نظرة على الإبادة الجماعية الشركسية / الابتهاج باغتيال الأمة (2) – من كتاب “شركيسيا: ولدت لتكون حرة” للكاتب عادل بشقوي

حضرات القُرّاء الأعزاء،

يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسيا: ولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد

عادل بشقوي


23 نوفمبر/تشرين الثاني 2021

نظرة على الإبادة الجماعية الشركسية

الفصل الرّابع

الابتهاج باغتيال الأمة (2)

PHOTO-2021-11-22-20-21-32

الابتهاج باغتيال الأمة (2)

لم يكن المشروع الاستعماري الروسي بأي حال من الأحوال حدثًا من قبيل الصدفة، بل كان سياسة متعمدة طورها الأباطرة والمسؤولون الروس. ولم يترددوا في تقديم الدعم والتأييد للخطوات التي تم اتخاذها والإجراءات التي كان من المقرر إنجازها.

تم تنفيذ الخطوات من خلال جدول زمني حسب الاحتمالات والظروف التي نشأت من حين لآخر.

يلخص بادلي أيديولوجية إرمولوف بعبارات مماثلة: كانت الفكرة المركزية لإرمولوف هي أن القوقاز بأكمله يجب وينبغي، أن يصبح جزءًا لا يتجزأ من الإمبراطورية الروسية؛ أن وجود دول أو مجتمعات مستقلة أو شبه مستقلة بأي وصف، سواء كانت مسيحية أو مسلمة أو وثنيّة، في الجبال أو في السهول، لا يتوافق مع كرامة وشرف سيده الحاكم، وسلامة ورفاه رعاياه.555

استمرارًا للفقرة السابقة، يمكن القول أن الترتيبات التي تم إعدادها كانت كما لو أن العمل سيتم تنفيذه في صورة عرض لشخص واحد. كان كل من هم تحت إمرته يتْبعون تعليماته لأداء المهمة: ”على هذه الفكرة استندت كامل خطة عمله، وكل إجراء من إجراءاته الإدارية، وكل حركة للقوات تحت قيادته، وحتى النهاية، تم تحديدها بوضوح في ذهنه، حيث أنّهُ كرّس نفسه لها منذ البداية قلبًا وروحًا“.556

أظهرت الخطة الموجزة الهدف الرئيسي والغاية التي يجب اتباعهم. كان من المقرر بدء الاحتلال والقمع وبالتالي تحقيق الضم النهائي للإمبراطورية الروسية بأي ثمن.

بعبارة أخرى، كان هدف إرمولوف هو غزو واستيعاب شعوب القوقاز، وذلك  باستخدام كل سلاح في حوزته.557 

لم تكن شعوب شمال القوقاز ذات فائدة لروسيا، لكنها وقفت فقط كعائق أمام ترحالهم الحر إلى الأراضي المسيحية في جورجيا وأرمينيا. فعلى هذا النحو، كانت الأرض ذات قيمة، لكن لم يكن للناس أنفسهم أية أهمية؛ ومن ثم، يختتم بوتو بتبرير الإبادة الجماعية.558

كانت الوحشية التي استخدمها الغزاة للسيطرة على مناطق وشعوب القوقاز غير مسبوقة في حجمها وحدودها العليا ووحشيتها. قلة من الأفراد قبلوا استخدام أسمائهم وألقابهم كأكباش فداء في تحمل مسؤولية جرائم الحرب. ومع ذلك، فإن المنطق يشير إلى عكس ذلك حيث تتحمل الإمبراطورية، والإمبراطور على وجه الخصوص، المسؤولية الرسمية والقانونية والأخلاقية.

في دراسته الشاملة لغزو روسيا لشمال شرق القوقاز، يشير موشيه قمر (Moshe Gammer) إلى أنإرمولوف كان على ما يُرام ضمن توافق الآراء السائدفي استخدامه للعنف كأداة رئيسية في السيطرة على القوقاز، وأنهإذا تجاوزه، فقد فعل ذلك فقط في شدة إجراءاته، ومقدار القوة التي استخدمها، وفي وحشيته وقسوته“.559

وهكذا، فإن كل من وُصِفوا بأنهم صقور الحرب، كانوا واجهات لسياسات الكراهية الرسمية السوداء. أظهرت الإمبراطورية الروسية استياءً خاصًا تجاه الشركس على وجه الخصوص وشعوب القوقاز الأخرى بشكل عام: ”في واقع الأمر، كان بولغاكوف على الأقل قاسيًا وصارمًا مثل إرمولوف“.560

أدى النفاق والرّياء الإداري إلى تفاقم الفساد في أفرع السلطات. فقد تحمل القادة سيئو السمعة الذين أظهروا ضراوة العمليات الخبيثة  مسؤولياتهم عن جميع الجرائم التي ارتكبت خلال الحرب العدوانية. وقد تم السماح بالعمليات المبالغ في حدّتها وقسوتها ضد السكان الأبرياء الذين كان ذنبهم الوحيد هو تواجدهم في وطنهم.

