حضرات القُرّاء الأعزاء،
يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسيا: ولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد.
عادل بشقوي
شركيسيا
الفصل الأول / الجزء الأول
27 أبريل/نيسان 2021
شركيسيا لها تاريخ مؤكد يمتد لأكثر من ستة آلاف عام، ولها مساهمة إيجابية بشكل مستمر وإيجابي للإنسانية. نشأت الحضارة والثقافة الشركسية في شمال–غرب القوقاز وبقيت موجودة لفترة طويلة. تقع شركيسيا داخل هضبة القوقاز وتعتبر عائق طبيعية. تحتوي على جبل إلبروز (إلبروس)، أعلى قمة في أوروبا، بارتفاع 18510 قدمًا فوق مستوى سطح البحر.
يقع الوطن الشركسي في جنوب شرق أوروبا. وهو في منطقة استراتيجية تقع في الجزء الشمالي الغربي من سلسلة جبال القوقاز. ويقع كذلك على الشواطئ الشمالية الشرقية للبحر الأسود، الممتدة بين بحر آزوف وأبخازيا.
الشركس هم السكان الأصليون لشمال غرب–القوقاز: ”وهي ضمن ثقافة زراعية وتربية الماشية في شمال–غرب القوقاز في أوائل العصر البرونزي. وبحلول عام 3000 قبل الميلاد، نشأت هنا ثقافة الدولمين، التي يأتي اسمها من المغليثات (آثار صخرية) المميزة المستخدمة كعلامات قبور، التي بلغت ذروتها؛ التي استمرت حتى الربع الأخير من الألفية الثانية قبل الميلاد. المنطقة التي توجد فيها الدولمينات القوقازية هي موطن أسلاف قبائل الأديغية–الأبخازية. ويوجد اليوم خمسة حقول دولمين في الجمهورية بها حوالي 200 من الدولمينات الكاملة والمدمرة جزئيًا“1.
لم تولد شركيسيا نتيجة ظروف أو نزوات أو تخيلات، ولم يتم تشييدها من خلال قهر الأبرياء والمظلومين. على العكس من ذلك، فهي معروفة في التاريخ بأنها موطن الشعب الشركسي الأصلي الذي شارك في عملية تقدم الحضارة الإنسانية. خلال هذه العملية، كان عليهم تحمل تكلفة عالية للحفاظ على الذات والبقاء كإحدى أمم القوقاز مع تميُّزِهم من خلال وطنهم المميز.
وشهدت هذه المنطقة، على مدى آلاف السنين، محاولات عديدة من قبل الغزاة والمستعمرين للسيطرة على شركيسيا على شكل حروب وحملات عدوانية تميزت بتكتيكات الكر والفر. كان الشركس دائمًا يقظين، ويمارسون حقهم في حماية حريتهم وكرامتهم الوطنية. في كل مرة تعرضوا فيها لمحاولات احتلال وطنهم والسيطرة على أمتهم، لجأوا إلى جبال القوقاز، واستمروا في مقاومتهم ضد المعتدين حتى يتمكنوا في نهاية المطاف من طردهم أو القضاء عليهم.
ويقول والتر ريتشموند، كيف جاء الشركس، الذين يطلقون على أنفسهم أديغة، لاحتلال الشاطئ الشمالي الشرقي للبحر الأسود، هي قصة أخرى من المنفى. هم على الأرجح أحفاد الحثِّيين، الذين طوروا مجتمعًا متقدمًا في وسط الأناضول في وقت مبكر من الألفية الثالثة قبل الميلاد. عندما غزا الحيثيون وسط الأناضول في عام 2000 قبل الميلاد، هاجر الكثيرون إلى الشمال الشرقي واحتلوا الأرض الواقعة بين مدينتي سوخومي وأنابا الحاليتين على طول ساحل البحر الأسود. في النهاية انفصلوا إلى الشعوب الأبخازية والأباظة والشركسية والأوبيخ (على الرغم من أن معظم الشركس يعتبرون الوبخ قبيلة شركسية). المعروفين باسم زيجيا {Zigei} (تغيير كلمة أو تعبير أديغه من حالتها الأصلية) لليونانيين والرومان، وكان للشركس علاقات تجارية وسياسية مع كلا الشعبين وقاموا ببناء مجموعة من المدن المحصنة في أوائل العصور الوسطى. المغول، الذين دمروا حضارتهم في القرن الثالث عشر، أطلقوا عليهم اسم ”الجركس“ (Jerkes)، والمعنى الحرفي للكلمة ”الشخص الذي يسد طريقًا“. وكان في الأصل مصطلح يستخدم لوصف جميع شعوب شمال القوقاز، والإسم البديل الروس هو مصطلح شركس (Cherkes}، أصبح مرتبطًا بشكل حصري بشعب الأديغة بحلول القرن التاسع عشر وتم ترجمته إلى ”الشركس“ (Circassian) في أوروبا الغربية.2
الخابزه ليست نظام حظر أو تحريم. الخابزة ليست مبنية على الحظر والقيود. تُظهر خابزه الطريقة التي يتطور بها الشخص في انسجام مع نفسه ومع الآخرين ومع الطبيعة والعالم الخارجي.6
