اعتقد المستعمرون أنه يحق لهم إهانة الآخرين، مستشهدين بأهواء وسياسات إمبراطوريتهم دون الالتفات إلى إمكانية رد الفعل العكسي لأفعالهم: ”لهذا السبب لم ير فيريوفكين (Veryovkin) أي مشكلة في السماح لأتاجوكين بعبور خط الحجر الصحي. رأى بولغاكوف (Bulgakov) الأمور بشكل مختلف وأمر فيريوفكين باحتجاز أتاجوكين لمدة عشرين يومًا إضافية، لكن ببساطة، فقد تجاهلاه كلاهما“.507

كشفت التجربة أن الروس لم يكونوا أبدًا أصدقاء حقيقيين للشركس. حيث لم تتحقق الصداقة بينهما. أكد ذلك السلوك العدواني ضد الشركس. فجعلت روسيا الشركس العدو اللدود وانتهكت حرمة وطنهم.

كانت حقيقة الأمر أن القباردي كانوا على وشك الانقراض نتيجة تصرفات حليفهم السابق. وللسيطرة على القباردي بشكل أكثر فعالية والاستعداد للغزو النهائي، قام الروس ببناء قلعة موزدوك (Mozdok) ودعم مستوطنات القوزاق العسكرية في قباردا بدءًا من عام 1763. أدى ذلك إلى تعطيل وتدمير طرق الهجرة التي تعود إلى قرون خلت، والتي كانت ضرورية لبقاء جميع سكان المنطقة.508

قصدت الإمبراطورية الروسية لفترة طويلة إعطاء الانطباع بأنها صديقة لشركيسيا، وخاصة القباردي. لكن اتضح أن ذلك غير صحيح وحتى غير واقعي.

أدى وجود العشرات من القلاع والحصون الأخرى عبر الحدود الشمالية لقباردا إلى ما هو أكثر من مجرد خسارة الأراضيفقد أوجدت تهديدًا وجوديًا لمجتمعات شمال القوقاز، التي اعتمد بقاؤها على الهجرة الحرة لقطعانهم. وبعد رفض التماساتهم مرارًا وتكرارًا، لم يكن أمام القباردي من خيار سوى الرد. والحرب التي نتج عنها دمار مجتمعهم في بداية القرن التاسع عشر.509

لم تتعرض شركيسيا للطموحات الاستعمارية فحسب، بل تعرضت أيضًا للتأثيرات المصاحبة لها، والتي فاقمت التأثير على الأمة. وجد الناس أنفسهم في حرب وكان عليهم الدفاع عن بقائهم وحريتهم واستقلالهم. وتفاقمت الأمراض المعدية بسبب الحصار الجائر الذي فرضته البحرية الروسية على موانئ البحر الأسود، والذي أدى إلى تسريع اجتثاث الأمة واحتلال وطنها.

ومما زاد من خطورة الأزمة وباء، ربما كان الملاريا أو التيفوس الذي ضرب شمال القوقاز في شهر أبريل/نيسان من عام 1804. لقد انتشر بسرعة في جميع أنحاء المنطقة، وكانت منطقة القباردي الأكثر تضررا. فقد مات عشرات الآلاف، من بينهم اثنان من أهم قادتهم، وهما شقيق إسماعيل بي (Esmail-Bey)، عادل غيري (Adil-Girey)، وإسحاق أبيوكه (Ishak Abuke).510

يتبع…

Share Button

اترك تعليقاً