يوم العائدين في مايكوب

3aug

بتاريخ الاول من اب الجاري تم الاحتفال بيوم العائدين في ساحة المتحف الوطني في عاصمة جمهورية الاديغية مايكوب وبحضور اكثر من ثلاثة الاف شخص غصت بهم ساحة المتحف الخارجية بالاضافة الى اعداد ضخمة اخرى لم تتمكن من حضور فعاليات الاحتفال في ساحة المتحف وتابعوا الفعاليات من خلال الشاشات العرض الضخمة التي عرضت على احد الاسوار الجانبية للمتحف، مراسيم الاحتفالات تميزت هذه السنة بوجود اعداد ضخمة  من باقات الورود والزهور التي وضعت تخليداّ لذكرى ضحايا الحروب الروسية/ الشركسية، وسط حضور شعبي ورسمي كثيف خاصة وان يوم العائدين يعتبر عطلة رسمية في الجمهورية، ابرز الشخصيات الرسمية التي حضرت كان رئيس وزراء الجمهورية السيد مراد كومبيلوف (والذي كان قد احتجز قبل اسابيع من قبل حراس المحميات الطبيعية الروسية بسبب اسمه الشركسي)والناطق الرسمي باسم البرلمان السيد فيشسلاف سابييف، حيث اشاروا الى ما يمثله هذا اليوم من رمزية بالنسبة للشعب الشركسي وان عملية العودة للمهاجرين الشراكسة اعتبرت فريدة ورائدة من نوعها، وتحدثوا عن ما تم تقديمه الى العائدين من متابعة للشؤونهم وغيرها، ووعدوا بان حكومة الجمهورية ستقوم بتقديم المزيد من الدعم للعائدين في المستقبل اول رئيس لجمهورية الاديغية السابق السيد اصلان جاريموف كان حاضراً للاحتفال والقى كلمة استعرض فيها عودة شراكسة كوسوفو الى ارض الوطن الام ابان فترة رئاسته مشيراً الى ان هذا الامر ما كان ليتم لولا دعم الحكومة الفدرالية الروسية للموضوع، وان روسيا قد دعمت من حضورها على الساحة الدولية واكتسبت تقدير واحترام دول العالم لقيامها بهذا العمل، خاصة ان قرار عودة شراكسة كوسوفو كان قد دعم من نفس أولئك الذين قاموا بطردهم وتهجيرهم سابقاً من ارضهم،اما السيد رئيس الخاسة في جمهورية الاديغية(الجمعية الشركسية) ارامبي حابي فقد ذكر في كلمته التي القاها انه رغم ما تحمله هذه المناسبة من تفاؤل الا انه في الاديغية العديد من الاجانب الذين اتوا من اوطانهم لانهم يعيشون في الاديغية حياة افضل من وطنهم الاصلي، وان على الاديغية (الشراكسة)العودة الى وطنهم الام وان السؤال المتعلق بعودة الشراكسة يجب ان لا يقتصر على جمهورية او اكثر بل على العديد من المناطق التي هجروا وطردوا منها، متمنياً الاسراع في تنشيط والعمل على موضوع العودة والاسراع في ارجاعهم الى جمهورية واحدة. رئيس المنظمة المدنية المسمى(بيت العائدين) السيد يحي ستاش وفي كلمته اشار الى ان هذه السنة وبشكل خاص فانه تم تسجيل حوالي(40) عائداً من الشراكسة وتقدموا بطلب الحصول على الجنسية الروسية وقدمت ارواقهم للغاية اعلاه، وان يتوقع ان يتم استقبال 50 شخص من شراكسة المهجر التركي و20من شراكسة المهجر السوري في المستقبل القريب.وان ليس هناك اي مشاكل في التسجيل لكن المشكلة تكمن في مكان الاقامة حيث ان معظم العائدين يتم توجيهم الى المناطق التي اعدت بشكل طارئ لاستقبال شراكسة كوسوفو وان هذه المناطق قد امتلئت ابنيتها وبالتالي فان هذا الامر يشكل عائقاً كبيراً ولذلك فقد دعا السلطات الرسمية الى ضرورة النتحرك وايجاد قرى ومساكن جديدة للعائدين على غرار قرية ماف حابلة التي اقيمت لاستقبال العائدين من كوسوفو والتي اغلقت قدرتها الاستيعابية  ،وحضر الاحتفال ممثلين عن المنظمات المدنية الاخرى من تتار وارمن واكراد وغنت بعض الاغاني التترية والروسية واستمر الاحتفال حتى منتصف الليل.

ان اهم ما لوحظ في الاحتفال هو قيام السلطة الروسية بمحاولة تشويه معناه عندما اعتبرت الاجانب المقيميين في الجمهورية من العائدين ايضاً في مشهد ليس غريب على السلطات الروسية التي تعمل جاهدة على تشويه وتزوير تاريخ المنطقة الشركسية فقامت بدعوى الاجانب من اكراد وارمن وغيرهم للمشاركة في الاحتفال وذلك في محاولة لاعطاء صورة غير صحيحة عن هذا اليوم الذي يعنى بالعائدين الشراكسة فقط لا غير، الا ان التصدي الشركسي لهذا الامر كان ملفتاً للنظر ، فتم تكثيف الحضور الشركسي ليكون بالالاف للتأكيد على اهمية هذا اليوم الرمزية للشعب الشركسي وان هذا الاحتفال هو من اجل العائدين الشراكسة فقط، وتم الربط ما بينه وبين الحرب الروسية الشركسية فوضعت الاف باقات الزهور على ارواح الشهداء الشراكسة امام المتحف الوطني والذي اختير عن قصد للاحتفال في ساحته، وذلك من اجل التاكيد على ان ماساة المهجرين والعائدين السبب فيها الغزو والاحتلال الروسي ل” لشركيسيا” وهو امر لم يكن يشار اليه سابقاً، وعملت المنظمات الشركسية على حصر الكلمات الملقاة من قبل الشخصيات الشركسية فقط وتم حضور الاحتفال من قبل العديد من الشخصيات الرسمية من قبل حكومة الجمهورية وذلك لمنح الاحتفال  الصبغة الشعبية والرسمية لجميع الاوساط الشركسية وان ابناء الشعب الشركسي كلهم يقفون بخندق واحد داعم لفكرة العودة من قبل اشقائهم المهجرين، وقد تكون مضامين الكلمات التي القيت تعكس حقيقة توجهات المجتمع الشركسي ، السيد اصلان جاريموف رئيس الجمهورية السابق تحدث عن موضوع العودة بحنكة سياسية مميزة، فلقد اثنى على التحرك الروسي اثناء ازمة شراكسة كوسوفو الا انه اشار الى الفوائد الجمة التي حصلت عليها موسكو في المقابل ، فلقد حظيت وقتها باحترام وتقدير دولي واسع سواء من الغرب او الشرق،وهو امر تلهث وراءه حالياُ، موضوع اخر لفت اليه الانتباه السيد جاريموف ولكن بصورة ذكية عندما ذكر بشكل غير مباشر ان ما قمت به موسكو في قضية شراكسة كوسوفو هو اقل ما يمكن عمله من قبل من قام بتهجير وطرد الشراكسة الى خارج وطنهم الام اصلاً في اشارة واضحة الى ان الروس عليهم تحمل مسئولية ما اقترفته ايديهم بحق الشراكسة وانهم الجهة المعنية الاولى في العمل لايجاد حل للقضية الشركسية، اما كلمة السيد ارامبي حابي فقد اعادت التذكير بمشروع شركيسيا الكبرى بعد ان تعرض لانتقادات واسعة لعدم ذكر الموضوع في مؤتمر الخاسة الاخير، الا ان السيد حابي اشار وبكل وضوح الى رغبة الشراكسة في اعادة اشقائهم من المهجر وبناء دولة شركسية موحدة، كل هذه التحركات الشركسية في يوم العائدين تعكس حقيقة المطالب الشركسية التي تصر على اعادة شركيسيا الى الحياة واعادة الشراكسة المهجرين والعمل من اجل ذلك، في ظل السياسات الروسية العقيمة للتفتيت الارادة الشركسية وتحطيم القومية الشركسية بتزوير التاريخ الشركسي  بكافة الطرق والتضييق على الشراكسة قدر الامكان لخنق احلامهم وطموحاتهم ، ولو وجد انسان عاقل ومتزن واحد من اصحاب القرار الروس، للاحظ على الفور استحالة تحقيق الانتصار التام على القومية الشركسية ، تلك القومية التي ما تزال رغم مرور 144 عاماً على ماساتها ما تزال تنبض بالحياة وخير دليل على ذلك سعي ابناءها رغم قلة حيلتهم وهوانهم ان يعيدوا شركيسيا للحياة مجدداً، لقد كان الاحتفال بيوم العائدين هذه السنة مميزاً للغاية لاته شكل فرصة للشراكسة للتعبير عن تتطلعاتهم واحلامهم وحاز على تغطية اعلامية واهتمام كبير سواء من الشراكسة او غيرهم، وقد تكون المقالات الاجنبية العديدة التي نشرت حول هذا اليوم وابرزها مقال السيد بول جوبل على موقع نافذة على اوراسيا خير دليل على تمييز هذا السنة عن سابقاتها.

 

أخبار شركيسيا

Share Button

..دروب: قيثار سومري لاغنية شركسية

gui

قيثار سومري لاغنية شركسية ..

  نعيم عبد مهلهل 01 نوفمبر 2006

((الى بريهان بير قدار . يدفعنا هاجس قوقازي لنتأمل فيه سحر الشعر الذي يسكن روحك . ويرمينا قدر الحلم المطعم باشتاق شركسي لمصافحة الغيوم ، ولاجل هذا اردناك نسمة هواء تعبر المحيط لتدلنا على الطريق الذي يوصلنا الى الغيمة ..))

1
من دواعي سروري إني اعطيت الريح نقودي سلفا . وبإفلاسي صنعت رموشا لعينيك ، مظلة عن مطر سيبلل خواطرك بالحزن لانك بعيدة عن قوقازيا .
ليت للوردة لسان لتقول لك . ان حدائق الشراكسة في الجنوب السومري كانت اكثر من حدائق والي الاستانة .
وان العصفور الشركسي كان هناك مثل تحفة اثرية . وان الهوى في مهب الحبيب ، بيتا شعريا تطلقه رئة النخلة ، وان الجمال ،سيبكي محال دون ابتسامة قصيدتك .
في الفضاء الازرق . بهجتك رغيف خبز . قصائدك الموسيقى كلها . وحنانك دفتر انشاء . اكتب فيه خاطرة العولمة ، واتسائل أن كانت كل بريهان نجمة .؟
قلبك البحر . رمشك الاخوة . اصبعك الحبر . ودموعك . بئر في لوتفال ، قرية في اوديسا ولد قربها اجمل شاعر شركسي .
إنها لحظة . الغور فيها عطر طريق ، والنسمة فيها حقيبة مدرسة .وانت مثل شريط ظفائر ، ازرق ويعلم شمس الصباح معنى الغناء .
ستبتسمين . البسمة تصبح حبة جوز ، نقشرها بنسمة اشعارك . اللب من اروحنا . نحن البشر . السلام الذي فينا ، ان نكون واحدا رغم القارات . لهذا اتمناك بريهان جغرافيا .
تضحك سنبلة .
يبكي خنجر .
ناي يصدح في الليل القوقازي .
دمع يرقص في الليل الشامي .
امنية تلبس تنورة .
قصيدة تغطي برد كل هؤلاء بالمعاطف وسوية تقضون الليل فوق قاسيون ..

2

الرؤية إننا نرى .
والحلم . إننا نحلم .
والمواطنة إننا نتمي الى وطن .
وحده الجبلي ، لاينتمي الى جبل ، إنما السماء له .
ولانهم جبليون .
الشراكسة اصدقاء السماء .
غير إنك في رسالة اخيرة . اضفت شيئا اخرا وقلت : واصدقاء العشب ايضا .
امي تقول : من يصادق العشب لايجني الخضرة فقط .
بل روح متصوف .

3

هناك .
حيث يدرك شجنك وجد الشعر ، وتغلسين ظفائر الليل بالقصائد ونحيب القيثارات
هناك حيث يشتريك حب الانسان من مقاه المرجة والجزمتية والرابية وباب توما .
يحتفي بك طيف المكان .
رائقة كما عصفور يرتدي قبعة من الفرو
وجميلة كما لوحة لماتيس .
الوانها الشام
وعطرها الجمهوريات المستقلة .
ستبتسمين .
الابتسامة تصير وترا ثامنا في عود منير بشير .