وتجدر الإشارة إلى بيان الحقيقة بشأن بعض المعلومات الكاذبة التي تم تداولها ضد الشركس: ”لقد شارك الشركس في تجارة الرقيق بأنفسهم، وهي حقيقة استخدمها الروس بانتظام لتبرير أفعالهم، على الرغم من أن الاتهام يبدو أجوفًا إلى حد ما عندما يعتبر أن الروس مارسوا العبودية المؤسسية على نطاق واسع جدًا حتى عام 1861. أيضًا، على الرغم من الادعاءات الروسية بأن تجارة العبيد كانت البضائع الوحيدة التي كان الشركس يتاجرون بها، إلا أن الحقيقة هي أن الشركس كانوا يبيعون للأتراك أيضًا الفراء والجلود والشمع والعسل والنحاس والأخشاب الصلبة والمجوهرات والسلع الأخرى“.7
حتى بداية الحرب الروسية الشركسية في عام 1763، شارك الشركس في التعايش الودي مع مختلف الناس الذين مروا عبر المنطقة. بقي بعض هؤلاء الناس بصفة مؤقته، مثل الإغريق القدماء والذين قدِموا من البندقية وجنوة وكذلك والرومان: ”من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر، أقامت جنوة مراكز تجارية في المناطق الساحلية من شركيسيا وأبخازيا“.8
بقي الأشخاص الآخرون الذين مروا عبر المنطقة بشكل دائم في شمال القوقاز. ومن بينهم أولئك ذوي الأصول الفارسية والتركية، وهم الذين استقروا وسكنوا في نهاية المطاف في منطقة القوقاز. كان بعضهم قد أقام بجانب بعض القبائل الشركسية وكانوا على وفاق معهم. ومع ذلك، كان الشركس قادرين على البقاء في وطنهم الذي ورثوه عن أسلافهم.
قال إبراهيم كوريمزلي: ”حتى الغزو الروسي، حافظ الشركس على بنية اجتماعية قديمة جدًا تتغير من قبيلة إلى أخرى“. وذلك في وصفه لأسلوب حياة الشركس، وتابع قائلاً: ”إن طريقة الحياة هذه منعت الشركس من تطوير سلطة مركزية، لكن تمكنوا من العيش في كونفيدرالية قبلية؛ لكن تفانيهم في أسلوب حياة مستقل حمى حريتهم ضد أي هيمنة أجنبية. لعبت هذه الخصائص الثقافية وغيرها من الخصائص الشركسية دورًا في المقاومة الشركسية ضد روسيا“.9
بدأ التوسع الروسي في شركيسيا قبل عصر الموسكوفيين، لكنه امتد بعد ذلك ليصبح موروثًا كإرث يتسم بالرغبة في السيطرة على مصائر الآخرين. بدأ ذلك منذ عهد القيصر الأول، إيفان الرابع (إيفان الرهيب)، واستمر في عهد القياصرة والأباطرة والقادة الشيوعيين والقادة الروس الحاليين.
وقعت سلسلة من الحروب بين الروس والشركس. حدث هذا منذ بداية تأسيس دولة روسية، مثل عصر كييف روس، التي قادها الأمير سفياتوسلاف (Sviatoslav)، الذي ”استولى على جزء من شبه جزيرة تامان، ووضع الأساس لمدينة تموتاراكان، وذلك في الموقع الحالي لتامان“.10
بدأ سكان موسكو ومن خلفوهم في البداية بمناوشات وحروب متقطعة في اتجاهات عديدة. كان الشركس وأمم القوقاز الأخرى وغيرهم يعارضون الميل الروسي للاستيلاء على جميع الشعوب والأمم من حولهم وإخضاعهم حتى أعلنت الإمبراطورية الروسية حربًا عدوانية لا هوادة فيها ضد الشركس. هذه الحرب، التي استمرت 101 عام، كانت للسيطرة على شركيسيا، والقضاء على وجود الأمة الشركسية على أراضيها، والسيطرة على الساحل الشركسي على البحر الأسود. وهي تعتبر أطول حرب خاضتها الدولة الروسية عبر تاريخها. ويطلق عليها الحرب الروسية–الشركسية، أو الحرب الروسية–القوقازية. وهذا على عكس ما تسميه الحكومة الروسية التي تسميها حرب القوقاز، وذلك في محاولة لتجاهل مشاركتها الرئيسية في حدوثها وتداعياتها.11
مع حقيقة خذلانهم من الصديق والعدو على حد سواء، واجه الشركس المجاعة والمرض والحرمان والقتل والإبادة الجماعية وتدمير جميع عناصر وطنهم من خلال سياسة الأرض المحروقة التي أعلنتها وجسدتها القوات الغازية ومرتزقتها. كانت النتيجة احتلال شركيسيا بالكامل. تم فقدان نصف مجموع السكان الشركس خلال هذه الحرب. ومع ذلك، فإن المأساة الحقيقية التي يعيشها الشركس، والتي لا يزالون يعانون منها حتى يومنا هذا (أكثر من 150 عامًا بعد الاحتلال)، هي عزل 90 بالمائة من مجموع السكان عن وطنهم الحبيب ونقلهم إلى المنفى، حيث أنهم ما زالوا هناك. ويعيشون في شتات واسع يتكون من عشرات الدول. لقد كان نتيجة طرد جماعي قسري لصالح الخطط الإستعمارية للغزاة.
