الإستقلال الشركسي / الفصل الثاني / التأثير السلبي العثماني 2 – من كتاب “شركيسيا: ولدت لتكون حرة” للكاتب عادل بشقوي

حضرات القُرّاء الأعزاء،

يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسياولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد

عادل بشقوي


28 مايو/أيار 2021

الإستقلال الشركسي

الفصل الثاني 

التأثير السلبي العثماني 2

PHOTO-2021-05-26-22-50-51

مع ذلك، فإن النجاح الملحوظ في المعركة ضد عدوان العثمانيين وتتار شبه جزيرة القرم والفترة السلمية القصيرة التي تلت، جعل الوضع المستقل لقباردا والشركس بأكمله في خطر منذ بداية الثلث الأخير من القرن الثامن عشر. وفي ضوء خصوصيات التنظيم الإجتماعي والسياسي، يمكن القول أن شركيسيا كانت لا تزال في العصور الوسطى الإقطاعية بينما محيطها قد تغير بشكل جذري. أضحت الإمبراطورية العثمانية وخانية القرم وإيران في أزمة طال أمدها.109

فرض الروس نفوذهم الاستعماري الأناني على حقوق الآخرين وكرامتهم وذلك بأخذ أوطانهم. اعتبرت السلطات الروسية، في تعاملها مع شعوب القوقاز، التصرف على أساس أن الغزو سيكون نتيجة حتمية وسيحدث عاجلاً أم آجلاً؛ مع الأخذ في عين الاعتبار أن القرب الجغرافي وعوامل التواصل الإقليمي تعتبر عوامل مهمة لسهولة الوصول إلى الاحتلال والضم.

انتهى عصر المناورات السياسية للدول التي تقاتل من أجل التأسيس في القوقاز بشأن قباردا. بسبب التقارب الإقليمي للإمارات الشركسية، كان خط الحدود الروسي مع قباردا هو الأول الذي خضع لتغييرات روسيا السياسية في القوقاز. وعلاوة على ذلك، مكنت فوضى قباردا الداخلية أحد الجيران الشماليين من إيجاد ذريعة للتدخل في شؤونها الداخلية دون أية صعوبات.110

تم تنفيذ الخطط والسياسات الروسية القيصرية بشكل مستمر وفقًا للإنجازات التكتيكية وحتى الإستراتيجية في مناطق العمليات الجارية. لم يكن هناك نهاية أو سقف لاستمرار القتل والاحتلال والتهجير بغض النظر عن النتائج على الناس. لم تلعب روسيا ولا تركيا حتى دورًا إيجابيًا في السماح لشعوب وأمم شمال القوقاز بممارسة حقوقهم المشروعة في أوطانهم التاريخية.

أخمدت القوات الروسية بقيادة الكسندر سوفوروف (Suvorov) احتجاجًا مسلحًا للنوغاي في ربيع وخريف عام 1783. غادر السكان البدو لرحل منطقة كوبان بأكملها. انتقل فقط عشرات الآلاف من النوغاي إلى الجانب الآخر من نهر كوبان ولجأوا إلى شركيسيا ولابا وإقليم التدفق الأوسط لنهر كوبان. في الأعوام 1772-83، أعيد توطين غالبية سكان شبه جزيرة القرم المسلمين ضمن حدود الإمبراطورية العثمانية على عدة مراحل. وتم إفراغ منطقتي القرم وحوض نهر كوبان من ساكنيها.111

اعتُبر وصول أية قوة استعمارية إلى منطقة أو إقليم، سواء أثناء الحرب أو في وقت السلم، كما لو كانت حدود تلك الدولة الإمبريالية. وفي كل الأحوال جاء على حساب الآخرين. ومن دون أدنى شك، كان للقوى العظمى في ذلك الوقت تطلعات معروفة في القوقاز، ألا وهي الاستفراد بشعب فضلا عن الاستحواذ على مواقع استراتيجية وقدرات مختلفة، بشكل دائم.

تم رسم حدود بين الإمبراطورية الروسية وغرب شركيسيا عبر نهر كوبان. بدأ العثمانيون، الذين فقدوا جميع القواعد في شمال القوقاز، في استعادة تحصين أنابا. كانت كلتا الدولتين تستعدان للحرب.112

قامت إمبراطوريتان إمبرياليتان بالمساومة وتبادل المصالح والمزايا. في معاهدة بوخارست، تم التوقيع على إتِّفاقية سلام في 18 مايو/أيار 1812، والتي أنهت الحرب الروسيةالتركية، التي اندلعت في عام 1806. سمحت شروط المعاهدة لروسيا بضم بيسارابيا (Bessarabia) ولكنها طلبت منها إعادة والاتشيا (Walachia) وما تبقى من مولدافيا (Moldavia)، التي كانت قد احتلتها. كما حصل الروس على صفح ووعد بالحكم الذاتي للصرب، الذين كانوا يتمردون على الحكم التركي، لكن مُنِحتْ الحاميات التركية السيطرة على الحصون الصربية. تم إحباط تنفيذ المعاهدة بسبب عدد من الخلافات، وغزت القوات التركية صربيا مرة أخرى في العام التالي.113

