الرواية الشركسية المعربة (حكيم تيونوف)

الرواية الشركسية المعربة (حكيم تيونوف)

د. إيمان بقاعي

الرواية الشركسية المُعرَّبة
حكيم تيونوف: (الأم الثّانية)[1]

الرّواية مِن نوع جديد يختلف عما رأيناه في “البذرة الأخيرة” و”دوي الرّعد”.

إنها رواية الحياة الجديدة والوطن الجديد… ولا تخلو الرّواية مِن الحرب، كما لا تخلو مِن الأعداء والنضال، لكنها حرب الألمان للاتحاد السوفيتي والنضال ضدهم، مِن دون التفرقة بين روسي وشركسي، إذ يتحد – في الرّواية – الوطن ضد عدو مشترك حمل الدَّمار والحرب والموت.

بطل القصة هو أحمد كابارديني[2] الّذي استشهد والده – وكانَ قد درس أثنوغرافيا[3] الشّعب الكابارديني – دفاعًا عن الوطن أثناء هجوم الألمان على روسيا، تاركًا كتاب: (قطعة الذّهب)، الّذي بحث فيه عن أساطير شعبه الشّركسي الّتي تشبه كلُّ واحدة منها قطعةً كبيرةً أو صغيرةً من الذهب تحتاج إلى جمع وصقل ليراها النّاس فيقرؤوا حياة الشّعب الشّركسي في القديم الغابر وكذلك أفكاره وآماله[4].

يقول عنه صديقه ومربي ابنه ليونيد بتروفيتش: “لم يكن له هدف في الحياة إلا خدمة الشّعب، وقد ضحى بروحه ليظل وطنُنا حرًّا”[5]

كذلك نرى أن ليونيد – في معرض حديثه عن صديقه والد أحمد – يتوحد به ويوحد الوطن بقوله: “ليظل وطنُنا حرًّا”.

وتستمر الرّواية منذ صفحاتها الأولى لتركز على قضية الوطن الواحد المتجه إلى أهداف واحدة.

ووصفُ ليونيد عمَلَ والدِ (أحمد) بالعلميِّ المهمّ من خلال البحث عن جذوره عبر أساطير قومه ترافقَ بوصف عملٍ وطنيٍّ قام به هذا العالمُ الجليلُ لا يقل أهميةً عن العمل العلميِّ وهو القتال ضد العدو الألماني؛ ما جعل (أحمد) يقف أمام تحدٍّ كبير يدفعه إلى إكمال علمه تحت رعاية صديق والده ليونيد وزوجته [أمه الثّانية] فيكمل درب والده الذي لم يُنجَز بعد، فيسكن قريته ويبحث – من جديد – في حياة قومه وتفاصيلها.

وفي الرّواية كثير مِن العادات والتّقاليد الشّركسية بإيجابياتها وسلبياتها. وفيها وصف مختلف للوطن تحت ظل الحكومة الرّوسية وذكر للشّعراء الرّوس الّذين أحبوا القفقاس وكتبوا أجمل القصائد ما جعل أحمد يصف ليونيد أنه – بقلبه وروحه – يشبه “الشّعراء الرّوس تمامًا”[6].

والرّواية دعوة إلى التآخي بين الرّوس والقفقاسيين في ظل حكومة واحدة لشعب واحد. وتختتم بالتأكيد من أحمد لوطنه على العودة إليه وبذل كل جهده لخدمته أو خدمة الفرد للمجموع وهو ما تنادي به الاشتراكية في الرواية.

الوطن من الحرب إلى السَّلام:

هذا الوطن الّذي نُهب مِن قبل الألمان الّذين لم يبقوا لأهله لباسًا أو طعامًا أو حطبًا أو مالاً[7]، تاركين إياه يعاني آثار النّدوب الّتي سرعان ما حاول بعد هزيمة الفاشيست وبشكل جماعي أن يشفيها، لا بالبكاء والعويل، بل بالعمل. فالنهوض بعد الحرب يحتاج إلى إرادة تشبه إرادة السّنونو الّتي “قطعت آلاف الكيلومترات ولا تزال تعمل بشغف ودأب متواصلين”[8].

وثمة مصطلحات تتكرر تصب في مصلحة الوحدة الفكرية: فالعمل الجماعي المتّحد البعيد عن الفردية والأنانية هو الطَّريق الأفضل إلى قهر صعوبات وطن يتعثر بعد حرب أكلت الأخضر واليابس، فينهض الوطن حسب المفهوم الاشتراكي.

