حضرات القُرّاء الأعزاء،
يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسيا: ولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد
عادل بشقوي
18 مايو/أيار 2021
الإستقلال الشركسي
الفصل الثاني / الجزء الأول
عبر التاريخ الإستعماري، تبنت سلطات الاحتلال والاستعمار الهيمنة وممارسات السلطة والسطوة المطلقتين لتغيير الحقائق والملامح والمعالم في جميع مناحي حياة الأمم المستعمَرة. وتهدف إلى أبعد ما يمكن، استبعاد السكان الأصليين عن تحمل مسؤولية حكم أنفسهم. وما لم تعارض الأمم الخاضعة مثل هذه السياسات الاستبدادية، فإنها ستجبر في نهاية الأمر الدولة الطامعة والمتكالبة للاستجابة لطموحاتها في الحرية لاختيار مصيرها الذي من شأنه أن يؤدي بالضرورة إلى تولي الحقوق المشروعة في تقرير المصير والحرية والاستقلال.
لقرون خلت، ومنذ الإغريق والرومان، تعرضت شركيسيا لمحاولات وجهود خارجية مستمرة من قبل مختلف القوى الإمبريالية والتوسعية والاستعمارية الأجنبية لغزو شركيسيا وإخضاعها. ذلك أجبر الشركس على الانخراط في العديد من الاستعدادات والعمليات الدفاعية التي يعتقد أنها ذات أولوية قصوى على جميع العناصر الأخرى. لم يكن من السهل على أي من الغزاة استغلال قوتهم أو مرونتهم. لقد كان الشركس دائما حريصين على الدفاع عن حريتهم واستقلالهم.
حتى أثناء الغزو المغولي لمنطقة القوقاز في القرن الثالث عشر واحتلالهم للأراضي الواقعة شمال القوقاز والتي كانت تسمى روسيا، لم يكن من الممكن احتلال واستعمار شركيسيا بالطريقة التي تم بها احتلال الآخرين لعقود قادمة. في هذا الصدد نشر النادي الجيوسياسي في يناير 2017 مقالاً بعنوان ”شركيسيا ظلت مستقلة عن الإمبراطورية المغولية، التي أسسها جنكيز خان“.67
تم تشكيل المجالس الدفاعية كلما دعت الحاجة لها، والتي تكونت من رؤساء القبائل الشركسية الرئيسية لغرض تعيين الزعماء والقادة العسكريين للتعامل مع الوضع وبالتالي الحفاظ على استقلالية صنع القرار الوطني. الاستراتيجية المناسبة يتم الاتفاق عليها واتباعها من قبل جميع أجزاء الوحدات القتالية الشركسية ضمن عمليات جماعية وشاملة وفق خطة شاملة، مما أدى إلى الحفاظ على الحرية والاستقلال لمئات السنين حتى اندلاع الحرب الروسية–الشركسية الأخيرة. في عام 1763.
استمرت بعض الدوائر المعروفة في نشر الحكايات الماكرة عن شركيسيا، الوطن الأم والأمة. وحاولوا إذاعة وتداول أخبار ذات أهداف مشبوهة تتعلق بحجج ضعيفة. ذكروا أن الشركس لم يكن لديهم كيان سياسي على الإطلاق، ولم يفكروا به من قبل. لقد نسوا أن القبائل الشركسية كانت قادرة على التنسيق مع بعضها البعض لصد المهاجمين الغزاة طوال تاريخهم الطويل. كانت هناك لديهم آليات قومية وثقافية ودفاعية مشتركة. وبناءً على ذلك، تمكنوا من صد أعدائهم لمئات السنين حتى تمكن الروس القياصرة في النهاية من حشد مئات الآلاف من القوات العسكرية والمرتزقة. لقد ارتكبوا أكبر مجزرة في القرن التاسع عشر، وذلك بارتكابهم الإبادة الجماعية وفقًا لمؤرخين موثوقين، 68 وهو ما يفسر المأساة الشركسية دون الخوض في التفاصيل في هذا المجال، رغم أنه يظهر أن القادة الشركس قد وافقوا، كما نشرت الصحف الأوروبية في العام 1835، إلى إعلان الاستقلال الشركسي“، كما هو مذكور في الوثائق، التي تم الحصول عليها من الأرشيف الروسي، ”منشورات ف. م. أتاليكوف (V.M. Atalikova)“ “(انظر إلى الآثار الحية. 1992. رقم 2. ص 20-23)، وقد تمت ترجمتها مؤخرًا إلى عدة لغات.69
احتلت شركيسيا في منتصف القرن الثامن عشر، قبل الغزو الإمبريالي القيصري، مساحة 55663 كيلومترًا مربعًا — بالأحرى أكبر من مساحة الدنمارك — وكان عدد سكانها الأصليين يزيد عن مليوني نسمة. وخلال معظم تاريخهم، كان الشركس موجودين بشكل مستقل.70
وبعد قرون من التحالف العسكري معها، خرقت روسيا الإتفاقية وهاجمت شركيسيا. قاتل الشركس ضد الغزو الروسي لأكثر من قرن، من 1763 إلى 1864 — أطول من أي شعب آخر في القفقاس. أدت هزيمتهم الأخيرة في ستينيات القرن التاسع عشر إلى مذابح وترحيل قسري، خاصة عبر البحر الأسود إلى تركيا.71
والاستقلال ليس شيئًا لم يمارسه الشركس أبدًا. هناك شريحة تمثل إعلان استقلال شركيسيا، الموجه إلى حكومات أوروبا في عام 1837. تجاهلت أوروبا وحشية روسيا ضد الشعب الشركسي الذي يكافح من أجل البقاء، وهذه هي قصة كيف دعم التساهل الإبادة الجماعية.