ومع ذلك، تم رسم خط حدودي استراتيجي في غياب الشركس في غرب شركيسيا بين الإمبراطوريتين الروسية والتركية (العثمانية): ”في شهر مايو/أيار 1812، تم في بوخارست إبرام معاهدة سلام بين روسيا وتركيا والتي حددت لشركيسيا الغربية مكانة دولية. بقيت الحدود بين إمبراطوريتين مرة أخرى على طول نهر كوبان“.114

واجه الشركس وغيرهم من شعوب القوقاز العديد من المعتدين، لا سيما في القرن التاسع عشر. لم يتردد الجنرالات الطغاة في القوات القيصرية الروسية عن نفث سمومهم ومضاعفة جرائمهم الشريرة: ”في عام 1816، تم تعيين الجنرال أليكسي يرمولوف (A. Ermolov) قائداً لفيلق القوقاز، والذي كان يُعتبر مؤيدًا لتنفيذ تدابير جذرية في عمل ما في وسعه من أجل تحقيق المصالح الإمبريالية لروسيا. وأدّى ظهوره في القوقاز إلى تصعيد الأعمال العسكرية في المنطقة كلها“.115

كانت التعليمات الصادرة للقادة الميدانيين هي تنفيذ الأوامر الصارمة الصادرة ضد الشركس أينما كانوا أو أي جزء من الشركس الذين ينتمون إليهم. وهكذا، أصبحت قباردا في وقت معين هدفًا مهمًا للتوسع الروسي. وهناك بدأت القوات الروسية الغازية في بناء منشآت ومراكز عسكرية لقتل وتهجير الشركس من مكان إلى آخر.

في شتاء عام 1821 تم تفعيل وحدات عسكرية روسية في قباردا. وكانت محاولة القباردي لبدء مفاوضات سلمية لم تسفر عن نتيجة. طالب الجنرال أليكسي يرمولوف القباردي بتقديم الطاعة غير المشروطة وإعادة توطينهم في الأراضي المنخفضة. في عام 1822، تولى هو بنفسه قيادة الجيش في قباردا. انتقل جزء يتعذر ارضاؤه نسبيًا من حكام قباردا الكبرى والصغرى إلى الجانب الآخر من كوبان، حيث لم يكن لديهم قوات للقتال ضد جيش روسي كبير جيد التسليح. في عام 1822 تم البدء ببناء تحصينات خط قباردا في الربيع. يجب أن يغلق الخط ممرات باكسان (Baksan) وشيغيم (Chegem) ونالتشيك (Nalchik) وشريك (Cherek) وأوروخ (Urukh) وغيرها. تمركز جميع سكان قباردا بين الضفة اليسرى لنهري مالكا (Malqa) وتيريك (Terek) وخط قباردا (Kabardo)، من خلال ما سيتم عزله من شركيسيا عبر كوبان.116

كانت القوات الروسية تستخدم ما في حوزتها من بطش للتغلب على الشراكسة من أجل تحقيق الأحلام الروسية في الهيمنة والاستعمار والاستيطان الاستعماري. وكان الشركس يوظفون كل قدراتهم الممكنة للدفاع عن سيادة وطنهم وأمتهم، بغض النظر عما قد يكلفهم هذا الجهد من الوقت أو الجهود أو الإمكانات.

لم تتمكن القباردي من الإعتياد على تقديم الطاعة لفترة طويلة. أصبحت هجماتهم بالمشاركة مع مع التميرقوي (Temirgos) والبسلني (Beslens) والأبزاخ (Abdzakhs) على خط الوقاية الدفاعي أكثر تكرارا. في 1823-1825 أبقت غارات الفرسان لما بعد القباردي توترًا مستمرًا على إدارة الحدود العسكرية والسكان الروس. في عام 1825 فصاعدا قام الكراشاي (Karachay)، بغزو قباردا، وأحرقوا ستانيستا سولداتسكايا(stanista Soldatskaya) وحاولوا إعادة توطين قرى القباردي على الجانب الآخر من كوبان بالقوة. لكن العمل الانتقامي من جانب الجيش الروسي والمقاومة من جانب جزء من السُّكَّان حال دون الإنجاز الكامل للخطة. في 1799-1825 انخفض عدد سكان قباردا لدرجة أن عددهم بالكاد كان حوالي 30 ألف نسمة.117

يمكن وصف العلاقات بين الإمبراطوريتين بأنها علاقات بين عدويْن لدودين. وتعرضت علاقتهما في بعض الأحيان إلى طفرات تدل على الأنانية والجشع، مما أدى في أوقات معينة إلى حروب مدمرة. ثم يتوصّلان إلى هدنة، تليها محادثات سلمية تنبثق عنها معاهدات واتفاقيات. تضمنت تعهداتهم تنازلات لبعضهم البعض وتبادلا للنفوذ والإلتزامات، حتى عند خداع الأطراف والأُمم الأخرى.

