حضرات القُرّاء الأعزاء،
يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسيا: ولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد
عادل بشقوي
15 أكتوبر/تشرين الأول 2021
نظرة على الإبادة الجماعية الشركسية
الفصل الرّابع
التزام الشركس بالدفاع عن أمتهم (1)
ربما تكون سفارة الأمير سفربي جانوقوي ( Seferbi Zhanoqwe) في القسطنطينية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر مثالًا فريدًا لمحاولة الشركس حشد الدعم لقضيتهم لدى الباب العالي. ومع ذلك، فقد أرهب الروس الأتراك لإبعاده عن العاصمة، ولم يقدم بعد ذلك سوى القليل من المساعدة لمواطنيه المحاصرين.406
تم ترحيل الشركس بقرار من الحكومة الروسية التي كانت ممثلة بقواتها المسلحة ومرتزقتها. لم يكن أمام الناس خيار سوى الالتزام بالتعليمات أو التعرض للقتل: ”القرار المتصلب والكارثي، مثل التهجير الجماعي، ربما يكون قد أظهر طابعًا قوميًا صعبًا، لكن بقاء شعب على أرض وطنه يجب أن يظل في جميع الأوقات هو الأولوية القصوى لزعمائه.407
في مقال بعنوان ”التطهير العرقي للشركس — إبادة جماعية صامتة؟“ كتبه بيلي هاداواي (Billy Hadaway) يشير إلى الفظائع التي تعرض لها الشراكسة، والذي أبرز فيه عناصر المحنة الشركسية:
قبل نهاية الحروب في عام 1864، بدأ الجيش الروسي بجمع الشركس (أو الأديغة بلغتهم الأصلية) الذين نجوا من المذابح واقتيادهم إلى موانئ البحر الأسود، حيث كانت السفن التي قدمتها الإمبراطورية العثمانية المجاورة لهم في انتظارهم. من هنا تم طرد غالبية الشركس، ليتم توطينهم بعيدًا عن وطنهم في أراضٍ داخل الإمبراطورية العثمانية. يقدر المؤرخون أن حوالي 90٪ من الشعب الشركسي قُتلوا أو تمّ نفْيهُم خلال فترة هذه الإبادة الجماعية غير المعروفة على نطاق واسع. يبلغ عدد الشركس اليوم حوالي 7 ملايين شخص منتشرين في جميع أنحاء العالم، يعيش معظمهم في المنفى. لم يبق سوى 750 ألفًا منهم في مناطقهم الأصلية في شمال القفقاس.408
أصدر كبار القادة العسكريين والجنرالات الروس في القوقاز أوامر غير قانونية. فقد أرادوا استئناف الحرب بشن عمليات عسكرية روسية غير مشروعة. لقد كان هدفهم وضع أداة لتحريض الشركس ضد الروس. في المقام الأول، أرادوا خلق جو من عدم الاستقرار لاستفزاز الشركس وغيرهم من شعوب القوقاز.
لذلك يبدو أنه بعد إحباط محاولاته الرسمية لوقف التجارة الروسية–الشركسية، أمر إرمولوف (Ermolov) مرؤوسه فلاسوف (Vlasov) بشن حملة غير رسمية لإعادة إشعال كراهية الشركس للروس. يبدو أن هجماته على القبائل التي كانت تعتبر من المؤيدين المعروفين للروس — وهم الحميش (Hamysh)، والبجدوغ (Bjedukhs)، وبعض الناتخواي (Natuhay) الأرستقراطيين — لم تترك مجالًا للشك.409
تم خلق حالة من عدم الأمان، وبالتالي، تم دفع الشركس مرة أخرى إلى الخطوط الأمامية للدفاع عن وجودهم كأمة ذات كرامة. وكالعادة، كانوا مرة أخرى ضحايا الغدر والقمع الروسي. هم لم يتوانوا في أية لحظة عن الدفاع عن أنفسهم وحقهم في الحياة. وفي نفس الوقت، تم إحياء حملة الدعاية الروسية المعادية لهم مرة أخرى.