4

قيثار سومري لاغنية شركسية .
هوذا الشعر .
سيدة بريهان .
يجلب الحضارات كلها الى حدائق عينيك
يجعلنا نتأمل البوح في الروح .
ويدعونا الى اقداح شاي اخضر .
ستاتي عشتار ، والهة بابل ، وصناع اساطير الشركس كلهم .
وكل واحد منهم . سيقلد مشيتي اليك وبيده باقة ورد

بلودان 25 تشرين اول 2006

http://www.doroob.com/?p=12118

Share Button

((السلطان الشركسي الظاهر برقوق))

 

((السلطان الشركسي الظاهر برقوق))

لا ينكر باحث منصف تلك الفترات البطولية الرائعة الحافلة بالانتصارات العسكرية الباهرة التي حققها السلاطين العظام في عصور أُطلق عليها ظلماً اسم عصور المماليك ، ولا يستطيع كذلك أحد أن ينكر أن عصر الفتوحات الإسلامية العظيم الذي انتهى منذ أمد بعيد ، قد استعاد بعضاً من ومضاته العسكرية التليدة على أيدي هؤلاء السلاطين الكبار بكل المقاييس ، ولا يستطيع أيضاً أن ينكر أن العالم العربي قد استعاد في أيامهم بعضاً من ومضاته الحضارية الذهبية ، وبعضاً من هيبته التي افتقدها إبّان الغزو الصليبي الاستيطاني الإحلالي ، الذي قذفت أوربا خلاله بأكثر من مليون محارب ، في أكثر من مائة حملة عسكرية كبيرة وصغيرة طيلة أكثر من قرنين من الزمان بغية تحقيق أهداف دينية وسياسية واقتصادية واستراتيجية ، كادت تؤتي ثمارها كأينع ما تكون لولا قضاء هؤلاء السلاطين العظام على هذا الواقع الأليم ، بجهادهم وجهودهم المتواصلة التي لم تعرف الكلل ولا الملل .

ولم نعرف حتى الآن أن تاريخاً ما هوجم بمثل العنف الذي هوجم به التاريخ الإسلامي بشكل عام وتاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام بشكل خاص فقد اتخذ هذا الهجوم المركّز شكل التزوير والكذب ودس الروايات المزورة إلى المصادر والمراجع التي يؤخذ منها تاريخنا .والسبب في تحامل المؤرخين والمستشرقين الأجانب ولاسيَّما الأوربيين منهم على تاريخ المماليك واضح جداً . إن المماليك هم الذين كنسوا الصليبيين من الشرق العربي ، وهم الذين حافظوا على استقلال الشرق وعلى تراثه وحضارته العربية الإسلامية وذلك بصدهم كل الحملات الصليبية ومعاقبتهم كل من تعاون من أهل البلاد مع الصليبيين ، بالإضافة لصدهم هجمات المغول والتتار المتتالية .

والخلاصة أن المماليك قاموا بتطهير البلاد العربية من الصليبيين ومن أعوانهم وعملائهم في المنطقة .

إذاً : أليس من الطبيعي أن يقوم المؤرخون الأوربيون الذين هم أحفاد هؤلاء الصليبيين الذين منعوا من تحقيق أحلامهم وطردوا من الشرق الإسلامي على يد المماليك بالتحامل عليهم والتجني على آثارهم التاريخية و منجزاتهم الحضارية ؟ والجواب طبعاً نعم ، والعكس هو أمر غير طبيعي ولاسيما أن الأوربيين عندما قاموا بكتابة التاريخ الإسلامي ، فإنهم فعلوا ذلك لتسخير التاريخ لغاياتهم السياسية وليس من أجل الوصول إلى الحقائق التاريخية وما زالت المنظمات التبشيرية المتطرفة والتي تعود في جذورها إلى الحروب الصليبية تستمر حتى الآن في مهاجمة الشراكسة في مواقعها المختلفة على صفحات الإنترنيت وتُظهر مدى خطر الشراكسة عليهم بالرغم من تشتت الشراكسة في أكثر من أربعين بلداً بعد الإحتلال الصليبي الروسي لبلادهم في عام 1864م .

ومن المعلوم أن العالم العربي تخلص من بعض الصليبيات بفضل السلطان صلاح الدين الأيوبي وبعض قادته من الشراكسة الذين أحرزوا الانتصارات التي بهرت العالم آنذاك ، فإذا علمنا أن رئيس الفرقة الأسدية في الدولة الأيوبية هو أياز كوج القفقاسي ، كما أن رئيس الفرقة الصلاحية فخر الدين أياز الجركسي القفقاسي أيضاً ، علمنا مقدار إسهام الشراكسة في المشرق العربي في تلك المرحلة التاريخية وخاصة بعد علمنا بأن عدد الشراكسة والأتراك هو اثني عشر ألفاً في جيش صلاح الدين الأيوبي (1) وكانوا من المماليك السلطانية : وهم أعظم الأجناد شأناً ومنزلةً عند السلطان صلاح الدين وأوفرهم إقطاعاً واغلب هؤلاء من الترك والكرد والشركس(2) .

وما كاد العالم العربي يلتقط أنفاسه ،حتى دُهم من الشرق بالمغوليات أسوأ الموجات العسكرية البربرية الملحدة التي شهدها تاريخ العصور الوسطى التي اجتاحت العالم العربي الممزق ، وكان الدمار كل الدمار يمشي في ركاب هذه المغوليات التي كانت تطمح إلى تدمير أوربا ذاتها لولا قُطز وبيبرس (الشركسي)في عين جالوت ، إحدى أهم المعارك الفاصلة في التاريخ الوسيط التي وقف عندها هذا الطوفان المغولي المدمر لأول مرة ، فحفظت على الإسلام أرضه ومعتقده وتراثه وحضارته ، واستعادت بلاد الشام ، وحمت مصر من الدمار المحقق الذي لحق ببغداد والشام وقضت على آمال المغول في أوربا ، واستعادت للعالم العربي شيئاً من مكانته العالمية ، وتحققت في إثرها عظمة دولة (المماليك)، وخاصة بعد معركة حمص ومعركة شقحب حيث غير المماليك البرجية (الشركسية) مجرى المعركة التي بدأت بخسارة كبيرة  لأحد مجنبات الجيش الإسلامي وكادت أن تنتهي بالهزيمة الكاملة لولا أن صَدَم القائد الشركسي بيبرس الجاشنكيري (الذي أصبح فيما بعد سلطاناُ) بالمجاهدين الشراكسة إلى أن هُزم عسكر المغول والصليبيين الأرمن والكرج وفُلَّت عزيمتهم  (3)،إلا أنَّ الحملات القادمة من أواسط آسيا بدأت من جديد في عهد تيمورلنك الذي حارب على جبهات مختلفة في خوارزم وبلاد الجتا ، وإيران ،والعراقَين ، وجورجيا وبلاد القبجاق والشركس وبلاد الشام ، وبلاد السلطنة العثمانية ، والهند ….إلخ . وعندما نكتب عن أعمال تيمورلنك لا بد من ذكر السلطان الشركسي برقوق الذي اقترن اسمه بقيام الدولة البرجية الشركسية .

_______________________________________________

(1) : من كتاب المماليك في مصر : أنور زقلمة _القاهرة .

(2) : من كتاب فلسطين أرض الحضارات للدكتور شوقي شعث _ص47 .

(3) : معارك المغول الكبرى في بلاد الشام لأكرم العلبي ص138 .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

السلطان الشركسي الملك الظاهر برقوق ( 784 _ 801 هـ الموافق 1382 _ 1398م ) .

واسمه الكامل هو : برقوق بن أنس بن عبد الله الشركسي ، وقد سمي برقوق لنتوء في عينيه .

يصفه صاحب (شذرات الذهب) بأنه : ((كان أعظم ملوك الشراكسة بلا مدافع ، بل المتعصب يقول أنه أعظم ملوك الترك قاطبة )) . وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المؤرخين القدماء كانوا في كثير من الأحيان لا يميزون بين الشركس والترك ، قال المقريزي مترجماً الظاهر برقوق مُنشئ الدولة البرجية الشركسية : (( يُجل أهل الخير ومن ينسب إلى الصلاح ، وكان يقوم للفقهاء والصلحاء إذا دخل أحد منهم عليه _ ولم يكن يُعهد ذلك من ملوك مصر (1) قبله _ وتنكر للفقهاء في سلطنته الثانية من أجل أنهم أفتوا بقتله ، فلم يترك إكرامهم قط _ مع شدة حنقه عليهم ، وكان كثير الصدقات (2))) .

يمكن القول أن السلطان برقوق قد تمكن من تثبيت دعائم دولة البرجيين الشراكسة بعد قضائه على العصبية التركية ، وحدَّ من نفوذ العربان وواجه كل هذه الحروب والفتن بشجاعة وقوة . على أن هذه الفتن والحروب لم تشغل السلطان برقوق في إصلاحاته الداخلية الكثيرة التي صار لها أكبر الأثر في تدعيم كيان دولته الشركسية في مصر وبلاد الشام والحجاز وغيرها إلى عام 1517م وما بعدها ، ومن هذه الإصلاحات إبطاله الكثير من المكوس التي كانت عبئاً كبيراً  على الناس (3) وأقام جسراً على النيل بين جزيرة أروى ( الزمالك ) وجزيرة الروضة من طرفها البحري ، هذا الجسر الذي عجز عن إقامته كثير من السلاطين السابقين وعهد السلطان برقوق لإقامة هذا الجسر إلى الأمير (جاركس) الخليل أحد قواده المخلصين ، وأنشأ أيضاً جسراً على ضفة نهر الأردن بالغور بطول مائة وعشرون ذراعاً بعرض عشرين ذراعاً ، وأصلح خزائن السلاح بثغر الإسكندرية وسور مدينة دمنهور ليقيها من هجمات البدو ، وعمر الجبال الشرقية بالفيوم بالناس ليقيها من هجمات البدو ، عمّر زاوية البرزخ بدمياط (4) ، أنشأ قناة العروب بالقدس ، بنى بركة بطريق الحجاز إلى الحج ، جدد القناة التي تحمل ماء النيل إلى قلعة الجبل وأصلح الميدان تحت القلعة وزرعها . بنى صهريجاً للماء . وأنشأ مكتباً يقرأ فيه أيتام المسلمين القرآن الكريم بقلعة الجبل وجعل عليها وقفاً . أقام طاحونة بالقلعة سبيلاً تجاه باب بيت الضيافة وأمام القلعة (5) ، واهتم السلطان بالعلم إذ افتتح مدرسته التي بناها بين القصرين أثناء سلطنته الأولى ، واستقدم لها عدداً من العلماء من كثير من أنحاء العالم العربي (6)ورتب لها صوفية بعد العصر كل يوم وجعل بها سبعة دروس قام بتدريسها علماء المذاهب الأربعة ،ودرساً للتفسير ودرساً للحديث ، وآخر للقراءات وأجرى على جميع مدرسيها وطلابها في كل يوم الخبز واللحم ، ورتب لهم مخصصات شهرية من الحلوى والزيت والصابون والدراهم ،

___________________________________________________________

(1) : لاحظ أن المؤرخين معاصري السلاطين كانوا يطلقون عليهم اسم الملوك وليس مماليك ؟!

(2) : المقريزي : السلوك _ج 3 ص 944 .

(3) : ابن تغري بردي :النجوم الزاهرة_ ج12 ص 113_114 . (4): نفس المصدر السابق ص115 .

(5) : Ziaden : urbon life  _ p.8   0

(6) : راجع السيوطي : حسن المحاضرة _ ج2 ص235_236

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

ووقف على ذلك الأوقاف الجليلة من الأراضي والدور ونحوها (1) .

وصفه ( العيني ) بأنه (( كان حسن القامة ، عريض الكتفين ، فصيح اللسان ، ذكي الفهم ، عالماً بألوان الفروسية ، ذا أدب وحشمة ووقار ومعرفة وتدبيرٍ حسن ، وكان على درجة كبيرة من العقل والرزانة والصبر والتحمل …))  . لم يشتهر بشرب الخمر وامتدحه الخطيب بأنه ((كان كثير الإحسان للمحتاجين محباً لأهل العلم ، والخلاصة أن السلطان برقوق لم يشتغل باللهو والطرب كما فعل السلاطين الأواخر في دولة المماليك الأولى )) .

