حضرات القُرّاء الأعزاء،
يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسيا: ولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد
عادل بشقوي
05 أكتوبر/تشرين الأول 2021
الحرب الروسية–الشركسية (1763–1864)
الفصل الثالث
قوة الدفاع الشركسية خلال الحرب الروسية–الشركسية
لقد استخدمت روسيا كافّة إمكاناتها وهيكلها العسكري القوي وبنيتها الديموغرافية، والتي وظفت جميع مواردها وقدراتها في خوض حرب طويلة وحشية للسيطرة على شركيسيا، ما جعل في نهاية المطاف ساحل البحر الأسود تحت السيطرة الروسية. كان الوطن الشركسي بأكمله ساحة معركة، وكان مواطنوه أهدافًا مباشرة. ولتحقيق هدفها الوحيد، اتّبعت القوات الغازية الروسية أساليب ”حرب الأرض المحروقة“ لتدمير أي شيء قد يكون مفيدًا للأشخاص العاديين الذين تصادف وجودهم في ساحة المعركة.
وقد أثرت هذه السياسة بشكل سيء على مجموع السكان حتى يتمكن منفذي الحملة الوحشية والمحمومة من الإعلان بأن ”المهمة قد أنجزت“؛ اكتملت المهمة التي أخذها القادة العسكريون الروس على عاتقهم وكانوا يحلمون بالوصول إليها لمدة 101 سنة متتالية. تم استخدام جميع أنواع القوات العسكرية الهجومية البرية والتحايل والمرتزقة والذخيرة والخداع والأسلحة. وللتأكد من تحقيقهم لقائمة الأهداف المحددة في خطتهم، فقد طوقت سفن البحرية والمدفعية الروسية وحاصرت جبهة البحر الأسود الشركسية والموانئ والمعاقل والخط الساحلي. في البداية، كان من أجل فرض حصار شامل، وعقوبات، ومنع الشركس من التجارة مع العالم الخارجي. حيث منع ذلك السفن الأوروبية والتركية من الإبحار من وإلى الساحل الشركسي.
يصف كاتب سويسري أن الملاحة البحرية خلال القرن التاسع عشر كان لها ”تقاليد ذات اهمية حيوية. وفقًا للعالم السويسري ف. دوبوا دي مونبير (F. Dubua de Monpere) الذي راقب القوادس الشركسية شخصيًا، فإنّهُ يمكن أن تستوعب كل سفينة 60 – 70 شخصًا. لكن كان هناك أيضًا نوعًا يمكنه استيعاب ما يصل إلى 140 شخصًا. كانت سفن الأديغه تبحر بالمجاديف وأحيانًا كانت مسلحة بمدافع خفيفة. كان يمكنها القيام بملاحة ساحلية طويلة المدى. وكتب الممثل التجاري الروسي في غرب شركيسيا ل. ي. لولي (L.Y. Lulye): {أبحر جبليو السواحل بنشاط كبير. ولنقل المؤن من مضيق إلى آخر استخدموا نفس سفن التجديف (القوادس) كما فعلوا في الطرق البحرية. رأيت ذلك بنفسي، كيف كانوا قادمين على القوارب باستخدام المجاديف من أماكن بعيدة جدًا على الساحل إلى خليج سودجوك (Sudjouk) (نوفوروسيسك) وحتى إلى حصن أنابا (Anapa)}“.376
صلاحية ابحار ممتازة
كما وصف ”إف. إف. تورناو“ (F.F.Tornau)، الذي خدم عدة سنوات في القفقاس، الجودة والأداء الاستثنائيين للسفن البحرية الشركسية، وما تتّصِف به القوادس الشّركسيّة من صلاحية إبحار ممتازة. ويصف الرّحّالة ج. تيبو دي ماريني (J.Tebu de Marini) السفينة الشركسية بهذه الطريقة: ”سفينتهم، كما رأيتها من قبل كانت مُسطّحة القاع، بدون عارضة، وتم تثبيت الغلاف الخارجي على إطار السفينة الدقيق للغاية بواسطة مسامير ودبابيس خشبية. في المقدمة كانت هناك صورة رأس حيوان. كان من الصعب معرفة ما هو الحيوان بالضبط، لكن الشركس أكّدوا أنه كان رأس ذكر ماعز (He-goat) . . .“ و”المجاديف الموجودة على القوادس قصيرة جدًا ومثبتة على الأقفال ذات الأطوال الهائلة مع وجود قضبان عرضية لأيادي المُجدِّفين. واستخدموا الدفة والشراع المربع الصغير“.377
وأضاف المقال: ”وُصِفَت البحرية الشركسية بناء على كتاب تيبو دي ماريني ثلاث رحلات في البحر الأسود إلى سواحل شركيسيا، مع توضيح عن أخلاق وتقاليد ودين الشركس“. (لندن 1837) كان دي ماريني الذي يحمل لقب فارس (knight) قد ذهب إلى شركيسيا ثلاث مرات كمبعوث مفوض لملك هولندا في الأعوام 1818 و 1823 و 1824“.379
لم يتمكنوا من إنشاء قوة بحرية متطورة خلال الحرب المفروضة عليهم، لكن الوضع كان غير مألوف. فالشركس ”لم يكن لديهم بحرية دائمة، لكنهم أكملوا مفارز القوادس لاتخاذ إجراءات ضد قوات وبحْريّة القيصر. كان الشكل المهم من قتال الأديغه هو هجمات قوادسهم على سفن القيصر العسكرية. وفي كثير من الأحيان وقعت في مياه الساحل الشركسي معارك شرسة للغاية. في عام 1832، قام الجبليّون بمهاجمة سفينة حربية روسية مسلّحة مزوّدة بـ 12 مدفع. كانت إدارة القيصر خائفة حقًا من ترك السفن في سودجوك حتى مع وجود حراسة، لأن الشركس كان يمكنهم الاستيلاء عليها باستخدام القوادس خلال الليل المظلم“.380