نجحت تصرفات فلاسوف في إيجاد حالة من العداء الشديد بين الشركس والروس. كما أفاد ديمتري كودينتس (Dmitry Kodinets) من كلية الشؤون الخارجية في مايو/أيار 1827 للجنرال إيفان باسكيفيتش (Ivan Paskevich)، خليفة إرمولوف: إن الشركس الأبرياء حُرموا من ممتلكاتهم وأصبحوا يتوقون للانتقام، وفقًا لعاداتهم، وبعد أن تجمّعوا في تكتل كبير تسبّبوا في تلف خطوطنا.410
كم هو مضحك عندما يجد أي طرف نفسه في موقف مريب. من المؤسف أن تكون جزءًا من اتفاقية أو معاهدة دون الإلتماس أو الموافقة عليها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقدر وتقرير المصير. مثل هذه المواقف تؤدي إلى السخط أو الإحراج. هذا مثال يوضح الطريقة التي ستتشارك بها الدول الكبرى في السيطرة على الشعوب والدول الأصغر أو تتبادلها فيما بينها دون علمها المسبق.
كانت معاهدة أدريانوبل (Treaty of Adrianople) ضربة قاصمة لآمال ديمتري كودينتس (Dmitry Kodinets). نظر الإمبراطور نيكولاس (Nicholas) الآن إلى الشركس على أنهم رعايا ملزمون بذلك قانونًا ولم يضيّع الوقت في التحضير لغزو شركيسيا. وبالفعل في نوفمبر/تشرين الثاني 1829 أصدر أوامره بـ ”تغيير نظام العلاقات مع الجبليّين خارج كوبان“.411
لم تحترم كافة مبادئ وسلطات الدولة الروسية جيرانها من جميع الاتجاهات. لقد أثبتت الحقائق أن الاتفاقيات الموقعة مع روسيا لم تدم طويلاً. سواء كانت مرحليّة أو مؤقتة، وفي معظم الحالات، قامت الدولة الروسية من طرفها بإلغاء أو نقض أي تعهد لها. لم تكن شركيسيا مطلقًا جزءًا من روسيا إلا في أحلام المستعمرين.
كانت الخطوة الأولى في هذا ”النظام“ الجديد هي عزل سكاسي (Scassi) من منصب مدير العلاقات التجارية استعدادًا للتعليق الكامل للتجارة الروسية–الشركسية. لم يعد الشركس يُعتبرون قبائل مستقلة يتم التعامل معها من خلال المعاهدات والتعاون التجاري، بل كرعايا مُستعْمرين يُحكمون وفقًا لأوامر حكومية.
كان الشركس، في جميع الأحوال، في خضم الجشع الاستعماري. وقد وضع الارتباك والفوضى اللذين عانت منهما إدارة الإمبراطورية الروسية خططها المستقبلية بدون مواعيد محددة تستطيع الوفاء بها: ”وعلى الرغم من حرص الروس على إخضاع شركيسيا للسيطرة الإمبريالية الكاملة، إلا أنهم لم يكن لديهم أي فكرة عن سبب وجودهم هناك“.413
لطالما تلاعبت روسيا بأساليب خادعة تتعلق بحروبها الإمبريالية. وفي بعض الأحيان، تجاهلت الحقائق والوقائع. فعندما لا تنجح خطط الروس أو أنها لم تنفذ بشكل صحيح، فإنهم سيلومون أي شيء سوى إهمالهم. لقد افترضوا جهل الآخرين وتظاهروا بأنهم لا يرون ولا يسمعون. وعليه، لم يتّخذوا إجراءات واحتياطات وقرارات متيقّنة.
ادّعى الجنرال غريغوري فيليبسون (Grigory Filipson) أن الإمبراطور ومستشاره ”لم يشُكُّوا في أننا نتعامل مع مليون ونصف المليون من السكان الجبليين الشُّجعان والعسكريين الذين لم يعترفوا أبدًا بأي سلطة عليهم، والذين يمتلكون حصونًا طبيعية وقوية في كل خطوة يخطونها في غاباتهم الجبلية المغطاة بالأدغال“. وخلص فيليبسون إلى أن الإمبراطور ”اعتقد حقًا أن الشركس ليسوا أكثر من رعايا روس متمردين، تم التنازل عنهم لروسيا من قبل حاكمهم الشّرعي السلطان في معاهدة أدرنة“.414
جعل ارتباك القيادة الروسية الأمر صعبًا على أنفسهم وعلى ضحاياهم سواءً بسواء. فلا عذر للتكهن بأمور تتعلق بحرب ضروس وطويلة اندلعت عندما كانوا هم من بدأها. ويبقى السؤال المشروع حول من أعطاهم الحق في احتلال وضم شركيسيا. كذلك، من هو المسؤول عن استعادة الشركس لحقوقهم؟
المشاريع التي اقترحتها الحكومة الروسية لاحقًا لدمج شركيسيا في الإمبراطورية الروسية هي دليل على أنها لا تملك أدنى فكرة عما تواجه. شكّل وزير الخارجية نيسرلود (Nesserlode) لجنة لتأسيس ”مناطق عبر كوبان“، وفي أوائل أبريل/نيسان 1830 وضعت اللجنة خطة أولية لإدارة شركيسيا.415
لم تكن مقاربات القيادة الروسية على الدوام سوى وسيلة من وسائل المكر والخداع. فهي لم تكن يومًا واضحة ومباشِرة بالمطلق. إنهم دائمًا ما يشقون طريقهم من خلال الأساليب والحيل الملتوية. إن موقفهم الخادع هو تفردهم السائد، وهو أنهم لا يستطيعون أن يكونوا رحماء أو متسامحين، حتى مع أكثر البشر ضعفاً.