حاول السلطان برقوق ترسيخ مبدأ وراثة العرش الذي عرف في بيت قلاوون ولكن هذا المبدأ لم يعترف به الأمراء الشراكسة فيما بعد وفاته . ورغم ذلك خلفه ابنه في 20 يونيه سنة1399 م ولقب بالناصر واستمر في حكمه حتى يناير سنة 1412م (2) نُصب خلالها لمدة تسعة وستين يوماً أخوه عبد العزيز .كان الشراكسة شديدي الغيرة على طبقتهم يبتغون أن يحتفظوا بها نقية صافية ، فعهدوا في تعزيز طبقتهم هذه بالعناصر الجديدة إلى عمال مخصوصين لإحضار الشراكسة من بلادهم الأصلية (3) ومعنى هذا أن دولة (المماليك) الثانية اصطبغت بصبغة جديدة هي الصبغة الشركسية ، وهي التي أصبحت أهم الصفات التي ميزت دولتهم البرجية الشركسية عن دولة المماليك الأولى التي سُميت بالبحرية ، والتي كان فيها عدة سلاطين شراكسة أيضاً وقد كان في الدولة البحرية للشراكسة باع كبير حيث ظهر فيهم قادة عسكريين كبار أمثال (قراسنقر وأقوش الأفرم وزردكاش والأمير غرلو وجركس الخليلي ومنجك اليوسفي وأيتمش البجّاسي وقرا دمرداش والأمير إينال اليوسفي الجركسي وقردم الحسني والأمير سيف الدين كرجى والأمير طقجي وغيرهم كثير )  سوى السلاطين الشراكسة المعروفين ، وبلغ عدد الشراكسة في زمن قلاوون خمسة آلاف وسبع مئة .وفي الدولة الثانية كان السلطان برقوق هو البادئ بهذا الاتجاه ، ذلك أنه منذ أن جلب والده وأقاربه سنة 782هجري الموافق 1380م ، وهو يوالي جلب الشراكسة من بلادهم وتشجيع الناس على جلبهم . وعلى حين بلغ عدد الشراكسة في بداية سلطنة برقوق نحو ألفين ، ارتفع هذا العدد في نهاية حكمه إلى خمسة آلاف شركسي (4) من بين عدد مماليكه الذين قدرهم العيني بنحو عشرة آلاف مملوك(5) وأصبح الشراكسة الطبقة الأرستقراطية بين باقي العناصر ورأس النظام الإقطاعي ، وشغلوا الوظائف الكبرى حتى صار أكثر الأمراء والجند من الشراكسة وهؤلاء بدورهم شجعوا الهجرة من بلادهم الأصلية إلى السلطنة الشركسية .

على أن تعصب السلطان برقوق لكل ما هو شركسي وما نتج عن هذا التعصب من آثار بعيدة وقريبة ، تعرَّض لنقد شديد من بعض المؤرخين المعاصرين الذين تشدَّقوا ظلماً بمدح أيام دولة المماليك الأولى (رغم أن الأمراء الشراكسة في هذه الفترة أيضاً كانوا المبرزين في حروبهم ضد أعداء الإسلام ) .

____________________________________________________________

(1) : ابن تغري بردى :النجوم الزاهرة_ ج12.ص113 .

(2) : العسقلاني : الجزء (1) ص690 ( من أنباء الغمر ) .

(3) : Brockeimann,c : Hist of Islamic peoples : p-236

(4) : ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة _ ج12 . ص 107 . (5) : العيني : عقد الجمان ج25 ورقة 63 .0

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر موقعة شقحب التي تآلف فيها المغول والصليبيين ستين ألفاً من المغول وثلاثين ألف من الصليبيين حيث غزوا بلاد الشام سنة 702 هجري الواقع 20 نيسان إبريل سنة 1303م واشتبكوا مع الجيش المملوكي في شقحب قُرب الكسوة جنوب دمشق حيث هاجموا ميمنة الجيش الإسلامي وثبتت لهم ، وقاتلت قتالاً شديداً ، وقُتل قائدها الحسام  (لاجين ) ، وقتل معه نحو ألف فارس ، فأدركهم الأمراء من القلب والميسرة وصاح القائد سلار وكان من حزب الشراكسة (( هلك والله أهل الإسلام  )) وصرخ في الأمير بيبرس الجاشنكيري والمماليك البرجية وكانوا من جماعته (الشراكسة) فأتوه وصدم بهم المغول ( وسلَّموا أنفسهم إلى الموت ، فلّما رأى باقي الأمراء منهم ذلك ألقوا بأنفسهم إلى الموت واقتحموا القتال ) (1) وأبلوا في ذلك اليوم بلاءً حسناً ، إلى أن كُشف عسكر المغول وفُلّت عزيمتهم …إلخ . وانتصر المسلمون انتصاراً ساحقاً وكان الأرمن والكرج قد قاتلوا بضراوة في صفوف المغول إلا أن معظمهم لقي مصرعه ولم ينجُ من ال30 ألف منهم إلا خمسمائة أما المغول والبالغ عددهم 60 ألف فإن كل عشرة منهم عادوا ( واحداً ) ، ويقول الكاتب أكرم العلبي ((ولو قُدِّر لغازان أن ينتصر في شقحب لتغيرت خارطة الشرق العربي الإسلامي ، ولعاد الصليبيون إلى دويلاتهم تمهيداً للخطوة التالية لهم وهي طرد العرب نهائياً من الشام ومصر ، إلى الجزيرة العربية ، كما كان يجري آنذاك في الأندلس ، لهذه الأسباب تُعدّ معركة شقحب فتح الفتوح بالنسبة للشام ومصر ، لأن الظروف كلها كانت تنذر بالهزيمة ، ولكن الله سلَّم ، كما كانت آخر معركة رسمية بين المسلمين والتحالف المغولي الصليبي حتى نهاية عهد المماليك الشراكسة )) (2) .وإذا عدنا إلى عهد السلطان برقوق نرى أن الأخطار التي هددت البلاد من النوبة والحبشة مما اضطره إلى استحداث ولاية أسوان ، ونظراً للأخطار الخارجية التي أحدقت بالسلطنة المملوكية الشركسية في بدايتها جعل السلطان برقوق نواب الثغور والبلاد الواقعة على الحدود من مقدمي الأُلوف بعد أن كانوا في الدولة الأولى في رتبة أقل .ومن هذه النيابات :

1_ نيابة عينتاب ( في تركيا حالياً ).2_ درنده . 3_ شيزر . 4_ الابلستين . 5_ إياس . 6_ طرسوس والبيره(3) . نلاحظ اقتران قيام دولة البرجية على يد السلطان برقوق مع ظهور نفوذ هذه الدولة بين الدول التي تاخمت حدودها الشرقية ، فأخذت هذه الدول تخطب ود السلطان برقوق رغبة في التمتع بحمايته وطلب معونته لاسيما حين بدأ التتار يكتسحون وسط آسيا وغربيها . ولم يتأخر السلطان برقوق في أن يجعل من دولته الشركسية حصناً وملاذاً لجيرانه ، حتى أن أصحاب سنجار وقيصرية وتكريت حين كتبوا سنة 885 هجري _ 1383م إلى السلطان برقوق برغبتهم في إعلان تبعيتهم له وخطبوا خطبة الجمعة باسم السلطان برقوق ، سارع إلى إعلان موافقته على مطالبهم وكتب لكل منهم تقليداً بنيابة السلطنة في بلده (4) أي أن برقوق وسّع في ملكه منذ البداية ، ووحد الأرض العربية كذلك ، والواقع أن خطر التتار في الشرق الأوسط وضَحَ في هذه السنة حيث ظهر تيمورلنك التتاري الذي استولى على بلاد ما وراء النهر وجعل سمرقند عاصمة له ،

___________________________________________________________

(1) ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ج8 _ص160_161 .

(2) : من كتاب معارك المغول الكبرى في بلاد الشام لأكرم العلبي ص 131 _140

(3) : القلقشندي : صبح الأعشى ج4 . ص 226 _ 238 . (4) : راجع العسقلاني : أنباء الغمر ج1 . ص 43 .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

وما لبث أن احتل خراسان وهرات وطبرستان وجرجان ثم زحف إلى مدينة تبريز واستولى عليها سنة 788هجري _1386م وطرد حاكمها قرا محمد التركماني . ومن هناك أرسل تيمورلنك إلى مجد الدين عيسى حاكم ماردين يستدعيه ، غير أن حاكم ماردين الذي احتمى بالسلطنة الشركسية وأرسل إلى تيمورلنك يعتذر عن الحضور قبل أخذ رأي السلطان برقوق(1) ولم يكن أمام هذه الدول سوى أن تستجير بالسلطان برقوق بدليل أن تيمورلنك حين ترك تبريز أواخر سنة 790 هجري _1388م أسرع قرا محمد التركماني واستعاد بلاده ، ثم أرسل إلى السلطان برقوق يخبره بعودته إلى عرشه ، وأنه ضرب في تبريز السكة (العملة) باسم السلطان برقوق ، ودعا له فيها على منابره ،وسأله أن يكون نائباً بها عنه(2) ، وعندما استعدَّ مجد الدين عيسى صاحب ماردين ليبعث برسله إلى برقوق ينبئه بما جرى بينه وبين تيمورلنك ، عاد تيمورلنك سنة 795هجري _1393م فجأة وهاجم بغداد ، فازداد خوف مجد الدين عيسى ، وأسرع في إرسال الرسل إلى السلطان برقوق طلباً لعونه السريع(3) وبيّن مجد الدين عيسى في رسالة إلى السلطان برقوق كيف أن تيمورلنك خدع السلطان أحمد بن أويس الجلايري حاكم بغداد(4) بعد أن اكتسح بلاد فارس وقتل حاكمها شاه منصور في مايو سنة 1393م ، ثم بعث برأسه إلى بغداد ، كما بعث بالخلع والسكة إلى أحمد بن أويس وطمأنه بأنه لن يغير على بلاده ، وأنه لا يطلب سوى ضرب السكة (العملة) في بغداد باسمه . فلبس أحمد بن أويس الخلعة وطاف بها شوارع بغداد ونفَّذ مطالب تيمورلنك ، ولم يشعر أحمد بن أويس إلا وتيمورلنك يقترب من بغداد ومن غربيِّها وهي الناحية التي لم يكن يُنتظر أن يقوم تيمورلنك بهجومه منها ، فأسرع السلطان أحمد بن أويس بقطع الجسر عن هذه الناحية ورحل من بغداد بأمواله وأولاده وقت السَحَر فتقدم تيمورلنك بجحافله لحصار بغداد سنة 1393م ودام الحصار شهرين ، قُتل في أثنائها أكثر سكانها وخُرب أسوارها وجوامعها وأسواقها (5) ومن بغداد أرسل تيمورلنك ابنه ميران شاه في إثر ابن أويس فأدركه بالحلّة ونهب ماله وسبى بعض حريمه وأسر وقتل كثيراً من أصحابه .وتمكن أحمد بن أويس من النجاة بنفسه في نحو ثلاثمائة فارس وهم شبه عراة ، واتجه غرباً لائذاً بالسلطان الشركسي برقوق(6) وسقطت بغداد بيد تيمورلنك(7) .

___________________________________________________________

(1) : ابن التغري بردي : النجوم الزاهرة ج12- ص 43 .

(2) : المقريزي : السلوك ج3-ص 495 .

(3) : الخطيب : نزهة النفوس والأبدان _ورقة 41 .

(4) : السيف المهند للعيني ص18_19 .

(5) : البغدادي : عيون أخبار الأعيان _ ورقة 487_488 .

(6) : ابن تغري بردي : المنهل الصافي ج1_ص223 .

( كان إيواء الأمير أحمد من الأسرة الجلائرية الذي يعد من ألد خصوم تيمورلنك في بلاط السلطان برقوق كان قد عُدَّ جسارة كبيرة آنذاك )

(7) : ابن خلدون :العِبر _ج5 _ ص1173_1174 .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

ويبدو أن السلطان برقوق عمل على تأمين الحدود الشرقية لبلاده بإرساله العسكر إليها منذ سنة 789هجري _1387م حين سمع بتحركات التتار على هذه الأطراف الشرقية(1) كما أن السلطان برقوق عرف أن تيمورلنك يعمل ألف حساب له ، فضلاً عن أن تيمورلنك لم يكن قد نظم أحوال بلاده الداخلية .