فيما يتعلق بالدفاع عن الموانئ مثل سوتشي وأهميتها للشركس، تولّت البحرية الشركسية، وفقًا للمقال، أداء واجب مهم: ”في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1836، تعرّضت سفينة القيصر ”نارتسيس (Nartsiss)“ للهجوم بالقرب من مصب نهر سوتشي من قبل سبعة (7) قوادس شركسية. بعد أن أفاد ربان السفينة الروسية فارنيتسكي (Varnitskiy) بأن الشراكسة قاتلوا بطريقة منظمة، وكان قائدهم يظهر وهو يؤشر بعصا طويلة إلى تموضع كل قادس أثناء الهجوم. وبعد قتال عنيف، هرب الروس“.381
وبالرغم من القدرات المحدودة للشركس، ”إلا أن الإجراءات المتخذة لم تتسبب في تدمير الأسطول الشركسي بالكامل. خاض الأديغه معارك مع القوزاق في البحر عدة مرات. ما هو أكثر كان استمرار الاشتباكات مع سفن البحرية الروسية. وهكذا، في فبراير/شباط 1838، دارت معركة شرسة مع 4 قوادس شركسية من جهة والقارب الشراعي الروسي غلوبوكي (Glubokiy) من جهة أخرى“.382
وذكر المقال أن المعلومات المتعلقة بالموضوع تعتبر نادرة للغاية على الرغم من الإنجازات الهامة. للأسف، الوثائق التاريخية وشهادات شهود العيان تعطينا القليل من المعلومات عن قادة وربابنة البحر الشركس. في خلال 30 عامًا من القرن التاسع عشر، تم نقل الطرق النشطة لاضطلاع السفن الشركسية الساحلية، مع المعروف حسن بي. شكل آخر من أشكال استخدام الأسطول البحري من قبل الأديغه في الصراع مع القيصرية كان إنزال فجائي للقوات الشركسية من القوادس إلى أماكن مهمة ومهاجمة النقاط التي احتلتها قوات القيصر. وهكذا، أصيبت قيادة القيصر بالذهول من الإنزال الجريء والناجح للقوات الشركسية بالقرب من بومبوري (Bombory) في مايو/أيار 1834“. 383
كان الدور الملحوظ الذي لعبته البحرية الشركسية مهمًا. فمن خلال استخدام القوادس، قام الأديغه بتعديل الاتصال فيما بينهم وأيضًا العمل المشترك ضد الغزاة. واستخدموا سفنهم أيضًا في الاستطلاع. حافظت البحرية الشركسية على اتصال مع اسطنبول ومع السفن التركية التي قامت بنقل الأسلحة والذخيرة إلى القوقاز من أجل النضال. إلى جانب ذلك، أبحر الجبليون نحو الإمبراطورية العثمانية بقصد التجارة.384
بالطبع، لم تنجح الهجمات الشركسية على سفن العدو في كل الحالات. وهكذا، كان فورونتسوف (Vorontsov) شاهد عيان على الصعود الشركسي غير الناجح عندما همّ أديغه شجعان على الصعود على متن سفينة روسية. حيث اختاروا موقع الهجوم أمام مقدمة السفينة، لكن البحارة على ظهر السفينة قطعوا سلسلة المرساة، وبينما كانت تسقط على القوادس المضيئة غرقت مع الخاطفين الشركس. كان الملاحون الأديغه يعتمدون على الخلجان الأكثر راحة في الساحل الشرقي للبحر الأسود. وكان لديهم عدد قليل من النقاط المركزية التي يجري فيها ترتيب مسبق. من كلمات دوبوا دي مونبير (Dubua de Monpere): خليج ماماي (Mamay) المشهور منذ العصور القديمة بالقرصنة البحرية، كان المكان المركزي لجميع القراصنة الشركس“.385
توضح الشهادات المقدمة من قبل العديد من الأطراف فكرة تأثير السفن الشركسية ومشغليها، على الرغم من تأثيرها المحدود على سير الحرب في المنطقة.
في الساحل الشرقي للبحر الأسود، اعتاد الأديغه على ملاحقة السفن التجارية المعادية والاستيلاء عليها. وفقًا لما قاله ضابط البحر الروسي ن. ن. سوشيف (N.N. Sushev) الذي كان شاهد عيان على الهجوم الشركسي. أثناء الإنقضاض على سفينة التجارة المعادية، بدأ الشركس أوّلًا ”بضرب كل البحارة بالبنادق على السطح العلوي، وذلك بعد أن كانوا قد صعدوا بالخناجر ثم بعد لحظات قليلة انتهى كل شيء . . .“ علينا أن نأخذ في الاعتبار أن في زمن الحرب، كان كل ذلك يحدث أيضًا في إنجلترا وهولندا وغيرهما. ولم تكن شركيسيا استثناء في هذا المعنى.386
واختتم الكاتب بالقول: ”قدموا شهود بالوقائع حول مساهمة معينة لملاحين عسكريين أديغه في حرب حرية واستقلال شركيسيا. بعد الغزو الروسي لشركيسيا، لم يعد هناك ملاحة للجبليين“.387
نتيجة للحرب التي استمرت 101 عامًا وعواقبها، فقد تم فقدان وثائق مهمة ومعلومات حيوية، بل تم حذفها وإتلافها، لأن القوات الغازية اعتادت على احتلال وتدمير وقتل ونهب ومصادرة وترحيل السكان الباقين. إما إلى ما وراء نهر كوبان أو إلى الإمبراطورية العثمانية.
يتبع…