نظرة على الإبادة الجماعية الشركسية / التطورات فرضت نفسها على الساحة الدولية (2) – من كتاب “شركيسيا: ولدت لتكون حرة” للكاتب عادل بشقوي

حضرات القُرّاء الأعزاء،

يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسيا: ولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد

عادل بشقوي


11 يناير/كانون الثاني 2021

نظرة على الإبادة الجماعية الشركسية

الفصل الرّابع

التطورات فرضت نفسها على الساحة الدولية (2)

PHOTO-2022-01-10-12-01-52

واعترف بذلك بعض الإتِّحاديين المتطرفين مثل طلعت باشا (Tala’at Pasha) رغم زعمه أن إبعاد الأرمن لم يتم وفق مخطط مع سبق الإصرار. وجدت القيادة العليا المشتركة للألمان والعثمانيين أنه من الضروري لأسباب استراتيجية نقل الأرمن من حدود القوقاز. في البداية أرادوا نقلهم إلى خط يبعد ثلاثين كيلومترًا عن حدود القوى المعادية، حيث من المعروف أن الأرمن كانوا على الحدود الروسية ويميلون إلى روسيا. وهكذا شكلوا خطرا جسيما على تركيا.726

الغوغائية والفوضى السياسية تدمر حاضر ومستقبل أي دولة، مهما كانت هذه الدولة كبيرة أو صغيرة. وسيؤدي التمييز العنصري والديني في النهاية إلى تصدع هيكل الدولة، وفي النهاية إلى الانهيار التام. وهذا يدل على ضيق الأفق لتلك القوى التي تنفث السموم والخلاف والانقسام في المجتمع ويظهر ذلك بجلاء. وهذا يؤدي إلى نشوب صراعات بين المجموعات العرقية المختلفة في الدولة. إن إلقاء اللوم على الآخرين لا يحل أي مشاكل. يجب تحقيق العدالة والإنصاف.

أدّعى طلعت باشا نفسه أن الأرمن أنفسهم هم الملامون لأنهم بذلوا كل جهودهم لمساعدة الجيش الروسي بطريقة كانت تحوم فيها عصابات الأرمن الخارجين عن القانون حول الجيش التركي ومضايقة مؤخرة الجيش من أجل تمكين الروس أن يُلحقوا به خسائر. وذكر طلعت باشا أنه بعد التحقيق تبين أن الكنائس الأرمنية في المقاطعات الشرقية كانت عبارة عن مستودعات للذخيرة والإمدادات“.727

أثبتت التجربة أن توجيه الاتهامات عشوائياً دون سبب قانوني مبرر من شأنه أن يخلق جواً من المشاحنات والاتهامات التي لا تستند إلى أسس سليمة. إن العداء المفرط يؤدي إلى فرض اتهامات غير مثبتة.

وتابع طلعت باشا: ”علاوة على ذلك، تسبب الأرمن بأعمالهم العدائية في مقتل أكثر من ربع مليون تركي مسلم وآخرين. فقد عطّلوا الاتصالات بين الجيش التركي في ساحة المعركة ومقره في القوقاز. كما زعم أن الترحيل تم لمجرد حماية العرش والوطن“.728

وأعلن وكشف كذلك بأن الفوضى الإدارية والعملياتية سادت بين القوات والوحدات العسكرية وشبه العسكرية. لقد نفذوا الأوامر بالمشاركة والتآمر مع الجماعات والأفراد المعينين. وقد ساهم أولئك الذين ارتكبوا المذابح والترحيل القسري، تنظيمياً وفردياً، في زيادة الانتهاكات ضد المدنيين الأرمن. وتم اقتياد الأبرياء إلى حيث قررت الدوائر الرسمية العليا.

كما اعترف بأن الترحيل لا يتم دائما وفقا للأنظمة المعمول بها وبما يتعلق بمبادئ إنسانية، بينما أساء عدد من كبار المسؤولين استخدام سلطتهم وخرجوا عن مبادئ العدالة، مما ألحق ضررا بالعديد من الأبرياء.729

وشدد الكاتب شوكت المفتي على حقيقة أن الشركس لم يكونوا جزءًا من خطة تنفيذالإبادة الجماعيةضد الأرمن. كما أشار إلى أوجه التشابه بين الشركس والأرمن فيما يتعلق بأصلهم ومصيرهم.