على أن السلطان برقوق سرعان ما تقدم لحماية أحمد بن أويس ومعاونته حين أرسل إليه ابن أويس من حلب يطلب عونه على إعادة ملكه والانتقام من عدوه ، فكتب السلطان برقوق إلى نعير أمير آل فضل بإكرامه والقيام له بما يليق به . ثم جمع برقوق مجلساً من كبار الأمراء لبحث أمر ابن أويس فقرروا استقباله في القاهرة وأنفق السلطان برقوق على سفر ابن أويس نحو ثلاثمائة ألف درهم فضة وألف دينار واستقبله استقبالاً رائعاً ليتردد صدى هذا الاستقبال في بغداد إذ خرج الأمراء للقائه في 21 من ربيع الأول سنة 1394م ، فأسرع ابن أويس نحوه حتى التقيا ولم يقبل السلطان برقوق أن يُقبِّل ابن أويس يده بل عانقه ، وأغدق عليه النعم وتزوج برقوق من ابنة أخيه(2)أما تيمورلنك فقد أرسل من بغداد سنة 1393م إلى القاضي أبي العباس أحمد صاحب قيصرية وتوقات وسيواس ، رسالة سبَّه فيها وهدده ((بقوته التي لا تقاوم )) وبشَّره (( بالمستقبل المظلم )) إن لم يعلن طاعته له ، غير أن أبا العباس أحمد الذي تحالف مع السلطان برقوق منذ 785هجري قطع رؤوس كبار رسل تيمورلنك وعلقها في أعناق باقي الرسل ، ثم أرسل نصف الرسل إلى السلطان برقوق والباقيين إلى السلطان العثماني بايزيد مع كتابين تعجل فيهما مساعدة كل منهما ، وردّ كل منهما على رسالته باستعداده لتقديم كل عون لصاحب قيصرية لمقاومة تيمورلنك(3) .

قتل برقوق رسل تيمورلنك إليه(4) وأعلن عداءه الصريح له ، وكان على حق في سلكه مع هذا الداهية الذي لم يكن يؤمن جانبه مطلقاً . ووضح أن ثمة تعاوناً فعلياً بدأ في سنة 795هجري بين السلطنة الشركسية وجيرانها من الدول الإسلامية في الشرق الأوسط من أجل صد خطر التتار الذي هددهم جميعاً .

استولى تيمورلنك في مارس آذار 1393م على ماردين بعد حصار قاس ، ثم اكتسح أرمينيا الكبرى ، ثم عرَّج على بلاد قرايوسف التركماني واكتسح بعدها بلاد الشركس في شمال شرق البحر الأسود ولم تقف السلطنة البرجية (الشركسية ) مكتوفة الأيدي إزاء تحركات تيمورلنك ، بل اصطدمت جيوش نائب حلب وملاطية بطلائع جيوش تيمورلنك عند الرها . وتمكن جيشا النائبين من هزيمتها وأسر عدد كبير من اللنكية على حين هرب باقي التتار(5) .

 

___________________________________________________________

(1) : ابن قاضي شهبة : ذيل تاريخ الإسلام مجلد 2 _ ورقة 24 .

(2) : أنور زقلمه : ص62 من كتاب المماليك في مصر .

(3) : Ibn Arab Shah : Tamerlane  pp 89_91_

(4) : ميرخواند : كتاب روضة الصفا :ج6 _ص 209 .

(5) : ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ج12_ص 48_49 .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

( كان تيمورلنك يقول : إن جيوش المماليك خير جنود ذلك العصر )(1) . وحين وصلت هذه الأخبار إلى القاهرة أسرع السلطان برقوق بإعداد جيش ضخم لمحاربة تيمورلنك ، كما قرر التوجه بنفسه على رأس هذا الجيش ، وعلى حين كانت الإستعدادات للتعبئة على قدم وساق وَرَدَ على السلطان برقوق كتاب آخر من تيمورلنك هذا نصه :    (( قل اللهم مالك الملك ))_ فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون(2) .

اعلموا أنَّا جند الله مخلوقون من سخطه ، ومسلطون على من حلَّ عليه غضبه ، لا نرق لشاكي ، ولا نرحم لباكي ، قد نزع الله الرحمة من قلوبنا فالويل لمن لم يكن من حزبنا ومن جهتنا . قد خربنا البلاد وأيتمنا الأولاد ، وأظهرنا في الأرض الفساد ، وذلت لنا أعزتها ، وملكنا بالشوكة أزمتها ، فإن خُيُّل ذلك على السامع وأشكل وقال إن فيه عليه مشكل فقل له : (( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ))(3) وذلك بكثرة وشدة بأسنا ، فخيلونا سوابق ورماحنا خوارق وأسنتنا بوارق وسيوفنا صواعق ، وقلوبنا كالجبال _ وجيوشنا كعدد الرمال ، ونحن أبطال وأقيال ،وملكنا لايرام ، وجارنا لا يضام _ وعزنا أبداً لسؤددٍ منقام ، فمن سالمنا سلم ، ومن رام حربنا ندم ، ومن تكلم فينا بما لا يعلم جُهل ، وأنتم فإن أطعتم أمرنا وقبلتم شرطنا فلكم مالنا وعليكم ما علينا ، وإن خالفتم وعلى بغيكم تماديتم ، فلا تلوموا(4) إلا أنفسكم ، فالحصون منا مع تشديدها لا تمنع ، والمدائن بشدتها لقتالنا لا ترد ولا تنفع ، ودعائكم علينا لا يستجاب فينا ولا يسمع ، فكيف يسمع الله دعائكم ، وقد أكلتم الحرام ، وظلمتم جميع الأنام ، وأخذتم أموال الأيتام ، وقبلتم الرشوة من الحكام وأُعدَّت لكم النار وبئس المصير :

((إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً )) (5) ، فلما فعلتم ذلك أوردتم أنفسكم موارد المهالك ، وقد قتلتم العلماء وعصيتم رب الأرض والسماء ، وأرقتم دم الأشراف ، وهذا والله هو البغي والإسراف ، فأنتم بذلك في النار خالدون ، وفي غدٍ ينادى عليكم : ((فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون )) (6) ، فأبشروا بالمذلة والهوان ، يا أهل البغي والعدوان ، وقد غلب عندكم أننا كفرة ، وثبت عندنا أنكم والله الكفرة الفجرة ، وقد سلَّطنا عليكم الإله ، له أمور مقدرة وأحكام محررة، فعزيزكم عندنا ذليل وكثيركم لدينا قليل ، لأننا ملكنا الأرض شرقاً وغرباً ، وأخذنا منكم كل سفينة غصباً ،

 

____________________________________________________________

(1) : أنور زقلمة : المماليك في مصر _ ص61 .

(2) : قرآن كريم سورة الزمر : 46 .

(3) : قرآن كريم سورة النمل : 34 .

(4) : كذا في الأصل .

(5) : قرآن كريم سورة النساء : 10 .

(6) : قرآن كريم سورة الأحقاف : 20 .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

وقد أوضحنا لكم الخطاب ، فأسرعوا برد الجواب ، قبل أن ينكشف الغطاء ، وتضرم الحرب نارها ، وتضع أوزارها  وتصير كل عين عليكم باكية ، وينادي منادي الفراق : (( فهل ترى لهم من باقية )) (1)، ويسمعكم صارخ الفناء بعد أن يهزكم هزاً ، ((هل تحسُّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً )) (2) وقد أنصفناكم إذ راسلناكم فلا تقتلوا المرسلين كما فعلتم بالأولين ، فتخالفوا كعادتكم سنن الماضين وتعصوا رب العالمين ، ((وما على الرسول إلا البلاغ المبين ))(3) وقد أوضحنا لكم الكلام فأرسلوا برد الجواب والسلام )) .

_جواب السلطان برقوق على هذا الكتاب وتاريخه سنة 796هجري :

(( بسم الله الرحمن الرحيم ))

قُل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتُعز من تشاء وتُذل من تشاء(4) ، حصل الوقوف على ألفاظكم الكفرية ونزعاتكم الشيطانية، وكتابكم يخبرنا عن الحضرة الجنابية وسيرة الكفرة الملائكية وأنكم مخلوقون من سخط الله ، ومسلطون على من حل عليه غضب الله وأنكم لا ترقون لشاكٍ ولا ترحمون عبرة باكٍ ، وقد نزع الله الرحمة من قلوبكم فذلك أكبر عيوبكم ، وهذه من صفات الشياطين لا من صفات السلاطين ، وتكفيكم هذه الشهادة الكافية ، وبما أوقفتم به أنفسكم ناهية ، ((قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، لكم دينكم ولي دين ))(5)

ففي كل كتاب لُعنتم ، على لسان كل مرسل نعتم ، وبكل قبيحٍ وصفتم ، وعندنا خبركم من حين خرجتم ، أنكم كفرة ، ألا لعنة الله على الكافرين ، من تمسَّك بالأصول فلا يبالي بالفروع . نحن المؤمنون حقاً ، لا يدخل علينا عيب، ولا يضرنا ريب ، القرآن علينا نزل ، وهو سبحانه بنا رحيم لم يزل ، فتحققنا نزوله ، وعلمنا ببركة تأويله ، فالنار لكم خلقت ، ولجلودكم أضرمت ، (( إذا السماء انفطرت )) (6) ومن أعجب العجب تهديد الرتوت (7) بالتوت ، والسباع بالضباع ، والكماة بالكراع نحن خيولنا برقية وسهامنا عربية ، وسيوفنا يمانية ، وليوثنا مضرية ، وأكفنا شديدة المضارب ، وصفتنا مذكورة في المشارق والمغارب ، إن قتلناكم فنعم البضاعة وإن قتل منا أحد فبينه وبين الجنة ساعة

 

____________________________________________________________

(1) : قرآن كريم سورة الحاقة : 8 .

(2) : قرآن كريم سورة مريم : 98 .

(3) : قرآن كريم سورة النور : 54 .

(4) : قرآن كريم سورة آل عمران : 25 .

(5) : قرآن كريم سورة الكافرون .

(6) : قرآن كريم سورة الإنفطار : 1

(7)          : الرتوت : جمع رت وهو الرئيس والسيد (المعجم الوسيط ) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألَّا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ، يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين )) (1) . وأما قولكم : قلوبنا كالجبال ، وعددنا كالرمال ، فالقصَّاب لا يبالي بكثرة الغنم وكثير الحطب يفنيه القليل من الضرم ، (( كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين )) (2) الفرار الفرار من الرزايا ، وطول البلايا ، واعلموا أن هجوم المنية عندنا غاية الأمنية ، إن عشنا عشنا سعداء ، وإن قُتلنا قُتلنا شهداء ، (( فإن حزب الله هم الغالبون )) (3) .

أَبَعد أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين تطلبون منا طاعة ، لا سمع لكم ولا طاعة وطلبتم أن نوضح لكم أمرنا قبل أن ينكشف الغطاء ، ففي نظمه تركيك ، وفي سلكه تلبيك ، لو كشف الغطاء لبان القصد بعد بيان ، أكفرٌ بعد إيمان ، أم اتخذتم إلهاً ثان ، وطلبتم من معلوم رأيكم أن نتَّبع ربكم ، (( لقد جئتم شيئاً إدّاً . تكاد السماوات يتفطَّرن منه وتنشقُّ الأرض وتخرُّ الجبال هدّاً )) (4) ، قل لكاتبك الذي وضع رسالته ووصف مقالته ، وصل كتابك كضرب رباب أو كطنين ذباب ، (( كلّا سنكتب ما يقول ونمدُّ له من العذاب مدّاً ، ونرثه ما يقول )) (5) إن شاء الله تعالى لقد خلطتم في الأمر في الذي أرسلتم ، (( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )) (6)    والسلام .

نلاحظ في هذا الرد أن السلطان برقوق يستخف أيّما استخفاف بهذا الطاغي الذي حارب وانتصر على دول كبيرة عظيمة القوى ؟! .

وتعطينا المصادر المعاصرة صورة واضحة عن مدى استعدادات السلطان برقوق لمواجهة تيمورلنك إذ تذكر أنه جنَّد كل القوى للسفر معه إلى الشام (7) ، ونظراً لأن منطاش ترك خزائن الدولة خاوية فإن السلطان اضطر لإقتراض مبالغ طائلة من تجار القاهرة لتغطية النفقات (8) . ثم قبض على ثلاثمائة من الأجناد البطالين وسجنهم بخزانة شمائل ، وأشرف لسلطان برقوق بنفسه على ترتيب الجيش الذي سار (( في أبهج زي وأفخر هيئة وأحسن ملبس ، كما كانت آلات الحرب مذهبة ومفضضة ومزركشة )) (9) .

___________________________________________________________

(1) : قرآن كريم سورة آل عمران : 169 _171 .

(2) : قرآن كريم سورة البقرة : 249 .

(3) : قرآن كريم سورة المائدة : 56 .

(4) : قرآن كريم سورة مريم : 89 _ 90 .

(5) : قرآن كريم سورة مريم : 79 _ 80 .

(6) : قرآن كريم سورة الشعراء : 227 .

(7) : المقريزي : السلوك ج3_ص724 .

