القضيّة الشركسيّة: بين المطامح القوميّة والمطامع الدوليّة – د. نارت قاخونv

القضيّة الشركسيّة: بين المطامح القوميّة والمطامع الدوليّة – د. نارت قاخون


الجزء الأول

لا يوجد في عالم السياسة وقضاياها تمايز واضح قاطع بين الخير والشرّ؛ فالمسألة ليست مجرد اختيار بين أبيض ناصع بياضه وأسود حالك سواده في عالم الطيف السياسيّ، فالاختيارات الممكنة في ظلّ تجاذب الواقع و طموح أصحاب القضايا وأبنائها من جهة – والقضية الشركسية مثال جلي هنا مع افتراض وجود ملامح واضحة للقضية عند من يعمل لأجلها – وتدافع المطامع والمصالح الإقليمية والدولية، هذا التدافع الذي يكون تقاطعاً مرات وتناقضاً مرات أخرى، كلّ هذه التجاذبات تحيل مساحة الاختيارات والتوجهات إلى ساحة مختلطة الألوان تزيد في تنوعها وصعوبة تمييز درجاتها عن ألوان الطيف الشمسي، ممّا يجعل الناشطين لقضياهم مطالبين أن يفاضلوا بين خير الخيرين وشرّ الشرين – كما يقول علماء المقاصد – وليس بين خير بيّن وشرّ ظاهر.

والقضية الشركسية ليست استثناء من القضايا ذات البعد السياسي، بل تكاد تكون العوامل الدولية والإقليمية والقومية في تداخلها وتقاطعاتها أشدّ تعقيداً وأكثر غموضاً في القضية الشركسيّة من غيرها من القضايا؛ فلا نزال لغاية اليوم لا نستطيع حسم الأدوار المختلفة التي لعبتها القوى الدولية في القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين في تحديد مسار الحالة الشركسيّة، وإن كنّا نتفق على ما قامت به روسيا القيصرية من عمليات إبادة جماعية وتدمير همجي لبلاد القفقاس، فلا يزال الدور العثماني التركي ملتبساً عند البعض – أعني دورها في القرن التاسع عشر الذي شهد نهاية الحروب الروسية على القفقاس دون إغفال دورها (أي الدولة العثمانية) في القرون 15-18 في ظل الصراع مع خانات القرم وإيران وروسيا على القفقاس- فهناك من يرى في الدولة العثمانية شريكاً في المأساة الشركسيّة حين ساهمت في تهجير الشراكسة من أرضهم ووطنهم القفقاس ضمن اتفاقيات أو توافقات مع روسيا القيصرية كجزء من حلّ مشكلاتها المتفاقمة معها، سواء كعمليات تبادل سكاني بمسوغات دينية وعرقية، أو لحلّ مشاكلها الداخلية وحروبها التي لا تنتهي مع سكان أمبراطوريتها الآخذة بالتلاشي والزوال. ومن جهة أخرى يرى آخرون أن تحميل الدولة العثمانية هذا الوزر في القضية الشركسية ظلم لها وتجاوز لواقع الدولة العثمانية آنذاك؛ فالدولة العثمانية في القرن التاسع عشر لم تكن تلك الأمبراطورية التي تفرض حضورها وقوتها على العالم والدول المجاورة كما في القرون 16-18، فالدولة العثمانية في ذروة الحروب الروسية على القفقاس في منتصف القرن التاسع عشر كانت دولة مثقلة بالأعباء الداخلية مرهقة بالتدخلات الأجنبية تواجه مصير زوالها القادم ببقية من كبريائها الأمبراطوري السابق، فلم يكن بإمكان الدولة العثمانية أكثر من أن تساهم بإنقاذ من يمكن إنقاذهم من ضحايا الحروب الروسية على القفقاس حتى لو كان ذلك بتهجيرهم وإخراجهم من أرضهم.

لست هنا في مقام حسم الرأي والقطع به في هذه المعضلة، ولكنني سقتها مثلاً تاريخياً لحقيقة التداخلات الدولية وتدافعات مصالحها وإمكانياتها في تشكيل ملامح القضية الشركسية، فإذا كان هذا جزءاً من الماضي فهو لا شك جزء من الحاضر والمستقبل، فقضية الشراكسة وشمال القفقاس تتجاذبها اليوم مطامع قوى كبرى دولية وأخرى إقليمية وثالثة قفقاسية ورابعة داخلية شركسية! والطلب أن تكون القضية الشركسية قضية خالصة الشركسية لا تتماس مع كلّ هذه القوى والمصالح طلب مستحيل في عالم السياسة والواقع، لذا ينبغي أن يكون الحراك الشركسي على أعلى درجات الوعي والدهاء السياسي يحاول استثمار كلّ هذه التجاذبات لصالح الأهداف العليا للقضية الشركسيّة، ولكن قبل ذلك مجموعة كبيرة من الأسئلة والإشكاليات لا بدّ من بذل كلّ جهد عقلي وفكري شركسي للإجابة عليها وفكّ معضلاتها، ولهذا فللحديث بقية.