أما العشرة بالمائة الآخرون، الذين ما زالوا يقيمون في وطنهم، فقد تم تقسيمهم والتقليل من شأنهم إداريًا. هم الآن سكان من عدة أقليات يجب أن يعيشوا في ستة جيوب غير متجانسة، وليست متجاورة جغرافياً، تم إملائها وتنفيذها من قبل الأنظمة الروسية المتعاقبة بفرض الأمر الواقع على الشركس. وذلك بعد إخلاء الأراضي المنخفضة. تم استبدال أنماط الإسكان التقليدية بمنازل سوفيتية ريفية من الطوب مع قطع أراضي صغيرة حولها. انتقل بعض الشركس إلى المدن المحلية الجديدة واستقروا في حياة حضرية عصرية. ولا يزال الشركس في تركيا إلى حد كبير من الفلاحين، وقليل منهم شغلوا وظائف عسكرية. لا يزال الوبيخ قائمين كنوع مميز من الأديغة، لكن لغتهم لا يتحدث بها الآن سوى رجل واحد وامرأة واحدة. في الأردن، يتركز الشركس في عمان وحولها، حيث يمتلكون قدرًا كبيرًا من الممتلكات وقد عُهِدَ إليهم احتكار الدولة للكهرباء والطاقة. إنهم يستمتعون بالإذاعة والتلفزيون الشركسي ولكن لا يُسمح لهم بالنشر بلغتهم. في سوريا، تمركز الشركس في خمس قرى في مرتفعات الجولان. بعد الحرب العربية–الإسرائيلية عام 1967، انسحب هؤلاء الشركس إلى سوريا، وتحديداً إلى الأحياء الفقيرة من دمشق. ووجدوا أن أماكن سكنهم غير مقبولة، فقد تقدموا بالتماس إلى الولايات المتحدة في منتصف السبعينيات لمنحهم حق اللجوء. بدأت الولايات المتحدة برنامجًا بمساعدة مؤسسة تولستوي في مدينة نيويورك لتمكين العديد من هؤلاء الشركس من الهجرة إلى الولايات المتحدة، حيث استقروا في ولاية نيوجيرسي ومدينة نيويورك. في إسرائيل، يبدو أن قريتي الشركس تتمتعان بحرية نسبية ولديهما تقليد في خدمة إسرائيل باعتبارهم النخبة في حرس الحدود. في الولايات المتحدة، المجتمعات الشركسية حضرية إلى حد كبير. يوجد هنا توتر ونقاش كبير بين أولئك القلائل الذين أتوا مباشرة من القوقاز والأغلبية العظمى الذين قدموا من الشرق الأوسط حول نقاء تقاليدهم وأفضل طريقة لإنقاذ تراثهم، لأن هناك قلقًا كبيرًا من أنهم محكوم عليهم بالانقراض كشعب. يحلم البعض بعودة جميع الشركس إلى القوقاز، وهناك حركة مقرها في هولندا، مكرسة لتحقيق هذه الغاية بالوسائل السلمية. يُذكر أن الوبيخ الوحيدين خارج تركيا يقيمون في جنوب كاليفورنيا.12
بالنسبة للشركس، لم تكن أهمية وطنهم ومصيره شكلاً من أشكال المقالات السياسية أو مواضيع المساومة. بل على العكس من ذلك، فإن وطنهم كان دائمًا وسيظل أغلى ما يملكه الشركس. ويتم افتدائه بقلوبهم وأرواحم ويعتبر هوية وانتماء.
يتبع…