(8) : العيني : عقد الجمان ج24 _ ورقة 362 _363 (لاحظ كلمة اضطر لاقتراض مبالغ طائلة من تجار القاهرة)

(9) : ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ج12_ ص54_55 .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

وسار السلطان في ربيع الثاني سنة 796 هجري _ ابريل سنة 1394م على رأس هذا الجيش الضخم ، وصحب معه أحمد بن أويس وأتباعه . ويبدو أن تيمورلنك وجد أن الظروف غير ملائمة للدخول في معركة مكشوفة مع السلطان برقوق لذلك ترك بغداد تحت حكم ابنه ميران شاه (1) . أما السلطان برقوق فإنه برغم علمه برحيل تيمورلنك فإنه استمر يتقدم بالجيش حتى وصل إلى دمشق في 20 جمادى الأولى سنة 796هجري _ مايو 1394م ، ومن هناك أرسل عسكره إلى الحدود الشرقية والشمالية الشرقية لمواجهة أي هجوم مفاجئ قد يقوم به تيمورلنك (2) وفي دمشق لمس السلطان برقوق موقف الدول المجاورة مرة أخرى ، إذ أنًّ رسل طقتمش ، الذي تقهقر أمام تيمورلنك إلى حدود بلاده ، قدموا يعرضون معاونة طقتمش للسلطان ورغبتهم في عقد معاهدة دفاعية مع السلطان ضد تيمورلنك (3) كما أرسل السلطان العثماني بايزيد رسله يعرض رغبته في محالفة السلطان برقوق في حربه مع تيمورلنك (4) ورد السلطان برقوق على كل منهما رده بالشكر فقط على هذا العون ضد الخطر التتاري ، غير أنه لم يرتبط مع واحد منهما بارتباط معين ، بل جعل همّه أن يكون شرف استعادة بغداد من نصيب الدولة البرجية الشركسية فقط .

وكتب السلطان برقوق لأحمد بن أويس تقليداً بنيابة السلطنة (5) ببغداد وزوده ((بالأمراء والمماليك والخيل والجمال والسلاح والنقد بما أدهشه )) (6) ثم بعث أحمد بن أويس على رأس هذا الجيش إلى بغداد في أواخر جمادى الثاني سنة 796هجري _1394م فتمكن أحمد بن أويس بهذا الجيش البرجي (الشركسي ) وبمعاونة قرا يوسف التركماني من هزيمة ميران شاه ابن تيمورلنك واستعادة بغداد ، وأخذ في بناء سورها وتعميرها (7) والواقع أن دولة البرجيين الشراكسة أثبتت وجودها ، وبرهنت على قوتها بين دول الشرق كله إذ أصبحت بغداد تابعة لها ، وبهذا امتدت المساحة التي يحكمها السلاطين الشراكسة ، وازدادوا في توحيد البلاد العربية ، وقد ضربت سكتها (عملتها) باسم السلطان برقوق .

وحين شاعت أخبار هذا النصر أرسل السلطان العثماني بايزيد إلى السلطان برقوق يخبره بأنه وضع تحت طلبه مائتي ألف مقاتل لعونه على حرب تيمورلنك كما قدم حكام الإمارات التركمانية المحيطة بدولة المماليك البرجية يعلنون طاعتهم للسلطان برقوق (8) .

__________________________________________________________

(1) : العزاوي : تاريخ العراق ج2 _ص219_ 220 .

(2) : ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ج12 _ ص 56 .

(3) : ابن الفرات : تاريخ الدول والملوك ج9_ص381 .

(4) : ابن إياس : بدائع الزهور ج2 _ ص302 .

(5) : المقريزي : السلوك ج3_ص731 . _ (6) : العسقلاني : أنباء الغمر ج1 _ ص371 .

(7) : البغدادي : عيون أخبار الأعيان _ ورقة 48 .

(8) : المقريزي : السلوك ج3 (خطية) _ ص733، ص 747

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

ومهما يكن من شيء فقد بلغت قوة السلطان برقوق درجة أفزعت تيمورلنك حتى أنه لم يجرؤ على التقدم غرباً نحو بلاد الدولة البرجية الشركسية إلا بعد أن وصلته أنباء بوفاة السلطان برقوق والقاضي أبي العباس أحمد صاحب قيصرية  وما تبع وفاتهما من اضطراب بلادهما ، وأظهر تيمورلنك سروره لهذه الأنباء .

لقد بلغ من ثقة السلطان برقوق في نفسه وبُعد نظره أنه لم يرتبط بتحالف مع السلطان العثماني وإنما أظهر استعداده لقبول كل معاونة يعرضها السلطان العثماني ( بايزيد ) ، وسبب هذا أن السلطان برقوق أدرك خطورة الدولة العثمانية على بلاده وعلى سياسته في الوقت الذي لم يكترث فيه بخطر تيمورلنك بدليل قوله : (( إني لا أخاف من اللنك فإن كل أحد يساعدني عليه وإنما أخاف من ابن عثمان )) (1) ويبدو أن برقوق كان على حق في اعتقاده هذا لأن بايزيد أغار سنة 793هجري _ 1391م على قيصرية وقبض على صاحبها وهي وقتذاك في حماية السلطان برقوق ، غير أن اقتراب خطر تيمورلنك سنة 796هجري_1394م جعل بايزيد يبعث باعتذاره إلى برقوق وهو في سوريا كما أرسل مفاتيح المدينة وهدية قيّمة وأخبره فيما بعد بأنه وضع تحت تصرفه مائتي ألف فارس كما سأل السلطان برقوق في تجهيز طبيب من أطباء القاهرة ليداويه (2) ، غير أن السلطان برقوق ظل عند موقفه واكتفى بشكر السلطان العثماني وإكرام رسله ثم أرسل له الطبيب محمد بن محمد الصغير ، ومعه من الأدوية والعقاقير ما يحتاج  إليه ابن عثمان (3) ، بيد أن العلاقات بدأ يشوبها السوء عقب وفاة السلطان برقوق ، إذ انتهز السلطان بايزيد فرصة انقسام الأمراء في مصر وأغار في أواخر شوال سنة 801هجري ، على الحدود السورية واستولى على ملاطية ودارندة(4) وارتكب بايزيد بهذا الإجراء خطأً شنيعاً دلّ على ما في نفوس السلاطين العثمانيين من رغبة في تزعم العالم الإسلامي ، والإتجاه إلى حرمان سلاطين الدولة البرجية الشركسية من هذه الزعامة .

وفي عام (798هجري/ 1396م ) أرسل بايزيد كتابين إلى القاهرة الأول إلى الخليفة يطلب منه منحه تفويضاً شرعياً بالسلطنة ، بعد انتصاره على تحالف أوربي بيزنطي في معركة نيقوبوليس ، فمنحه الخليفة هذا اللقب مكافئة له على تلك الجهود الكبرى من أجل الإسلام والمسلمين (5) ، والثاني إلى السلطان الشركسي برقوق يبشره بانتصاره ، بالإضافة إلى هدية ، منها مائة أسير من الفرنج الفرنسيين والإيطاليين .

كما واجهت دولة المماليك البرجية في بدء قيامها مشكلات من جانب الشرق فإنها واجهت مشكلات أخرى من جانب الغرب ، مرجعها أن التجارة في البحر المتوسط أصبحت احتكاراً للبندقية التي تخلصت من منافستها جنوا (6) .

____________________________________________________________

(1) : العسقلاني : أنباء الغمر خ1_ص385 .

(2) : المقريزي : السلوك ج3_ص708 .

(3) : الخطيب : نزهة النفوس والأبدان _ ورقة 45 أ .

(4) : العيني : عقد الجمان ج25 _ ورقة 78 .

(5) : حليم ، إبراهيم بك : ص48 .

(6) : دحلان : الفتوحات الإسلامية ج2 _ ص61 .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

واستطاع السلطان برقوق والسلطان فرج أن يحققا مع البنادقة أرباحاً طائلة من احتكار التجارة ، ونتج عن هذا الاحتكار تعرض شواطئ دولة المماليك البرجية لهجمات القراصنة الجنوية والكاتالونيين ومن انضم إليهم من الروادسة (رودس ) والقبارصة (قبرص) وشغلت أعمال القرصنة التي قام بها هؤلاء الفرنج جهداً كبيراً من السلطان برقوق ومن ابنه فرج ففي جمادى الآخرة سنة 785هجري _يولية 1383م ، هاجم الجنوية صيدا وبيروت ، ونزلوا إلى البر(1) ، فاتجه إينال اليوسفي أتابك دمشق إلى الساحل ، وحاول أن يقذف بهؤلاء الفرنج في البحر حين احتموا بمراكبهم ، لولا أن أسرع لنجدتهم الفرنج المقيمون في بيروت ومكنوهم من النجاة بأنفسهم (2) .

وفي الوقت نفسه قضى السلطان برقوق على محاولات بعض تجار الفرنج الجنوية لتهريب بضائع في مراكبهم من الإسكندرية (3) ويبدو أن فشل هؤلاء الجنوية جعلهم يتجهون إلى مهاجمة ثغري دمياط والرشيد ، غير أن السلطان برقوق رصد لهم فرقة في ثغر رشيد بقيادة الأمير أحمد بن يلبغا الخاصكي ، وفرقة أخرى في ثغر دمياط بقيادة الأمير ايدكار(4) فتعذر على هؤلاء الجنوية غزو رشيد ودمياط ، ولذا أعادوا الكرة على ثغر بيروت وقتلوا عدداً من سكانه حتى اضطر نائب بيروت إلى الاستعانة بقوات نائب حلب في طردهم(5) وحين تكرر هجوم الجنوية على بلاد السلطنة المملوكية البرجية في عهد السلطان برقوق سنة786 هجري_1384م إلى الأمير الطنبغا الجوباني ببناء أغربة وشواني لغزو الجنوية في بحر الروم غير أن هذا الأسطول قبل أن يبحر إلى مياه جنوا اشتبك مع عدة مراكب على مقربة من ساحل دمياط سنة 787هجري _1385م ، وبعد قتال شديد تمكن الأسطول المملوكي من قتل عدد كبير من الجنوية وأسر نحو خمسة وثلاثين منهم ، وقيل إن ثلاثة بذلوا ما قيمته خمسة عشر ألف دينار حتى فك أسرهم .

وبعد هذا الانتصار وصلت الأغربة إلى بولاق في جمادى الآخر سنة 787هجري -1385م بالأسرى والغنائم حيث عرضوا على السلطان في اليوم التالي من وصولهم (6) . على أن أعمال القرصنة من جانب الجنوية لم تؤثر في حصول بعض تجارهم على ارتباطات تجارية وقنصلية (7) ،ولذا فإن الجنوية لجئوا في سنة 788هجري_1386م إلى مصالحة السلطان برقوق (8) ، ولم يتأخر السلطان في قبول الهدايا منهم حرصاً على مصالحه التجارية في البحر المتوسط .

 

___________________________________________________________

(1) : ابن يحيى : تاريخ بيروت ص229.

(2) : العيني : عقد الجمان ج24_ قسم2 _ ورقة 288 .

(3) : الخطيب : نزهة النفوس والأبدان ورقة 5 أ .

(4) : الخطيب : نزهة النفوس والأبدان ورقة 7 أ .

(5) : المقريزي : السلوك ج3(خطية) ص416 .

(6) : العسقلاني : إنباء الغمر ج1_ص224 .

(7) : Lemmens : La Syrie _ p711 _ 36

(8) : المقريزي : السلوك ج3_ص463 .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

غير أن الجنوية عادوا سنة 790هجري_1388م منتهزين فرصة انشغال برقوق بالنزاع الداخلي مع الترك إلى أعمال القرصنة ، وذلك حين كانت جماعة من تجار السلطان برقوق قادمة في المياه السورية في مراكب مشحونة بالشراكسة الذين جُلبوا من بلادهم ، ومن بين هؤلاء الشراكسة أخت السلطان برقوق وجماعة من أقربائه ، فهاجم الجنوية مراكب السلطان ، وأخذوا ما فيها وأسروا أقاربه ومن فيها من الشراكسة ، فثار السلطان برقوق ، وأمر نواب البلاد الساحلية بالقبض على كل من عندهم من الفرنج سواء كانوا تجاراً أو قناصل أو رعايا ، ونهض نائب الإسكندرية في القبض على عدد كبير منهم ، وصادر أموالهم وممتلكاتهم وأمتعتهم (1) .

ونظراً لكثرة حروب السلطان الشركسي برقوق وحاجته إلى الخيول استمر ودّه لبلاد المغرب العربي ، ولم يغير قيام دولة المماليك البرجية (الشركسية ) من تبعية الحجاز لها ، ولقب السلطان برقوق بسلطان مصر والحجاز(2) وجرت العادة أن يولي السلطان على مكة أميراً من أهلها وله حق عزله إذا ثبتت مخالفته لأوامره . وفي بداية سلطنة برقوق كانت إمرة مكة مثار نزاع بين الشريف أحمد بن عجلان وابني عمه حسن بن ثقبة وعنان.

وحرص برقوق على علاقات الود مع اليمن ما دام ملك اليمن يعمل على ضبط التجارة في ميناء عدن التي أصبحت مركزاً هاماً من مراكز التجارة بين الشرق والغرب .