تكمن أهمية إرمولوف في المكانة التي جلبها لنفسه كبطل في حرب عام 1812. فقد أضفى الشرعية على التكتيكات الهمجية التي أدت إلى إقالة بولغاكوف. وقد أكد عدم وجود أي رد فعل ذي مغزى من قبل الإمبراطور على فظائع إرمولوف، وأكّد للقادة اللاحقين وقواتهم أنه لن يتم معاقبة أي أعمال وحشية.561

يعمل القائد العسكري على تنفيذ التعليمات الصادرة إليه شفهياً أو كتابياً، وذلك لاستيفاء جميع التفاصيل المطلوبة. ولن يكون ما يقلقه المُساءلة أو تحمل أية مسئولية عن أي عمل يتم تنفيذه. هذه وصمة عار ضد روسيا لن تُمحى أبدًا حتى يحصل الشركس على حقوقهم المشروعة.

لا يعني ذلك أن الإمبراطور الِكسندر، وحتى الإمبراطور نيكولاس الأول، لم يحاولوا كبح جماح إرمولوف عندما تجاوزت وحشيته كل حدود الإنسانية. ومع ذلك، فإن اللوم والتوبيخ لم يؤديا إلى نوع التحقيق الذي أنهى مسيرة بولغاكوف المهنية. وفي كثير من الأحيان، تلقّى ضباط إرمولوف تكريمًا لمجازرهم.562

تميل الخطة الروسية إلى تعمد إرباك وإحراج المسائل الاجتماعية وجعلها أكثر تعقيدًا. يقع السكان الأصليون في ظروف غير عادية أجبرتهم على الاختيار بين خيارين مريرين (أحلاهُما مرُّ) عندما يتعلق الأمر بالتقاليد، خاصة عندما يكونوا ملزمين بقبول تطبيق قوانينهم القومية والامتثال للإجراءات القبلية.

بدأ صِدام إرمولوف مع قباردا في أوائل مايو/أيار 1818، عندما هاجم خمسة من القباردي الخط الفاصل، وبعد ذلك لجأوا إلى قرية ترام (Tram)، على بعد حوالي سبعة أميال من حصن كوستانتينوغورسكايا (Fort Kostantinogorskaya). أُمر القرويون بتسليم المجموعة، وهو ما ينتهك بالطبع تقاليد الضيافة. وعندما أُبلغ إرمولوف برفض القرويين التقيد بذلك، أمر بإبادة القرية عن بكرة أبيها.563

احتوت خططهم على قدر كبير من الجبن والغدر. كما أنها احتوت على الإساءة والتدمير والقتل والذبح وكل ما يخالف ما يرضي عقل الإنسان. تم تطبيق تكتيكاتهم وفقًا لإجراءات العمل الموحّدة القمعية والمتعارف عليها، المقبولة بموجب قوانينهم ومعاييرهم، كما لو أن جنودهم ومرتزقتهم يتم إطلاعهم عادةً على هذه الأساليب.

أحاط الروس بالقرية ليلاً، وطردوا جميع السكان وهم يرتدون القمصان فقط على أبدانهم، وأحرقوا القرية، وسلبوا كل الماشية ووزعوها على القوزاق. بعد ذلك، حذر إرمولوف القباردي من أنهذه المرة اقتصرت على [قرية ترام]: لكن في المستقبل، لن أبدي أي رحمة لقُطّاع الطُّرُق المُدانين: وسيتم إبادة قراهم، والاستيلاء على ممتلكاتهم، وذبح زوجاتهم وأطفالهم“.564

عندما كان الشركس يتعرضون للهجوم، كان من الطبيعي أنهم يميلون إلى الإشارة إلى مواردهم الخاصة. اجتمعوا في محاولة لاغتنام الفرصة لاستمرار المقاومة البطولية ضد المعتدين. لم يكن لدى المهاجمين في مشروعهم سوى الرغبة في تحقيق النصر باستخدام كل وسيلة دنيئة وحقيرة.

