حضرات القُرّاء الأعزاء،
يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسيا: ولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد
عادل بشقوي
19 أكتوبر/تشرين الأول 2021
نظرة على الإبادة الجماعية الشركسية
الفصل الرّابع
التزام الشركس بالدفاع عن أمتهم (2)
كانت ”لعبة إلقاء اللوم“ خدعة معتادة للمغالين الروس، الذين يضمرون الكراهية وهم حاقدون بطبيعتهم تجاه الشركس. ويمكن للمراقب الحصيف أن يكشف الأدلة غير الكافية المقدمة لتشويه سمعة ضحاياهم، الذين تعرضوا للغزو في بيوتهم. وقد أدت سياستهم العامة في نهاية المطاف إلى تعقيد وتجاهل الحقائق.
وبالمثل، فإن الفكرة القائلة بأن الحصار الذي يعيق التجارة من شأنه أن يوقف هجمات الشركس لا يمكن تصديقه إلا من قبل شخص لم يقرأ (أو يصدق) تقرير كودينتس (Kodients) لعام 1827 الذي وضع لوم الغارات الشركسية على مسؤولية قوزاق البحر الأسود بالكامل، وليس على أي رغبة ”طامعة“ في الحصول على الغنائم.420
في أي وقت تم فيه مواجهة الشركس، فإنّهُم تصرفوا حسب الظروف المحيطة. كانوا يعرفون حقوقهم وبالتالي تصرفوا على هذا النحو. لكن على ما يبدو، فإن الوضع العام وحالة الحرب التي فُرضت عليهم قد أوجدت مبادئ توجيهية ومعايير لكل شخص في موقع المسؤولية للتصرف دون المساس بحقوقهم.
أما بالنسبة لاقتراح جمع الشركس ”الأكثر نفوذاً“ في اجتماع مع القيادة العسكرية الروسية، فقد كان رائعاً لسببين. أولاً، لم يكن هناك شركس مؤثرون خارج قبائلهم — كانت هذه دائمًا المشكلة المركزية مع محاولات الشركس للحكم الذاتي. ثانيًا، لا يزال الأبزاخ والشابسوغ يعتبرون أنفسهم في حالة حرب مع روسيا وكانوا واثقين من قدرتهم على الدفاع عن وطنهم. وكانت ”الفوضى“ الوحيدة التي أرادوا إنهائها هي وجود القوزاق.421
معظم القوات الروسية وأتباعها المرتزقة عملوا وخططوا وفق نوايا عنصرية وإجرامية. وعلى ما يبدو، كانوا كذلك قد تربوا من قبل أولئك الذين ليس لديهم مشكلة في القيام بـ ”الأعمال القذرة“ لإرضاء زعمائهم وقادتهم. لم تعتبر حياة البشر أبدًا عقبة أمامهم عند ارتكابهم أي جريمة.
ردًا على التقرير، كلف باسكفيتش (Paskevich) الجنرال بيكوفيتش تشيركاسكي (Bekovich-Cherkassky) بتقييم الوضع ووضع توصيات محددة. قدم بيكوفيتش تشيركاسكي، وهو نفس الزعيم القباردي السابق (Pshi) الذي ذبح النساء والأطفال القباردي في مذبحة عشيرة كاراموز (Karamuze) في عام 1825، الذي قدم تقريره في خريف عام 1830. 422
لم يهتموا بحياة البشر ولم يلتزموا بالقيم أو القوانين أو الأعراف أو الأخلاق. وبفعلهم ما فعلوه، كانوا يأملون أن يشكرهم قادتهم وأن يحظوا بالقبول منهم. كان شاغلهم الرئيسي هو مواصلة الإبادة الجماعية التي بدأت في وقت سابق، بغض النظر عن المدة التي ستستغرقها.
وكرر بيكوفيتش وجهة نظر فريق إيرمولوف (Ermolov)، محذرا من أن ”الإجراءات اللطيفة التي لا يرافقها ويدعمها بقوة السلاح هي بحد ذاتها غير كافية بل ضارة“، واقترح ”احتلال المواقع التي تكون بمثابة مفاتيح لكسب عيشهم“. وبالتالي، ”حرمانهم بقوة السلاح من أهم وسائل بقائهم على قيد الحياة“.423
كانت الأساليب الإجرامية مصحوبة بإصرار وحشي وبربري ولا إنساني. كان هذا مجرد نقطة انطلاق للغزو والاحتلال والتدمير والإبادة الجماعية والترحيل القسري. ورأوا أنه لا حرج من المضي قدما في جرائمهم إذا كانت الغاية تبرر الوسيلة. لقد كانوا ملتزمين تمامًا بالقضاء على الشركس كأولوية قصوى.