وحرص السلطان برقوق أيضاً على العلاقات الحسنة مع الحبشة ، غير أن ملك الحبشة داوود بن سيف أرعد (سنة 1381_1411م) انتهز فرصة الاضطرابات التي قامت في مصر من أجل السلطة وهاجم أسوان في أواخر 1381م وضرب بعض نواحيها فأرسل أهلها يستصرخون السلطان برقوق الذي أسرع بعلاج المشكلة بالطرق الودية ، ونشطت التجارة في نفائس البلدين بسبب تأمين برقوق لطرق التجارة في البحر الأحمر (3) غير أن داوود عاد في سنة 1402م وهاجم السلطنات الإسلامية في عدل وزيلع وقتل من أهلها المسلمين عدداً كبيراً ، .

لكن تحسن الوضع فيما بعد وساعد الشراكسة الحبشة التي ظلت حتى ذلك الوقت تحارب بالحراب ، إذ أن الشراكسة علّموا الجيش الحبشي فنون الفروسية من رمي النشاب والرمح والضرب بالسيف ولعل أهم حدث في تاريخ الحبشة الحربي هو ما أسهم به المماليك الشراكسة في تعليم الأحباش استخدام النفط في الحروب (4)ويبدو أن هذا العمل الذي قام به فخر الدولة لملك الحبشة شجع على استمرار الاتصال بالحضارة المملوكية الشركسية فاستقدم عدداً من الشراكسة ممن عملوا في وظائف ((زردكاش )) بمصر .

 

__________________________________________________________

(1) : ابن الفرات : تاريخ الدول والملوك ج9 _قسم 1 _ ص23 .

(2) : Pioloti : op.Cit.p.41

(3) : العسقلاني : إنباء الغمر ج2 _ ورقة 253 أ ،ب .

(4) : المقريزي : الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة ص4-5 .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

وخاتمة المطاف أن سياسة السلطان برقوق أنقذت مصر وبلاد الشام والعراق وغيرها ، من عوامل الضعف التي تعرضت لها من الداخل والخارج أواخر دولة المماليك الأولى ، وجعلت هذه السياسة لدولة المماليك الثانية (الشركسية) شخصيتها ونفوذها في الداخل والخارج .

ونرى بذلك أن السلطان برقوق قد مهّد الحكم للشراكسة حتى عام 1517م حيث احتلت الجيوش العثمانية بلاد الشام ومصر  .

 

المصادر والمراجع :

1_ المكتبة العربية تصدرها وزارة الثقافة في الجمهورية العربية المتحدة _القاهرة.

2_ المماليك : للدكتور السيد الباز العريني .

3_ عالم الفكر الكويتية : العدد 3 ديسمبر 1982م .

4_ مصر والشراكسة : لراسم رشدي .

5_ معارك المغول الكبرى في بلاد الشام : لأكرم العلبي .

6_ الحركة العلمية في مصر في دولة المماليك الجراكسة : د. محمد كمال الدين عز الدين.

7_ العالم الإسلامي في العصر المغولي: برتولد شبولر .

8_ حروب المغول :  أحمد حطيط .

9_ المماليك في مصر : لأنور زقلمة .

10_ المزارات الإسلامية والآثار العربية :لحسن قاسم . وتعليق الشيخ : زاهد الكوثري على بعض فصولها .

11_ جهود المماليك الحربية ضد الصليبيين : د.محمد وفاء العلي .

12_ مسيرة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين في عهد المماليك : عزمي عبد أبو عليّان.

13_ فلسطين أرض الحضارات : د. شوقي شعث .

 

( عدنان محمد مصطفى قبرطاي )

 

http://www.geocities.com/adiga2001syr/barkok.htm



تعليقات – تـتـمـّة

[ Posted by adygea lieva, February 06, 2010 11:44 AM ]
This is amazing , thanks for the precious article

 

Share Button

إسلام أون لاين: لقاء “الشركس” في الجليل

لقاء “الشركس” في الجليل

أشرف سلفيتي

rih
الريحانية موطن الشركس في الجليل
تقول الأسطورة الشركسية المشهورة بأن الشركس كانوا يغنون ويرقصون ويلحنون الموسيقى عندما وزع الله العالم على بني البشر، وبعدما انتهوا من الغناء والرقص جاءوا لأخذ نصيبهم من القسمة، ولكنهم اكتشفوا بأنه لم يتبق شيء لهم فبكى أبناء الأديغا “الشركس” أمام الله الذي أشفق عليهم، وقال لهم: “لا تبكوا خذوا جنة عدن”، وهكذا منحهم منطقة القفقاس.

اسمهم “الأديغا”، أطلق عليهم اليونان لفظة “شركس” فتبناها الغرب والعرب والروس والأتراك. ويرجع عهدهم ببلاد المشرق العربي إلى عهد الدولة الأيوبية والتركية والشركسية في مصر وبلاد الشام؛ إذ أقام الشركس حكما لهم امتد 135 سنة، ثم انصهروا في مجموعة السكان العرب في فلسطين وسوريا والأردن.

الريحانية وكفر كما

ويذكر صاحب “الموسوعة السياسية” عندما تقدم الروس نحو الجنوب باتجاه بلاد الشركس في القفقاس في عهد إيفان الثالث والرابع (1558م) واحتلوها نهائيا سنة 1864م ثم أجبر الشركس على الهجرة خارج مواطنهم الأصلية. وقد ساعد العثمانيون الشركس في هجرتهم بغية الاستفادة من قدراتهم الحربية في المعارك التي كانوا يخوضونها في أوروبا الشرقية والبلقان، لكن الهزائم المتوالية التي لحقت بالعثمانيين أمام القوى الأوروبية أجبرت الحكومة العثمانية على ترحيل الشركس ونقلهم من أوروبا إلى بلدان المشرق العربي وشبه جزيرة الأناضول سنة 1878م، وهكذا وصل الشركس إلى فلسطين وسوريا والأردن، وتوزعوا في بقاع من أراضي هذه البلدان.

ولم تختلف صلات الود أو النزاعات بينهم وبين السكان العرب عما كان قائما بين أي قرية فلسطينية وأخرى، فقد كانت الروابط الدينية والإسلامية تشدهم إلى سكان البلاد، إضافة إلى تشابه نمط المعيشة الزراعية – الرعوية الذي كان يمارسه الشركس والعرب.

وقد استقر الحال بالشركس في قريتين هادئتين واحدة في منطقة الجليل الأعلى وتدعى “الريحانية” وسكانها من قبلية “إبزاخ”، والثانية في الجليل الأسفل وتدعى “كفر كما”، وقاطنوها من قبيلة “شابسوغ”.

قصتهم مع الجيش الإسرائيلي

ويتركز وجودهم في فلسطين 48 -حيث يبلغ عددهم حوالي 5 آلاف نسمة- حيث يخدمون بالجيش (الإسرائيلي)، ويتعلم أبناؤهم العبرية والعربية والإنجليزية قبل تعلمهم الشركسية، ومع ذلك فهم كما يقول المثل الشركسي: “النار تغلي والماء المغلي يطفئها”، فهم مسلمون وليسوا بعرب، فعلاقتهم بدينهم وأبناء جنسهم وثيقة، فهم محافظون، لباسهم محتشم، لا تباع الخمور في محالهم ولا تشرب في بيوتهم، تمنع العلاقات الجنسية قبل الزواج. يرسلون زكاة أموالهم إلى إخوانهم الشركس في القفقاس وتركيا والشيشان، ويقومون بحملات الإغاثة لإخوانهم المسلمين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وترجع قصتهم مع الجيش الإسرائيلي إلى خمسينيات القرن العشرين بعد سنوات قليلة من قيام إسرائيل عندما وقع مخاتير الطائفة الشركسية على انضمام أبناء الشركس للجيش الإسرائيلي، وأصبح التجنيد إجباريا للشباب الشركسي، وأصبح على كل ذكر بلغ 18 عاما أن يخدم في الجيش لمدة 3 سنوات.

وهو ما رفضه الكثير من الشراكسة، ولكن كانت الشرطة العسكرية الإسرائيلية تلاحق رافضي الخدمة في الجيش؛ ومن ثم تودعهم في السجون لفترات متفاوتة.

ومع إصرار الشباب الشركسي على عدم الخدمة في الجيش، وخاصة المتدينين منهم وافقت إدارة الجيش على إعفاء شخص واحد من كل قرية شركسية سنويا من الخدمة الإجبارية، وشكلت لهذا الغرض لجنة باسم “اللجنة الدينية”، ثم ارتفع العدد إلى اثنين، ثم إلى أربعة وكل من يرغب فوق هذا العدد بعدم الخدمة يمكنه تقديم طلب خاص بإعفائه منها.

العبرية والإنجليزية قبل الشركسية!

ومن المثير للغرابة أنه في الصف الأول يتعلم أبناء الشركس اللغة العبرية والعربية حتى التوجيهي وفي الصف الثالث يتعلمون اللغة الإنجليزية حتى الثانوية العامة، أما لغتهم الأم -الشركسية- فيتعلمونها في الصف الخامس ولمدة 4 سنوات فقط؛ وهو الأمر الذي أدى إلى وجود أمية لدى الطلاب الشركس في قراءة وكتابة لغتهم الأم ليقتصر استعمال اللغة الشركسية لديهم على المخاطبة.

وقد حاول  بعض مثقفي الشركس نشر القراءة والكتابة باللغة الشركسية بين أبناء قومهم بعد عام 1959، التي بدأت مع وصول المؤثرات الثقافية من الوطن الأم “القفقاس”، حاملة معها الأبجدية الروسية التي أخذت تكتب بها اللغة الشركسية في الاتحاد السوفيتي منذ العام 1936.

وقد استغلت إسرائيل ذلك في محاولة إحلال اللغة الشركسية مكان العربية التي كانت تدرس بها مناهج الشركس؛ ففي آب من العام 1973 استدعت وزارة التعليم الإسرائيلية أستاذا أمريكيا مختصا بالقفقاسيات واللغويات هو “كاتفورد J .G.CTFORD” من جامعة متشغان لتعليم الشراكسة الكتابة والقراءة بلغتهم خلال دورة دامت 6 أسابيع. وعلى الرغم من مقاومة الشركس لإلغاء اللغة العربية فإن العبرية قد أصبحت اليوم لغة التدريس في المدارس الشركسية.

التعليم عند الشركس

يتعلم أبناء الشركس المراحل الابتدائية والإعدادية داخل قراهم، ثم ينتقلون إلى مدارس القرى والمدن والمجاورة لإكمال المرحلة الثانوية.

وينقسم الأهالي في هذه المرحلة إلى فريقين: أما الأول فيرسل أبناءه إلى القرى والمدن العربية المجاورة مثل الناصرة ودبورية والجش.. وذلك للحفاظ على أولادهم من الانحراف واكتساب العادات اليهودية السيئة، وليتعلم الأبناء اللغة العربية لكونها لغة الدين والأداة المهمة للاتصال مع الأقارب الشركس في الدول العربية وبخاصة في الأردن وسوريا. أما الفريق الثاني فيرسل أولاده إلى المدارس اليهودية وبخاصة إلى مدينة “العفولة” وإلى المدرسة الزراعية في “خضوري”.

ويلاحظ في السنوات الأخيرة ازدياد الإقبال على المدارس العربية سواء في المراحل الثانوية أو الابتدائية، وهو ما يعود إلى تنامي الحس الديني لديهم كما يقول أولياء الأمور.

وفيما يخص التعليم الجامعي فقد شهدت السنوات الأخيرة تزايد الملتحقين من أبناء الشركس بالجامعات والمعاهد العليا بعد أن كنت بالكاد قبل 10 سنوات تجد واحدا أو اثنين يلتحقون بالجامعة.

الزواج بالخطف

trad

لا تزال عادات الشركس وتقاليدهم سمة مميزة لهم تحت الاحتلال 

وللشركس عادات خاصة بالزواج، حيث يتناكحون بإحدى الطريقتين التاليتين:

الخطف: فبعد أن يتفق الشاب والفتاة على الزواج يحددان مكانا تنتظره فيه الفتاة فيذهب الشاب ترافقه امرأتان متزوجتان من أقاربه إلى المكان المحدد وتأخذان الفتاة إلى بيت إحداهما، ويرسل العريس بعدها واحدا من أقاربه إلى أهل العروس لطلب يدها، وغالبا ما تتم الموافقة وإذا ما رُفض العريس فإن الفتاة تعود إلى أهلها، ويلجأ العريس لأسلوب الخطف إذا شعر أن أهل الفتاة سيرفضونه للضغط على الأهل حتى يوافقوا على طلبه.