كانت استجابة القرويين متوقعة: لقد استعدوا للانضمام إلى الشركس الغربيين وشن غارات انتقامية. تبع ذلك سلسلة من الرسائل من إرمولوف إلى كبير الزعماء كوتشوك جانخوت (pshi Tkhamade Kuchuk Janhote)  والتي تكشف فشل إرمولوف (أو رفضه) لفهم وجهة نظر القباردي. وفي رسالته الأولى، المكتوبة في يونيو/حزيران 1818، استعان إرمولوف بنبرة عدوانية.565

استخدمت القوات الروسية القوة المفرطة وغير المتناسبة أثناء ارتكاب الإبادة الجماعية. كان القتل غير المشروع متعمدًا مع سبق الإصرار، والّذي لم يكن القتل الأول ولا الأخير من بين هذه الجرائم. اللغة المشينة والمهينة التي استخدمها أحد القادة والجنرالات القياصرة ضد الشركس توشي بالكثير.

لقد أمرت [بتدمير ترام] حيث قمت بتحذيرك من أنه بعد أكثر من عام ونصف من إنغماس شعب القباردي في الأفعال الشنيعة والشائنة، انتظرت عبثًا أن يدرك الأمراء مدى حقهم في خيانة تعهدهم بالولاء، الذي قدموه بحرية، وبعد أن سئمت من تحمل هذه الإهانة للسلطات التي تمثل إمبراطورنا العظيم، فإنّي سأستخدم الآن أساليب مختلفة تمامًا عما لدي حتى الآن.566

من الواضح أن هذا صراخ وتهديد وسب وشتم مع سبق الإصرار. وفي الوقت نفسه، سمح الزعيم المصاب بخيبة الأمل لنفسه مواصلة الإساءة إلى الناس بالانتقام المجنون. ونتيجة لذلك، أراد الجيش القيصري الهمجي القضاء على الشعب وعلى وطنه.

يجدر ذكر ملاحظة بشأنالتزام الولاء“. فكلما كانت هناك مناوشة، أصر الروس على القباردي الذين يُعتقد أنهم متورطون، بأن يقدِّموا مثل هذا التعهدونظرًا لأنهم كانوا كثيرين جدًا بحيث يتعذر تتبعهم، لكن بحلول عهد إرمولوف، لم يكن بمقدور القباردي إلا أن ينظروا إليهم على أنهم إجراء شكليا لا معنى له لإنهاء الأعمال العدائية الروسية، وفي أحسن الأحوال أقرب إلى الهدنة. ومع ذلك، فقد عملوا بشكل جيد مع الروس.567

حتى أن عقلية الروس أرادت تغيير قواعد الطبيعة. يبدو الأمر كما لو أنه سُمح للروس بفعل أي شيء يرغبون، بينما لم يُسمح للشركس باتخاذ أي إجراءات كرد فعل أو دفاع عن النفس، حتى على أرض وطنهم، وحتى عندما يجدون أنفسهم مجبرين على الرد على هجوم روسي ضاري.

تكثفت الهجمات ضدهم وضد مستوطناتهم وممتلكاتهم المعتادة في ذلك الوقت: ”ويمكن وصف أي عمل عدائي من قبل الشركس بأنه انتهاك لأحد {الالتزامات} التي لا تعد ولا تحصى ويتم استخدامه كمبرر {لحملة تأديبية}. على أي حال، بنهاية يونيو/حزيران كان هناك تمرد على مستوى البلاد في قباردا، وهكذا في أوائل يوليو/تموز كتب إرمولوف لجانخوت مرة أخرى“.568

إنه من السخافة بمكان أن يملي شخص مسعور قواعد اللعبة نيابة عن إمبراطوريته. ان تقلده المنصب الرسمي للقائد العام في القوقاز قد أهّله ليشبع رغبته في أطْلاق تهديده الواضح. كان هذا تأكيدًا على أنه سيطبق نظرياته وسياساته وفقًالِقبضته الحديديةوإجراءاته الهمجية. كان القصد مهاجمة قرى الشركس حتى يعانوا ويفقدوا أرواحهم.

بعد دفع سكان قرية ترام إلى الغابات والتهديد بإبادة قراهم وذبح أطفالهم، من الصعب رؤية كيف يمكن للقباردي أن يثقوا بِإرمولوف عندما وعد الآن بأنهليس لديه أي أفكار للتسبب في أي ضرر من أي نوع لشعب القباردي“. ليس من المستغرب أن القباردي لم يكونوا متأثرين واستمروا في استعداداتهم للهجرة إلى غرب شركيسيا. في أواخر أغسطس/آب كتب إرمولوف لِجانخوت مرة أخرى، لكن الآن بنمط وكأنّهُ تقريبًا بين زملاء.569

يتبع…

Share Button

اترك تعليقاً