في سبتمبر/أيلول 1829، تم التوقيع على معاهدة سلام أدريانوبل (أدرنة)، والتي حددت الوضع الدولي لشركيسيا المستقلة لعدة عقود. وفقًا للمعاهدة، اعترفت الإمبراطورية العثمانية بنجاح روسيا في منطقة القوقاز وتنازلت لصالحها عن حقها الاسمي في شركيسيا عبر كوبان..118

تعهدت العديد من الأطراف، والتي كانت تعتبر زورًا وبهتانًا صديقة في أوقات معينة، بمساعدة الشركس في التغلب على الصُّعوبات التي يواجهونها، والتغلب على الجشع الاستعماري الشره، والحملات العسكرية الشريرة لتدمير الأمة الشركسية واحتلال وطنها وبالتالي منطقة القوقاز بأكملها. إن المساعدة التي عرضتها الإمبراطورية العثمانية وأتاحتها لم تختلف في نتيجتها عن رغبة الإمبراطورية الروسية. كانت تقتصر على إخلاء وإفراغ شركيسيا من سكانها الأصليين.

بعد أن أدركوا أن قوتهم ضئيلة في الصراع مع الإمبراطورية الروسية، حاول قادة الأديغه الحصول على دعم دبلوماسي ومادي من إسطنبول. ولهذه الغاية تم في عام 1830 إرسال وفد إلى العاصمة التركية. وعدت حكومة السلطان الشركس بإعادة التوطين فقط على أراضيها وتقديم السفن لهذه العملية. في عام 1831، وصل وفد شركسي جديد بقيادة صفر بي زان إلى العثمانيين. لكن زيارتهم كانت مرة أخرى غير مثمرة. علاوة على ذلك، وبناءً على طلب روسي، اعتقلت الحكومة التركية صفر بي زان أولاً تحت الإقامة الجبرية ثم في المنفى المبرر طويل الأمد.119 

أصبحت المعاهدة السلمية للتسويات الإمبراطورية في عام 1829 بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانيةخطة طريقيتم تنفيذها، وبدأت روسيا في تطبيق الجانب المتعلق بها. إن سياستها الاستعمارية، التي كانت محمية رسميًا ومدعومة بشهادة زور، تم التوقيع عليها وختمها من قبل أولئك الذين ليس لديهم الحق في إعطاء ممتلكات الآخرين لطرف ثالث. حتى الدول الأوروبية كانت لديها إرادة مشلولة، أو بالأحرى لامبالاة بمصير شعب كان هناك تهديد مباشر على بقائه.

بعد وقت قصير من توقيع معاهدة أدريانوبل، ومن أجل عدم إشراك القوى الخارجية في القتال من أجل استقلال شركيسيا، حاصر أسطول البحر الأسود الروسي السواحل الشركسية. وطالب جناح متشدد من النخبة السياسية البريطانية بالتدخل المباشر في شؤون القفقاس بدعوى حماية المصالح التجارية لإنجلترا.  لكن خوفًا من حرب كبيرة مهلكة مع روسيا، امتنعت الحكومة البريطانية عن هذا الإختيار. ومع ذلك، وفي عام 1834، وصل ديفيد أوركهارت (David Urquhart) — وهو مؤيد مخلص لشركيسيا المستقلة، إلى شركيسيا تحت إشراف مباشر من بونسونبي (Ponsonby)، السفير الإنجليزي في اسطنبول، وخطاب توصية من صفر بي زان. ومنذ ذلك الحين، تم توجيه أنشطة المعارضة السياسية البريطانية (د. أوركهارت و ل. لونغ وورثي، و ج. بيل، و إي سبنسر وغيرهم) نحو دعم فكرة استقلال شركيسيا من خلال عمل حقيقي من قبل الدول الأوروبية. لكن دون جدوى، حيث لم يكن لدى أوروبا وقت لتحقيق هذه الغاية.120

كان الهدف من تطبيق المشاريع والاستراتيجيات العسكرية الإمبريالية، بالإضافة إلى تعزيز الاستيطان الاستعماري والتوغلات العسكرية، تعزيز التوسع الديموغرافي الاستعماري. كان استخدام الحصون والحاميات العسكرية قد طبِّقَ وفرض إجراءات عسكرية صارمة. لذلك، خضع الساحل الشركسي بأكمله على ساحل البحر الأسود لأجندة روسية خاصة يمكن اعتبارها مرحلة مختلفة من الحرب الروسيةالشركسية.

يتبع…

Share Button

اترك تعليقاً