أما الطريقة الثانية وهي المعتادة: فيذهب خال العريس أو أخوه الكبير وبعض الأقارب إلى أهل الفتاة لخطبتها من أهلها -ولا يذهب الأب أو الأم معهم- ويعودون وقد حددوا موعد عقد الزواج؛ ذلك لأن الموافقة تكون معروفة سلفا. فالعلاقة بين الشاب والفتاة تكون لدى الشركس قبل الزواج، وهي معروفة للأهل وتسمح العادات الشركسية للشاب بمكالمة الفتاة بالهاتف والذهاب لزيارتها بالبيت قبل الزواج، ولكن لا يسمح له بالجلوس داخل البيت معها وإنما في حديقة البيت، ولا يسمح له بالخروج معها وإنما يتم اللقاء داخل بيتها.

ويكون عقد الزواج والزفاف غالبا في يوم واحد، حيث يعقد الزواج صباحا بحضور أهل القرية وتوزع الحلويات العربية على المدعوين، وفي المساء يكون الزفاف بحيث تخرج الزفة من بيت العريس يصاحبها الموسيقى والتصفيق إلى بيت العروس لإحضارها، وبعد العودة يتناول المدعوون طعام العشاء حيث يكون هناك مكان معد للرجال منفصل عن ذلك المعد للنساء، وبعد العشاء تبدأ حلقات الرقص الشركسي. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة الطلاق شبه معدومة لدى أبناء الطائفة الشركسية.

يرقصون الشاشن والكاشوا

إن الموسيقى الأديغية مليئة بالألحان التي يرافقها الغناء والرقص، كما أن الأدوات الموسيقية الشركسية كثيرة منها الناي الأوكورديون والدف… إلخ.

وتنقسم الموسيقى الشركسية إلى وتيرتين من حيث الأداء: الأولى بطيئة وتدعى “كاشوا”، وهي عبارة عن موسيقى هادئة ترافقها رقصة باسم “زافاكوا”، ويؤديها راقص وراقصة بحيث يقفان أمام بعضهما البعض ويتبادلان الأماكن أثناء تأدية الرقصة بحركات فنية جميلة مميزة وهي معدة لكبار السن.

أما الوتيرة الثانية فهي الطريقة “السريعة”، حيث يرافقها رقصة باسم “شاشن” ويؤديها كذلك رجل وامرأة  وتكون حركاتهما دائرية، ولا تبدأ الرقصة إلا بإذن من مشرف الرقص المدعو “حتي اكو”، أما نهايتها فالراقصة هي المخولة بالإعلان عنها، كما أنها تقود الرقصة، وتمثل المرأة فيها النعومة والهدوء بينما يمثل الرجل الرجولة والشجاعة والقوة.

وللرقص الشركسي قواعد أخلاقية شائعة؛ فالرقص يكون فقط بين اثنين ولفترة مؤقتة وبدون أي تلامس جسدي بينهما أثناء الرقص.

وتوجد أنواع أخرى من الرقص الشركسي الجماعي، ولكنها تنتمي أكثر للماضي ويرقصها  الراقصون المحترفون فقط، كما تأثرت الموسيقى الشركسية بالشرق الأوسط ومن البيئة العربية المحيطة.

حجغبس.. ماتازا.. حلجوا

رغم تأثر المطبخ الشركسي في إسرائيل بالبيئة الجديدة وبخاصة المطعم العربي فإنه حافظ على بعض الأكلات الشركسية المشهورة، وهي:

1- “حجغبس” وتعني بالشركسية الدقيق والماء، فـ “حجغ” تعني الدقيق، و”بس” تعني الماء، وهي عبارة عن دقيق مع مرق الدجاج، بالإضافة إلى البهارات، وتؤكل مع كرات الأرز التي يطلق عليها اسم “الباستا”.

2- “ماتازا” وهي عجين محشو بالبصل الأخضر والجبن الشركسي، توضع بالماء المغلي حتى يتماسك العجين، ثم تخرج منه لتصبح جاهزة للأكل.

3- “حلجوا” وهي عجين محشو بالجبن أو السبانخ، وتكون بشكل دائري، فإذا كانت محشوة بالجبن فإنها تقلى بالزيت، وإذا كانت محشوة بالسبانخ فإنها توضع بالفرن وتوزع هذه الأكلة في المآتم وبيوت العزاء.

الزي التقليدي للمناسبات

cu

الشركس في زيهم التقليدي 

ويتألف لباس الرجل الشركسي التقليدي من سروال ملون فضفاض يتوسطه سكين طويل مستقيم، بالإضافة إلى قميص يلبس فوقه سترة كبيرة من الجلد مع جيوب خاصة للرصاص وينتعل حذاء طويل من الجلد. أما غطاء الرأس فهو قبعة سوداء اللون مصنوعة من الجلد.

أما لباس المرأة الشركسية التقليدي فعبارة عن ثوب طويل فضفاض تتوسطه زخارف خفيفة في منطقة الصدر مع قبعة طويلة يتدلى من أعلاها منديل شفاف ليغطي الرأس ويدعى بالشركسية “شامية”.

لم تعد هذه الألبسة التقليدية مستعملة حاليا؛ لأنها كانت مصممة للمناطق الجبلية؛ لذا فهي غير ملائمة للمناخ المعتدل الموجود في (فلسطين 48)، إضافة إلى كونه غالي الثمن، فاقتصر لبسه على الفرق الموسيقية الشركسية في الحفلات والمناسبات الخاصة.

تلقاه في الجنة

ومن المعلوم عند  الشركس أنهم حين يسمعون المؤذن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مرارا يعرفون أن شخصا ما قد توفاه الله؛ فيهرعون إلى المقبرة للمساعدة في حفر القبر ولمعرفة من المتوفى.

ويلتزم الشركس بكثير من سنن الرسول عليه الصلاة والسلام عند موت أحدهم، فمثلا مغسل الأموات عندهم رجل متدين، كما أنهم يعجلون الدفن ويصنعون لأهل الفقيد الطعام، ويجتمعون لعزائهم ولكن بجملة شركسية مشهورة “إن شاء الله تلقاه في الجنة”. ومن عاداتهم عند الموت أن تقوم النساء بقراءة القرآن بين المغرب والعشاء لمدة 3 أيام في بيت الفقيد.

الدين.. من أجل لحظة واحدة

“قبل سنوات خلت كان التدين مقتصرا على الكبار” هكذا قال الشاب إسحاق حاخو -من قرية كفر كما- بلكنة شركسية، مضيفا: “أما اليوم فهناك تزايد في الإقبال على التدين وبخاصة لدى الشباب، وهذا ملاحظ من خلال المشاركة في النشاطات الإسلامية في البلاد من ترميم المسجد الأقصى إلى مشروع طفل الأقصى والمهرجانات الإسلامية، بالإضافة إلى حضور دروس  تحفيظ القرآن الكريم والسيرة النبوية واللغة العربية في المسجد وتأدية العمرات الجماعية”.

ويؤكد ذلك  الشيخ يوسف أشموز -من كفر كما- قائلا وبلغة عربية فصيحة: في هذه الأيام يقوم الشركس بجمع زكاة أموالهم وإرسالها إلى إخوتهم الشركس في دوزجة في تركيا حيث الفقر والمعاناة، وقد قاموا قبل ذلك بحملات إغاثة لإخوتهم الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والشيشان، وقبل أسبوع تم الاحتفال للعام الثاني على التوالي بحفظة القرآن الكريم، كما أنه هناك شد رحال كل شهر بشكل جماعي إلى المسجد الأقصى.

أما في المجال السياسي فيشير أشموز إلى وجود “قائمة النور الإسلامية”، ولها 3 أعضاء في المجلس المحلي في كفر كما، فهي تعمل من أجل الإبقاء على تدريس اللغة العربية في مدارس القرية والتخلص من التجنيد الإجباري للشركس، إضافة إلى نشاطاتها الكثيرة الأخرى. وعلى الصعيد النسوي فهناك إقبال ملحوظ على ارتداء الحجاب وحضور الدروس الدينية، بالإضافة إلى الالتزام بالتعاليم الإسلامية.

ولعل أجمل تشبيه لتمسك الشركس في فلسطين 48 “تحت الاحتلال” بدينهم قاله عجوز شركسي تدل تجاعيد وجهه على خبرته في الحياة: “الرجل يمسك سلاحه كل حياته من أجل لحظة واحدة”.

 


 

Share Button

تصريحات ودراسات روسية مثيرة للجدل

تصريحات ودراسات روسية مثيرة للجدل

بقلم: علي كشت

صدرت في الاونة الاخيرة مجموعة من التصريحات والدراسات الروسية الرسمية،  التي اقل ما يمكن وصفها بالعنصرية ، هذه التصريحات والدراسات تدل على وجود مشكلة مؤرقة لصانع القرار الروسي وان هناك نوع من التخبط بشكل واضح من اجل حلها او التكتم عنها، الا انه على ما يبدو ان  هذه المشاكل امست غير قابلة للعلاج بالطرق الروسية المعتادة، وهو ما يفسر ظهورها على السطح بصورة تثير عدة تساؤلات حول ما هيتها وحقيقتها، فقد نشر موقع وكالة انباء القفقاس بتاريخ 1/8/2009 خبراً حول اعداد مجموعة من الخبراء الروس لائحة شملت 84 منطقة وجمهورية في الفدرالية الروسية تشير الى ان منطقة شمال القفقاس ليست من الأماكن المفضلة للروس،اعتمد الخبراء لدى إعدادهم القائمة على معايير عدة كمستوى الرواتب والدخل الأدنى وأسعار العقارات ونسبة البطالة حسب ادعاءهم، وقد احتلت المناطق الغنية بالبترول المراتب العشرين الأولى على اللائحة في حين احتلت الجمهوريات القفقاسية درجات متدنية حيث جاءت الأديغي في المرتبة 42 والقبردي ـ بلقار في المرتبة 67 ، أوسيتيا الشمالية في المرتبة 52، داغستان في المرتبة 69، القرشاي ـ شركس في المرتبة 74، الشيشان في المرتبة 83 أما المرتبة الأخيرة فكانت من نصيب أنغوشيا، وجاءت منطقة كراسنودار في المرتبة 34 وآستراخان 36 وستافربول كراي 45 وروستوف 53، وبالرجوع الى بيانات اقتصادية سابقة يلاحظ وجود نوع من التضليل حول نتائج هذه الدراسات حيث أن جمهورية الاديغية مثلاً كانت قد احتلت عام 1997(عندما كانت الاوضاع الاقتصادية مخيفة في روسيا الفدرالية) المرتبة السابعة عشرة في الفدرالية الروسية والمرتبة الأولى لمنطقة شمال القفقاس من حيث الشروط والاتفاقيات الاستثمارية والنمو الاقتصادي، اي انه من المفترض ان اقتصاد الاديغية كان يسير على طريق الصحيح وكان يتمتع بالقوة، ولكن وبقدرة قادر تتراجع الاديغية وتصبح جمهورية فقيرة ومعدمة وضعيفة اقتصادياً هذا التحول السريع جاء متزامناً مع الخطط التي ظهرت بعد العام 1997 الهادفة الى دمج الجمهورية بمقاطعة كرسنودار المجاورة، ومنذ ذلك الوقت تصدر الدراسات الاقتصادية الروسية المركزية التي تظهر وجود تباين كبير بين الاديغية ومقاطعة كرسنودار وبين جمهوريتي قباردينو/بلقاريا والقرشاي/شركس ومقاطعةستافربول،رغم ان احدى الدراسات التي اجريت في بداية الالفية الحالية افادت بان النفط المتواجد في شمال القفقاس والممتد على اراضي الجمهوريات الشركسية وجمهورية الشيشان يكفي لسد احتياجات المنطقة لمدة 150 عاما، ناهيك عن الموارد الطبيعية والسياحية الاخرى للمنطقة الشركسية، الدراسات الدولية كانت دوماً في تناقض مع الدراسات الروسية ففي 29 تشرين الاول /2008 – المنتدى الاقتصادي العالمي دافوس قام بتصنيف البلدان من حيث قدرتها التنافسية وقام الباحثون الرّوس بتطبيق المقياس على 38 من مناطق روسيا ووجدوا انّه العديد منها ستكون افضل حالاً اقتصادياً  لو انها كانت دول  مستقلّة بدلاً من وجودها في الفدرالية الروسية، وعند تناول جمهوريات  قباردينو-بلقاريا والقرشاي/شركس والاديغية، وجدت الدراسة ان هذه الجمهوريات تتمتع بقدرة تنافسية اقتصادية تتساوى فيها مع مصر وكازاخستان على سبيل المثال وان قدرتها الاقتصادية قادرة على التفوق على اقتصاديات دول مستقلة مثل أذربيجان وباكستان وبلغاريا، هذه التناقضات وغيرها لعبت دوراً في اثارت شكوك حول الحقيقة التي تسعى الدولة الروسية من وراء نشر فكرة التدهور الاقتصادي في شمال القفقاس، اضف الى ذلك عدم وجود مساواة بين المناطق الشركسية والروسية في الدعم المالي للمركز.