هذا ما اعترف به طلعت باشا نفسه، لكن الشركس لم يشاركوا في الأعمال العدائية الموجهة ضد الأرمن. العديد من الضباط والمسؤولين الشركس رفيعي المستوى الذين اتُّهِموا بسبب مناصبهم، بتنفيذ مثل هذه الأعمال، كانوا يتجنبون تنفيذها قدر الإمكان، فبالإضافة إلى الاعتبارات الإنسانية، كان الشركس يعتبرون الأرمن، على الرغم من الاختلاف في معتقداتهم الدينية، أخوة وأقارب في القوميّة، وباعتبارهم قوقازيين أيضًا. وبالتالي فهم أبرياء في هذا الشأن.730

كل الدلائل تشير إلى أن العامل (المؤثِّر) الروسي كان يؤجج ويؤثر على الجرائم المؤسفة التي ارتُكبت في ذلك الوقت. وقد ساهم في إجمال الوضع. وفي حالات معينة، بدت الأحداث وكأنها أحداث منظمة ومنسقة. وذلك يشير إلى أن رغبة روسيا في السيطرة على المزيد من مناطق النفوذ في الدّاعي والدافع لما حصل، ما أدّى إلى اندلاع صراعات ونزاعات تطوّرت إلى وقوع أحداث مؤسفة.

حدثت مجازر الأرمن في عام 1915 نتيجة الانتصارات التي حققها الروس في جبهات القوقاز في بداية الحرب العالمية الأولى، وبدأت في القرى والمستوطنات الأرمينية التي ساعدت الروس في تقدمهم في الأراضي التركية، وقدموا لهم الرجال والأسلحة والإمدادات.731

الكراهية العميقة للاتحاديين لا حدود لها. لقد استمروا في تنفيذ سياساتهم المتطرفة والقوانين التي تمارس ضد جميع الأقليات العرقية. لقد قاموا أحيانًا بتغيير إجراءاتهم وأولوياتهم بسبب الظروف المحيطة المختلفة. كما تغيرت درجة الانتهاكات في الأوقات التي تم فيها اكتشاف تأثير أجنبي مباشر على البلاد، مما سيكون له تأثير على جميع الأقليات.

خلال الحرب العالمية الأولى ازدادت الدعاية وبلغت حدتها القصوى. اعتاد أولئك الذين عارضوا الإتّحاديين وكان لديهم كذلك ضغينة ضد الشركس، أن يقولوا لهم: ”انتظروا قليلاً، سنراكم بعد ذلك بقليل. عندما ينتهي الإتحاديّين من المقاطعات الشرقية، سيأتي دوركم على الفور!“732

أولئك الذين كان من المفترض أن يحافظوا على القانون والنظام، كانوا هم أنفسهم الخارجون عن القانون. مثل هذه الإجراءات تمنع المواطنين من الشعور بالطمأنينة والأمان. وهذا يزيد من حجم الفجوة والحاجز بين القوميات والأعراق المختلفة وبالتالي يفاقم العلاقات وروابط الثقة بينها.

كان الإجراء المتبع في تلك المجازر هو أولاً ترحيل مجموعات من الأرمن غير المسلحين في قوافل. وهم في طريقهم إلى المنفى يُهاجَموا من قبل عصابات من الخارجين عن القانون تم اختيارهم بعناية وتكليفهم بمهاجمتهم. في معظم الحالات، كان هؤلاء الخارجين عن القانون والمارقين عبارة عن عصابات مقنعة من الألبان والأكراد والأتراك من قوات الدرك. تمكن العديد من الأرمن من الفرار، وأنقذوا أنفسهم من مصير مأساوي ولجأوا إلى سوريا والبلدان الأخرى التي عاملتهم شعوبها بكرم ومكّنتهم من العيش بأمان واطمئنان.733

تفاخر مسؤول عثماني بارز سابق بمعاملة الأرمن والتعامل معهم في عام 1915، الأمر الذي جعله يواجه مصيرًا محزنًا: إناعترافات طلعت باشا، بإلقاء اللوم على الأرمن، لم تنفعه شيئا، حيث اغتيل على يد بعض الكوماندوز الأرمن في أحد شوارع برلين بعد الحرب“.734