وتبدو المقارنة في الرّواية قبل انتشار النظام السوفيتي وبعده واضحة. فقبل النّظام السوفيتي، كان النّاس متواكلين، وكان كورغوقا [والد أحمد] يأسف لهذا التواكل، خاصة فيما يتعلق بريّ الأرض المعتمد على الأمطارِ، ما يعني خسارة الغلال والحيوانات وربما النّاس لو انحبس هذا المطر، بينما تضيع مياه النهر هدرًا. من هنا، كانت دعوة كورغوقا دعوة مبكرة إلى العمل الجماعي وإلى التَّفكير في تنظيم الري، ما يعني تحسين الزّراعة، المعتمد الوحيد لهم[9].

كذلك تسلط الرّواية الضّوء على أُمّيّة الشّعب الشّركسي، إذ كانت المدارسُ -حسب قول ليونيد – قليلة جدًّا. لكن هذا لم يعنِ أنْ لم يكنْ للشّعب الشّركسي ثقافة، بل يفرّق ليونيد بين الثّقافة والعلم بقوله:

“الثّقافة لا تُكتَسَبُ بالقراءة وحدها، بل إنّ لحياة الشّخص وتربيته على عادات وأخلاق قومه، واستعداده لعمل الخير دائمًا، وكذلك أدبه وطيب قلبه علاقة لا تنفصم عن الثّقافة، فلا تتم الثّقافة إلا بها”[10].

ومن هنا، فقد وجد ليونيد الثّقافة في أبهى حللها عند الشّراكسة وإن كانوا وقتها متأخرين علميًّا، ويشرح:

“بعد أن تعرفت على الأَدِيغة والبلقار ورأيت إكرامهم للضّيف وما يكنُّونه له مِن التَّقدير والمحبة واستعدادهم لفتح قلوبهم وبيوتهم له وأنهم قوم مخلصون صادقو الأرواح بريئو القلوب، أيقنت أن لهم ثقافة كبيرة”[11].

وما لبثت هذه الثّقافة أن شُذبت بالعلم والعمل معًا، فخضعت القرية – في ظل النّظام السّوفيتي – لنظام الكولخوز[12] الّذي بدا في الرّواية إيجابيًّا إذ ساعدَ على إنهاض الشَّعب من معاناةٍ أجاب عنها الروائي وقت طرح سؤالَ مقارنة: “أيهما أفضل؟ العمل في الغابة والمتاجرة أم العمل الجماعي في الكولخوز”؟ والسُّؤال يعني: أيهما أفضل: العمل الفردي أو الجماعي؟ وجواب الرّواية هو الثّاني بالطبع.

ويدعم الجواب بإظهار صورة النّظام السوفيتي “المشرقة الإيجابية” فهذا النظام أعاد بناء المنازل الّتي هُدمت بعد تحرير الأرض من الألمان، كما أعاد تنظيم القرية الشّركسية وبناءَها، فغدت أجمل من الصُّور، فشوارعها مستقيمة، وأشجارها المثمرة موزعة على أطراف الأرصفة، وسواقيها يتدفق ماؤها نقيًّا صافيًا. أما بيوتها فكولخوزية، إذ لم يعد في جمهورية (كابرادينو بالقاريا) ضيق أو مشكلة سكنية، فلكل شخص فيها أحد عشر ونصف مترًا من المساحة السكانية، وهذا ما لم يحظ به النَّاس من قبل.

أما بالنسبة إلى الزراعة والحراثة والبذار وفرز الشوائب وجني المحصول ونقله، فكل ذلك يجري – في ظل النِّظام السوفيتي – بواسطة الآلات.

حتى الفن تغير مع النّظام الجديد وتطور، “فقطع فنّ الدراما الكاباردينية طريقًا طويلة وأصبح لديهم بدل (الاجاغاقا) [13] مسرح علمي اشتراكي”[14] يقدم فنًّا حقيقيًّا كاملاً هو الفن الدّراماتيكي الّذي “يظهر حياة النّاس وآمالهم وأهدافهم الّتي يسعون إليها”[15] هذا عدا عن الثّقافة الّتي بدت بعد انتشار النظام السوفيتي وكأنها بذرة محبوسة تحت حجرة ثقيلة لم تنمُ إلا حين وصلت إليها أشعة الشّمس الاشتراكية، فتطورت الثّقافة الشّركسية بعد أن اقتبست من الثّقافة الرّوسية، إذ حمل الشّراكسة المثقفون المشاعل الّتي أنارتْ لهم ثقافتهم الخاصة ففهموها “بشكل أفضل”[16] فصارت أقرب إلى الاحتراف.

الرّواية – إذن – دعوة إلى العمل الجماعي الّذي يؤدي وحده إلى النَّجاح. وبالتّالي، هي دعوة إلى إلغاء الأنانية والفردية، فمن أراد الحياة ممتطيًا كلمات: أنا وخاصتي ومالي، لن يستطيع السير بعيدًا. أما إن عملنا متعاونين متحدين فسنقهر كل شيء ونرفع كل بلاء[17].