اضافة الى هذه الدراسات تظهر العديد من التصريحات ذات المضمون العنصري من قبل مسؤولين روس رفيعي المستوى فمثلاً طلب الممثل الخاص للرئاسة الروسية في المناطق الفدرالية الجنوبية فلاديمير أوستينوف من الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف مد يد العون لوقف هجرة الروس المتزايدة من شمال القفقاس،وتحدث أوستينوف عبر لقاء جرى بالأقمار الصناعية مع ميدفيديف في العاشر من شهر تموز الماضي عن المشاكل التي تعاني منها منطقة شمال القفقاس وعلى الأخص البطالة التي قال إنها تدفع الروس لمغادرة المنطقة، وقد ذكرت الجملة التالية وبشكل حرفي:” نحن الآن بصدد إعداد رسالة موسعة لفخامتكم حول هذا الأمر راجين منكم الدعم لجعل الصناعة بأيدينا في هذه الجمهوريات القومية وعدم ترك الروس (يغادرون القفقاس)”، لقد اثار هذا التصريح ردود فعل غاضبة من قبل القفقاسيين ومنهم الشراكسة، وذلك للعنصرية الواضحة فيه، فالسيد أوستينوف غير قلق بالحالة الاقتصادية لشمال القفقاس سوى لان الروس يرحلون بسببها حسب قوله، ولو ان الروس لا يرحلون فانه لا يبالي بالحالة الاقتصادية اطلاقاً، ومن جهة اخرى كان استخدام لفظ الروس اي المنحدرين من اصل سلافي اثر واضح على عنصرية فكر القيادة الروسية، فاذا كانت روسيا هي ام الجميع كما تدعي وان مواطنيها كلهم متساوون في الحقوق والواجبات وان منطقة شمال القفقاس جزء لا يتجزأ من روسيا وان شعوبها هم مواطنين في الفدرالية الروسية التي تقوم على اسس الديمقراطية والتسامح والمساواة فلماذا هذا الخوف من مغادرة الروس للقفقاس اليس القفقاسيين روساً ايضاً؟!! ان هذا التناقض الرهيب يكشف حقيقة السياسة الروسية التي ومن خلال هذه التصريحات تعترف ضمنياً بان شمال القفقاس منطقة محتلة ولا بد من تدعيم الوجود الروسي فيها، فهناك فرق بين الشركسي وروسي في المواطنة، وهناك خوف من استعادت هذه المناطق لشعورها وفكرها القومي.

ان حقيقة هذه التصريحات والدراسات الاستفزازية تكمن في رغبة روسيا في تحقيق مجموعة من الاهداف، بداية فان موسكو تسعى منذ تولي السيد بوتين مقاليد الحكم الى اتباع سياسة دمج المناطق الفدرالية وذلك بغية تذويبها وصهرها في البوتقة الروسية وروسنة كل القوميات الاخرى الموجودة فيها، ولهذا عمدت السلطات الفدرالية على اتباع سياسة خلق المشاكل العرقية والاجتماعية في الجمهوريات القفقاسية وخاصة الشركسية منها بغية جعلها تنشغل بهذه المشاكل وابعادها عن متابعة تطورها الاقتصادي، فاججت المشاكل بين الشراكسة والقوميات العرقية الوافدة على ارضهم لجعلهم في حالة صراع مع هذه العرقيات التي تعتبر الاداة المثلى في يد روسيا تاريخياً، اضف الى ذلك المحاولات الروسية لخلق المشاكل الاقتصادية لوضع اعباء على كاهل الجمهوريات الشركسية ودعم المناطق المجاورة  بالشكل الذي يظهر ضعف هذه الجمهوريات وضرورة دمجها مع المناطق الاخرى التي هي افضل حالاً اقتصادياً، وحتى عملية الدمج هذه فيلاحظ بان المركز الفدرالي قام بتقوية المناطق التي يشكل الروس فيها اغلبية مثل كراسنودار (على الرغم من انها ارض شركسية تاريخياً) وذلك من اجل جعل الشراكسة اقلية في حالة دمج الاديغية مع كراسنودار ونفس الامر ينطبق على مقاطعة ستافربول وجمهوريتي قباردينو/بلقاريا والقرشاي/شركس ، اي ان الخطة الروسية كانت تقوم على افقار مناطق شمال القفقاس وبث الدعاية الاعلامية اللازمة وذلك بغية دمجها وفق مخططات روسية تحت ستار الحالة الاقتصادية المتدهورة لكن ما حصل ان الروس المقيمين في القفقاس هم  من الحق بهم الاذى نتيجة هذه السياسية ، حيث ان الشركسي مضطر الى البقاء في القفقاس فلذهاب الى موسكو مثلاً قد يعنى قتله على ايدي حلقي الرؤوس الروس او العصابات، وفي اغلب الاحيان ونظراً لاتباع سياسة الفصل العنصري ( وهنا نعني الفصل العنصري(Apartheid) وليس التمييز العنصري(Discrimination) لان الفصل العنصري هي سياسة تطبقها الدول مثلما كان متبع بجنوب افريقيا اما التمييز العنصري فيتم تطبيقها من قبل الافراد) من قبل الدولة الروسية بحق الشراكسة فانه يجبر على البقاء في القفقاس والتكييف مع جميع الصعاب رغماً عنه، بعكس المواطن الروسي الذي له الحرية في التنقل اينما اراد وبهذا انقلب السحر على الساحر وبدأ الروس بمغادرة القفقاس وبقاء الشراكسة الامر الذي اثار حفيظة موسكو، وقد جاء تصريح رؤساء القازاق ليكشف حقيقة السياسة الروسية والذي جاء فيه” أن إعادة هيكلة منطقة شمال القفقاس عبر إحياء منطقة تيريك كما كان في العهد القيصري من شأنه توطيد ركائز الاستقرار في المنطقة والمساهمة في حل الخلافات بين شعوبها”،وكان رئيس اتحاد قازاق تيريك ميخائيل إنكافستوف في اجتماع عقده رؤساء القازاق مطلع الشهر الحالي في مبنى إدارتهم في عاصمة أوسيتيا الجنوبية فلادي قفقاس قد اكد بإنهم بصدد إعداد طلب حول هذا الخصوص سيتقدمون به لمجلس الدوما، وتحدث قائلا: “يجب أن تحتل القبردي ـ بلقار والشيشان وأنغوشيا وأوسيتيا الشمالية وداغستان وستافربول كراي مكانها في منطقة تيريك وأن تلحق الأديغي والقرشاي ـ شركس بكوبان”، وزعم إنكافستوف أن منطقة تيريك كانت غنية جدا في عهد القياصرة مردفا: “لقد كانت تكتفي بنفسها وتقدم 2 مليون قطعة ذهبية للخزينة لكن بعد ذلك استلم البولشيفيون الحكم وهدموا المنطقة مما تسبب بظهور مشاكل إقليمية في القفقاس… إن جميع جمهوريات شمال القفقاس تحصل على مساعدات الآن وجميعها تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية حادة ونظام الإدارة فيها نظام قبلي، يجب اعتبار أن جمهوريات شمال القفقاس قد أفلست ويجب جلب نظام إدارة خارجي. إن الوضع في جمهوريات شمال القفقاس تسبب بمغادرة الروس لها عقب انحلال الاتحاد السوفيتي ففي البداية ظهرت النزعة القومية وبعد ذلك الأزمة الاقتصادية وانهيار الصناعة مما تسبب ببطالة آلاف الأشخاص ومغادرتهم المنطقة وفي حال استمر الوضع على ما هو عليه سيستمر الروس بمغادرة المنطقة لأن إمكانية عثورهم على عمل ضئيلة جدا، إن إعادة تشكيل منطقة تيريك سيحل أولا المشاكل السياسية وسيزيل الانتقادات الإقليمية التي توجهها بعض الشعوب لبعضها الآخر ولن يبقى هناك مفهوم “شعب بوصف وشعب بلا وصف”.

اذاً الهدف هو اعادة ترتيب منطقة شمال القفقاس وتغير بنيته بصورة تقضي على الهوية القومية الشركسية، وهذا الامر ليس جديداً بل ان المتتبعين والمختصين بالشؤون الشركسية يلاحظون تكرار الحقبة القيصرية والسوفيتية مرة اخرى ولكن هذه المرة تحت رعاية الفدرالية الروسية، ففي العهد القيصري وبعد سقوط شركيسيا جرى تقسيم البلاد الى مناطق عسكرية على مستويات مختلفة من حيث الحجم و الصلاحيات، وكان تجرى عليها تعديلات بين الحين والأخر، وقسمت منطقة الترك العسكرية الى عدة مناطق، فالمنطقة الغربية شملت نواحي القبرداي و اوسيتيا و الانخوش ، و المنطقة الوسطى شملت نواحي اتشكيريا و اراغون وفي العهد السوفيتي تم بث التفرقة بين شعوب المنطقة وروُعي في تقسيمات جمهورية القبرطاي /بلقر ومقاطعتي الكرتشاي /شركس و اديغة تشتيت شعب من خلفية عرقية واحدة ومزج شعوب من خلفيات عرقية مختلفة،  فالمنطق العملي كان جمع القبرداي والشركس والاديغة وهم جميعا من شعب الأديغة (سكان القفقاس الاصليين) وتجمعهم لغة واحدة في تقسيم أداري واحد، إلا أن سياسة (فرق تسد) جعلتهم يتم توزيعهم على وحدات مجزأة صغيرة و يصبحوا أقلية سكانية في بعضها وأمكانية أحداث خلافات ونزاعات في مناطق الأدارية بما يساعد على دوام السيطرة المركزية من موسكو ، وهذا ما يريد تطبيقه مرة اخرى في روسيا الديمقراطية.

الا انه ومن خلال تتبع التطورات السياسية في شركيسيا فانه يلاحظ ان الهروب المتزايد للروس سببه اشتداد رياح الحرية في المنطقة الشركسية فالمؤتمرات الشركسية منذ مؤتمر تشركيسك العام الماضي اعادة المشروع القومي الشركسي الى الوجود وهو اعادة بعث شركيسيا من جديد، والجدير بالذكر بان هذا الاقتراح الداعي لاعادة تشيركسيا العظمى  تمت مناقشته بصورة واضحة وصريحة من قبل المجتمع الشركسي في الفدرالية الروسية بعد ان كان خلال الحقبة السوفيتية يعتبر دعوة الى الانفصال والتطرف ويصتف تحت بند الخيانة العظمى،جوهر المشروع يقوم على اعادة توحيد ودمج ثلاث جمهوريات ومنطقة من  شمالا القفقاس حيث الشركس يشكلون الأغلبية المهيمنة عرقياً،وتتجه شرقا ، وتشمل منطقة الشابسوغ في سوتشي وجمهورية الاديغية وقرشاي/شركس وقباردينو/بلقاريا، ويعتقد البعض ان الفضل في الجرأة الشركسية يعود الى ديمقراطية روسيا اليوم، ولكن في الواقع فان الشراكسة حتى ابان الفترة السوفيتية لم يكونوا خاضعين وخائفين بل انهم تواجهوا مع السوفيت كثيراً وتكفي الاشارة الى احدى الحوادث في  عام 1937 حيث القي القبض على حوالى خمسين من العلماء الأديغه وقتلوا رميا بالرصاص بسبب مواقفهم القومية.

ان شركيسيا ليست منطقة فقيرة كما يروج اليه الروس ولو كانت كذلك لكانت موسكو قد تخلت عنها منذ زمن، فهي غنية بمصادرها الطبيعية التي تنتظر ان تستثمر بالشكل المناسب وهذا الامر لن يتحقق سوى باحلال الاستقرار في المنطقة وتوقف موسكو عن سياسة فرق تسد واشعال الصراعات العرقية وقمع الحريات ومصادرة الحقوق الشركسية والتعتيم عليها، ان الشراكسة يعيدون ترتيب انفسهم وفكرهم السياسي اصبح يتبلور من جديد وقوميتهم تيعث من بين الرماد، ولهذا يجب على موسكو ان تتخذ النموذج العقلاني في اتخاذ القرار وان تعترف ان السبب في هروب الروس هو عدم قدرة الفكر الروسي على تقبل الحقيقة القائمة على ان الشراكسة هم الحقيقة الخالدة اما الاخرون فهم السراب الذي يلزمه الوقت فقط للاختفاء.

 

Share Button

نرحّب بتدوين كافّة المشاركات والتعليقات