في إطار ”الإجراءات الإيجابية“، اقترحت اللجنة دعوة القادة الشركس ”الأكثر نفوذاً“ إلى اجتماع ؛تحت إشراف قائد جبهة القوقاز“، حيث سيتم إبلاغهم بأن الإمبراطور نيكولاس (Nicholas)، ”كريم في لطفه وصارم في العدالة، ويرغب في وضع حد للاضطراب في القوقاز“، وسيتم سؤالهم عن آرائهم حول كيفية تنفيذ ”إرادة الإمبراطور“ بأسلوب أكثر فعالية.416
يتم صياغة ومتابعة الخطط العشوائية من الأفكار السيئة لتوصف بأنها “مصادفة“. كل ذلك يهدف إلى السيطرة على السكان الأصليين بأي طريقة أو شكل وبالتالي السيطرة على وطنهم ليتم ضمه إلى إمبراطورية آخذة في التوسع. لطالما كانت الأكاذيب مُعدّة بطريقة تُظهر أن روسيا تتصرف وفقًا لمعايير أو عقيدة معينة، لكن الواقع يثبت عكس ذلك.
يوصي باقي التقرير بتفصيل كبير كيفية تقسيم المنطقة الجديدة ودمج القبائل في وحدة إدارية واحدة. وفي إطار ”الإجراءات السلبية“، أوصت اللجنة بفرض حصار كامل على ساحل البحر الأسود لوقف كل تأثير تركي في شركيسيا وتدمير التجارة: ”مع القضاء على فرصة تسويق مسروقاتهم من السجناء، فإن قبائل القوقاز لن تجد أي فائدة بعد الآن في مواصلة غاراتها الجشعة على المناطق الروسية التي تحدهم وكذلك فيما بينهم“.417
كانت الإستراتيجية الروسية الملموسة هي الاستمرار في تنفيذ خطة إدارة الأزمات. كانت السيطرة الروسية الشاملة وربط الأراضي المحتلة بالإمبراطورية الروسية عملاً استعماريًا بحتًا. يحتاج المواطنون الذين ينوون السفر إلى المناطق الروسية إلى تأشيرة سفر. من الواضح كيف ترتكب السلطات جريمة فرز السكان وكذلك التطهير العرقي، بالإضافة إلى جرائم أخرى.
كان من المقرر فرض نظام تأشيرات لمنع حرية تنقل الشركس بحرِّيَّة في الإمبراطورية، وكان من المقرر إنشاء أسواق في المراكز الحضرية حيث سيكون الشركس قادرين على التجارة مع الروس.418
لم يتم التعامل مع القضيّة الشركسية ولم يتم حلها بطريقة مناسبة. مع ذلك، ومن أجل تسوية المآسي، كان على السلطات الروسية تقديم حل. أرادت الإمبراطورية الروسية أن يكون الشركس كبش فداء لأي حل أو اتفاق. وبالطبع، أرادوا من الشركس أن يلقوا أسلحتهم من جهة وأن تقوم السلطات الروسية بالقضاء عليهم أو إبعادهم بعيدًا عن وطنهم من جهة أخرى.
إذا لم تكن لهذه الخطط مثل هذه النتائج المأساوية، فيمكننا ببساطة رفضها باعتبارها سخيفة. على الرغم من ثلاثة عقود من الأعمال العدائية شبه المستمرة، اعتقد نيسلرود (Nesselrode) بطريقة ما بأن إعلان ”الإمبراطور الطاغية“ سيقنع الشركس بإلقاء أسلحتهم والخضوع للحكم الروسي.419
يتبع…