لقد نجحت القرية الكاباردينية وتقدمت لأن مثقفيها في الداخل والخارج ساهموا في النهوض بها من كبوتها وتغييرها نحو الأفضل بيد واحدة نحو هدف مشترك مرتجى هو: التحسن.

لقد عمل الكل وتعاونوا ليبنوا الوطن الجديد بتكاتف ليس بعيدًا عن عاداتهم وتقاليدهم منذ أيام أجدادهم النارْتْيين الّذين قالوا:

لقد عمل الكل وتعاونوا ليبنوا الوطن الجديد بتكاتف ليس بعيدًا عن عاداتهم وتقاليدهم منذ أيام أجدادهم النارْتْيين الّذين قالوا:

“مَن سعى للخير مِن أجل الجموع استحقَّ الخير في كلِّ الربوع”[18]

سوسروقة:

“أورقت وتفتحت براعم الأشجار والأزهار في كل أنحاء الدنيا، فلماذا بقي هذا الجبل الأسود أجرد هكذا؟

 

فيجيب البطل:

“إن مَن تحت هذا الجبل كان يحب نفسَه وحدها، ولم يكن يحب الحياة الّتي يعيشها، وذلك هو سبب بقاء هذا الجبل دون عشب أو نبات. وليبق، هكذا، رمزًا لعار الّذين يخدمون أنفسهم دون غيرهم ولا يكون الحب العظيم للحياة والعمر الّذي يعيشونه”[19].

 

دعوة لوطن جديد متعاون خال من الأنانية ودعوة أيضًا إلى الصداقة – القرابة وصورة جديدة للوطن الأم تفتقدها الرّواية العربية – الشّركسية.


[1] حكيم تيونوف، الأم الثّانية، عربها عن اللّغة الآديغية وديع بشكور (دمشق: دار الجماهير، بيروت: دار الفارابي 1973).

[2] الأم الثّانية، ص99. جمهورية الكبردين _ البلقار تبلغ مساحتها 12500كلم2 عاصمتها نالتشيك. القبرطاي هم أكبر قبائل شعب الأَدِيغة وبسبب سهولة بلادهم كانوا أول من تلقى صدمة الجيش الرّوسي الّذي كان يسعى إلى شطر القفقاس إلى شطرين عبر ممر داريال الرّوسي فقضى على قوتهم فعقدوا الهدنة بذلك مع الرّوس وهرب قسم كبير منهم إلى الكوبان لمتابعة قتال الرّوس. هاجمهم الجنرال كلازيفاب ودمر 80 قرية وأفنى سكانها برغم الهدنة، ثم هاجمهم الجنرال كولباكوف فدمر 200 قرية وأباد معظم سكانها فتراجع تعدادهم من 450 ألف نسمة عام 1829 إلى 40 ألف عام 1832 عندما هاجمهم يرملوف السّفاح، فلم يتمكنوا من المساعدة في حرب الشيخ شامل، ولكن 40 من نبلائهم بقيادة أنزور ومئات من الأفراد هربوا والتحقوا بشامل.

[3] إثنوغرافيا Ethnography: العلم الذي يعنى بدراسة توزيعات سلالات الإنسان على سطح الأرض [المعجم: غريد الشيخ].

[4] نفسه، ص21.

[5] نفسه، ص105 _ 106.

[6] الأم الثّانية، ص219.

[7] نفسه، ص15.

[8] نفسه، ص30.

[9] الأم الثّانية، ص130.

[10] نفسه، ص146.

[11] نفسه، ص134.

[12] مزرعة تعاونية في الاتحاد السوفيتيه _ الملكية فيها جماعية.

[13] الاجاغاقا القوقازية طويلة العمر تقدم في الحفلات منذ أكثر من ألف عام ساخرة من العيوب والنقائص مادحة الفضائل مسلية النّاس. وهي تعني (رقصة الّتيوس) أو لابس جلد الّتيس. والأجاغاقا تطورت مع الزمن لتصبح أسلوبًا لمكافحة الشر والفساد بشكل هزلي سافر وما أكثر ما كانت الأجاغاقا كالسهم في قلوب الأمراء والإقطاعيين واللصوص والأنانيين، وباختصار كان الفن الوطني التراجيدي لا يتجاوز الشخصين حتى العقد الثّالث من القرن العشرين [الأم الثّانية، ص339]..

[14] نفسه، ص351.

[15] نفسه، ص342.

[16] نفسه، ص353.

[17] نفسه، ص56.

[18] نفسه، ص104.

[19] الأم الثّانية، ص104.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literature_language/0/73647/#ixzz5YSwnHh3l


 

 

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literature_language/0/73647/#ixzz5YSxvJ0qh

Share Button

اترك تعليقاً