صحيح أنه في بعض الأحيان قد تلعب هذه المصادفة أو القرب الجغرافي دورًا في أولويات القوة الإمبريالية. لكن في معظم الحالات، كان الجشع والتوسع الاستعماريين بالإضافة إلى الأسباب الاقتصادية والسياسية والجغرافية الأخرى، هي الأسباب الحقيقية للاحتلال والاستعمار. هذا بغض النظر عن أصل ودين القوميات المظلومة. وقد يبدو الأصل والدين غير مهمين في بعض الأحيان، لكنهما سيبدوان مهمين في جميع الحالات الأخرى. مثال على ذلك هو كافّة الأمم المسيحيّة التي أخضعتها واستعمرتها روسيا.

جدير بالذكر أن مصائب الأرمن والجورجيين حدثت لأنهم كانوا جيران للمسلمين الأتراك والإيرانيين. وبالمثل، تعرض الشركس لمضايقات من قبل جيرانهم الروس بعد أن اعتنقوا الإسلام. وينطبق ذلك على المرحلة الأخيرة من الحروب الروسيّةالقفقاسية، لكنه لا ينطبق خلال النصف الأول من تلك الحروب، حيث كان الشركس في غرب القفقاس لا يزالون مسيحيّين.735

لا تقتصر أهداف الاستعمار على احتلال الأرض والاستيلاء عليها فحسب، بل التعامل مع الموضوع بغطرسة وحسب الأهواء، للتخلص من السكان الأصليين أو لتهميشهم، حسب الظروف التي أوجدها الاحتلال. في الوقت نفسه، من الممكن الملاحظة بأن السلطات الاستعمارية والسلطوية تتصرف بأساليب همجيّة مماثلة ضد الشعوب الأصلية. فالعامل المشترك بين هذه القُوَى هو استخدام القوة المفرطة وتنفيذ الخطط الانتهازية وغير الإنسانية.

لم يحميهم ذلك من الأعمال العدائية الروسية التي استهدفت احتلال أوطانهم بكل الوسائل الممكنة من أجل حماية حدودهم الجنوبية وتعزيزها. إن تصرفات القياصرة الروس ضد الشركس، الذين طُرِدوا من أوطانهم، مماثلة لتلك التي ارتكبها الأتراك ضد الأرمن، كما ذكرنا آنفًا.736

لاحظ أدولف هتلر بشكل مُعيب واعتقد بأنّه يُمْكِن أن يفلت من عقاب قتل يهود أوروبا لأنهلم يعد أحد يتحدث عن الأرمنوالطريقة التي قُتلوا بها في عام 1915 في الإمبراطورية العثمانية. وقال إنه إذا نسي العالم ذلك، فسوف ينسى قريبًا أفعاله ضد اليهود.737

 وقد أحصى بعض المآسي التي تمّت مناقشتها أو نسيانها لعوامل وأسباب متعددة. نأمل ألا يتم تجاهل القضيّة الشّركسيّة والإبادة الجماعية الملتصقة بها: ”لحسن الحظ بالنسبة للعالم، لم ينس أحد أو يغفر محرقة هتلر؛ وبفضل نشاط الأرمن في جميع أنحاء العالم، ما زال بعض الناس يتحدثون عما حدث في عام 1915“.738

الاستبداد والهولودومور (Holodomor) الأوكراني

كانت الأعمال الوحشية المتعمدة والتّجويع غير الإنساني وإحداث المجاعة هي الظروف التي عاشها الأوكرانيون. لقد تحمّلوا غيضًا من فيض. كان ستالين يريد أن ينتزع أوكرانيا بالكامل ويهدف إلى تغيير طابعها القومي. ولم يتم التعرف على تلك الإبادة الجماعية بعد.

ضحايا هجوم ستالين القاتل بالمجاعة على الشعب الأوكراني الذي أودى بحياة ما يصل إلى عشرة ملايين نسمة، أدّى عمداً إلى إضفاء الطابع الروسي على أوكرانيا، وبالتالي مهّد الطريق للعديد من مشاكل اليوم هناك.739

يتبع…

Share Button

اترك تعليقاً