الجزء الثاني

أنتهينا إلى أنّ حجم التداخلات الدولية والإقليمية وقوتها في القضية الشركسية يفرض على أصحابها التزوّد بكامل طاقتهم من الوعي والفهم السياسي ليخرجوا من هذه التدافعات بما يعود على قضيتهم بالفائدة ويساهم في بلوغهم غاياتهم دون أن يكونوا أدوات في أيدي غيرهم تُترك متى انتهت المهمة الموكولة لهم ليقول القائل: ليت الذي جرى ما جرى!..وفي المقابل دون أن يكونوا حالة سلبية ساكنة لا تتفاعل مع القوى المتفاعلة ولا تستثمر حراكها لتظل القضية الرشكسية خارج موازين الفعل الدولي وحساباته، ولعل الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية ودولة روسيا الاتحادية يشكّل العامل الأبرز في حالة التدافع الدولي والتداخل في المطامع والمصالح؛ فروسيا التي تريد إعادة الدسم السوفيتي لها – وإن كان خالياً من الشيوعية مليئاً بالرأسمالية هذه المرة –لا يمكن أن تفرّط بشمال القفقاس في ظل التوسّع الأمريكي عسكرياً وسياسياً واقتصادياً على تخوم أمبراطوريتها! إضافة لعوامل داخلية جيوسياسية وديمغرافيّة تجعل من القفقاس قضية مصيريّة لروسيا. وفي الوقت نفسه لا يمكن تجاهل النزوع الأميريكي للسيطرة على العالم ومنه روسيا التي يراد لها أن تظلّ مخنوقة تتحس خواصرها خطراً حتى لا يخرج المارد من قمقمه لتعود حكاية القطبين التي بذلت أمريكا وسعها لاختزاله في قطب واحد هو أمريكا نفسها. وتحت هذا الصراع بين الدولتين تسكن صراعات أخرى إقليمية وقفقاسية تتأثر كلاً أو جزءاً بصراع الدولتين – وليس أدل على ذلك من قضية جورجيا – وهذه الصراعات كلّها تفرض نفسها على القضية الشركسية.

هنا أجد نفسي مضطراً للتذكير بما أراه الدرس الأول في عالم السياسة وهو: لا يوجد في السياسة عدو دائم ولا صديق دائم، بل هناك مصالح دائمة. والضالعون في السياسة – ولست منهم. ولكن أظن من نفسي شيئاً من العلم والمعرفة يبيح لي القول.- يعلمون تمام العلم أنّ القضية الشركسية لا يمكن لها أن تتحرك بمعزل عن التأثّر والتأثير بمجمل هذه القوى، ولكن السؤال الأهم والأخطر هو: كيف نضمن دوام المصلحة؟ وكيف نخرج من تدافعات هذه القوى دون أن نكون ضحايا لأطماعها وأهدافها المعلنة وغير المعلنة؟ وقبل أن يخرج إليّ من يقول: وهل تملك أنت الإجابة وخطة العمل؟ أقول: لا بد أولاً من تجاوز مرحلة المراهقة السياسية المعتمدة أسهل الإجابات وأبعدها عن الوعي السياسي في الوقت نفسه: أعني بذلك نهج التخوين والتخوين المقابل! واختزال الناشطين للقضية الشركسية بالعمالة لروسيا أو أمريكا! وكأنّ الأمر لا ينفك أن يكون اخياراً بين عمالتين! والواقع أكثر تعقيداً من ذلك وتشابكاً، فحين تتقاطع المصلحة القومية الشركسية مع مصالح روسيا لا يكون الحلّ أن نفوّت مصالحنا أو نرتدّ عليها درءاً لشبهة تقاطعها مع روسيا، وفي المقابل إذا تقاطعت المصلحة القومية الشركسية مع مصالح أمريكا وحلفائها لا يكون الواجب أن نخذل مصلحتنا خوف الاتهام بالعمالة لأمريكا؛ فالخيارات المتاحة أمامنا – كلّ الخيارات- تتقاطع مع هذه الجهة وتتعارض مع الأخرى وبالعكس؛ فالمصلحة القومية الشركسية الخالصة لا توجد إلا في نفوس أبنائها، فإذا أردنا أن نكون فاعلين فلنكن متفاعلين مستفيدين لنخرج من تناقضات المصالح والمطامع الدوليّة سالمين غانمين محصنين بالوعي والإيمان، فإن كانت الأيام تتداول وتتقلّب فلا بدّ أن تقوم للحقّ دولته؛ فدولة الباطل ساعة، ودولة الحقّ إلى قيام الساعة.

د. نارت قاخون


http://www.circassiannews.com/?p=5049


Published on: Circassian News

Share Button

اترك تعليقاً