اليوم يمكن لأمم أوروبا أن تصلح أخطاء أسلافها. نحن الشركس حول العالم ندعوكم لابداء اهتمامكم ودعمكم في طريقنا الطويل إلى وطننا الحبيب. شركيسيا الحرة هي المستقبل الوحيد لأمتنا، وهذا هو الهدف الذي سنحققه نحن، ستة ملايين من الشركس، من أجل الذكرى المقدسة لأسلافنا ولسلامة الأجيال القادمة .72
كان هناك رد من أولئك الذين تم إخطارهم بإعلان استقلال شركيسيا*. ”كان لورد بالمرستون، وزير الخارجية البريطاني الذي لا يرقى إليه الشك في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، متعطشًا للروسوفوبيا (معاداة الروس). لقد صاغ سياسة بريطانيا العظمى المعادية لروسيا المتعلقة بالمسألة الشرقية، معتبراً روسيا قوة مزعزعة للاستقرار تهدف إلى تقويض النفوذ البريطاني في الشرق. لقد تعاطف مع محنة الشركس، ووافق سراً على إرسال وكلاء لتقييم الوضع وتقديم المساعدة لهم. وفي عام 1838، اعترف ضمنيًا باستقلال شركيسيا.73
يقول المفتي في كتابه أباطرة وأبطال في التاريخ الشركسي أن أصل كل الشركس هو شركيسيا. وبناءً عليه، كانت الإمبراطورية القيصرية الروسية تنوي تدمير البلاد بأكملها مع القضاء على شعبها: ”من خلال المعلومات الشفوية عن أصلهم، عرفت من حكماء الشركس أن أسلاف أمرائهم وعرقيتهم جاءو في الزمن القديم واستقروا في شنتشير (شنجير) {Shentchir} التي هي الآن كومة من الأنقاض كونها مدينة قديمة بالقرب من أنابا في ريف بلدة {نات-خواج} (Nat-Khuadj)، حيث نشأ فيها ليس فقط أمرائهم، بل الأمة الشركسية بأكملها“.74
الموقع الاستراتيجي المتميز الذي تتمتع به شركيسيا، كونها على البحر الأسود مع موانئها الجذابة، أوجد كارثة لشعبها ودول شمال القوقاز الأخرى لأنها جذبت الغزاة والمستعمرين. كل ذلك لا يزال يؤثر على إمكانية تمكين الشركس من المطالبة باستعادة حقوقهم وحرياتهم المنتهكة، ”هناك ثلاثة أنواع من إنهاء الاستعمار: دولي ومحلي وأيديولوجي. وهذا الأخير هو الأكثر صلة فيما يتعلق بالسياق الشركسي باعتبار أنّهُ يتناول سياق الماضي الإستبدادي حيث تمت مصادرة أو تدمير أو التلاعب بذكريات {الشعوب المحررة} طويلة المدى“.75
إن الاهتمام في دراسة تاريخ التورط الروسي في شمال القوقاز بشكل عام وشركيسيا بشكل خاص يتطلب منا أن نكون مدركين للإشارة إلى تاريخ الأطراف الرئيسية المعنية في حين يشير ذلك إلى تاريخ موثّق وأقدم بكثير: ”لقد تمت الإشارة إلى شركيسيا باسم {كاساكسيا} (Kasaxia) باللغة اليونان البيزنطية. تم تسجيل التسمية الذاتية الأصلية لأول مرة في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد فسره بعض العلماء الشركس على أنه تحريف للمصطلح القديم {أنتيكسي} (Antixe)، حيث أن الأنتيين هم أناسًا يُعتقد أنهم أسلاف أديغه“.76
يتبع…