بعبارة أخرى، تم تجويع الشركس لإجبارهم على الخضوع. في تقريره إلى ناسلرود (Nesselrode) في يونيو/حزيران 1831، أيد باسكفيتش بحماس خطة بيكوفيتش وعدّد أربعة عشر إجراءً لِسنِّها، معظمها كان قيد الاستخدام بالفعل لمدة ثلاثين عامًا. كان التّحديث الوحيد هو أمر تقديم الإدارة الروسية بسرعة بعد أن “تسبب جبروتنا في سقوط الجبليين“.424
كان تغيير واستبدال الضباط والقادة في القوقاز بشكل عام وفي شركيسيا بشكل خاص إجراءً روسيًا روتينيًا. وكانت التغييرات الدورية للوظائف ومقار القيادة ممارسة عادية أيضًا.
في العادة، قاموا بتعيين الأشخاص المناسبين وفقًا لطبيعة المهام والعمليات العسكرية التي سيتم التخطيط والاستعداد لها.
كيف يمكن لباسكفيتش، وهو قائد متمرس لديه معرفة وثيقة بالوضع المستعصي في منطقة كوبان، أن يدعم اقتراحًا بعيدًا عن الواقع، ولا يفترضه أي شخص، لكن على أي حال تم استبداله في وقت لاحق من ذلك العام بأليكسي فيليامينوف (Alexei Velyaminov).425
سيكون اقتباس ويليام شكسبير متسقًا مع المصائب التي حلت بالشركس بسبب الجشع الاستعماري: ”عندما تأتي الأحزان، فإنها لا تأتي جواسيس بمفردها، بل في كتائب“. استخدمت الحملة العسكرية الروسية أساليب إرهابية ذات نوايا عدوانية بما في ذلك القتل والتدمير والاحتلال.
أحد التفاصيل الغريبة للغاية في التقارير العسكرية التي تتناول تدمير المنازل والطعام هو عدم وجود أي ذكر للمدنيين. في الملاحظات الميدانية لعام 1836، نادرًا ما تمر إحدى الصفحات دون ذكر ما لا يقل عن حرق قرية واحدة (تم حرق أربعة وأربعين قرية في أكتوبر وحده). يتم ذكر مشاهد المفارز الشركسية على ظهور الخيل في بعض الأحيان، ولكن لا توجد إشارات إلى النساء والأطفال في أي مكان.426
لم يكن لحياة البشر قيمة في العقيدة العسكرية للقيصرية الروسية. لم يكن هناك أدنى احترام أو تقدير للحياة البشرية. ولم يكن أي اعتبار لحياة السكان الأصليين: ”من الواضح في بعض التقارير أنه تم إخلاء القرى، لكن كان يقال في بعض الأحيان أنه تمت السيطرة على القرية {بدون مقاومة}. وفي إحدى الحالات، أحرقت القوات بقيادة العقيد ميلنتي أولشيفسكي (Milenty Olshevsky) قريتين محتلتين، لكن مرة أخرى لم يكن هناك أي ذكر لما حدث لسكان القرى“.427
لقد قاموا بمهام شيطانية لا يقبلها أي شخص لديه ضمير بشري: ”فعلى الرغم من هذا الإستخفاف المنهجي للضحايا البشرية لحملاتهم، فقد حوَّل الروس الحرب إلى إجراء بيروقراطي. وفي هذا الوقت أيضًا، بدأ مصطلح التطهير (ochishchenie) بالمعنى الحرفي في الظهور في التقارير الميدانية في إشارة إلى الحملات الاستكشافية إلى الجبال“.428
يا له من سبب سخيف ليُسْتخْدم لإبادة أمة بأكملها. إنّهُ ليس من العدل أن يكون هناك مثل هؤلاء الجنرالات والقادة ليقرروا وجود ومستقبل الشعوب والأمم. لا يجب أن يود الناس روسيا حتّى يُتْركوا وشأنهم: ”كان القادة العسكريون قد قرّروا بالفعل أن الشركس يكرهون الروس بشكل مفرط لدرجة أنّهُم لن يُصبحوا أبدًا رعايا للإمبراطورية، لذلك عملوا على تدميرهم“.429
وُضعت أسماء القادة والجنرالات الروس في سجلات التاريخ الأسود التي صنعوها لأنفسهم. لقد أثبتوا أنهم وحوش من خلال أعمالهم الإجرامية ضد أمة أرادت ببساطة أن تكون حرة ومستقلة.
وبمجرد أنْ استنتجوا أنه سيتم القضاء على الشركس في أي حال، بدأوا في معاملتهم بزيادة مستويات الوحشية. فيليامينوف (Velyaminov) وزاس (Zass) وسيريبرياكوف (Serebryakov) وآخرون كانوا الرواد الذين وضعوا الأسس الأيديولوجية والتكتيكية التي يمكن أن يستخدمها نيكولاي إيفدوكيموف (Nikolai Evdokimov) في ستينيات القرن التاسع عشر لارتكاب الإبادة الجماعية.430
جعلت الفوضى الطائفية الروسية والتصرفات المرتجلة الوظيفية من المستحيل تقريبًا هزيمة القوات الشركسية. استمر ذلك طوال عقود من الحرب والحصار والعقوبات، لكنهم لم يتمكنوا من تنفيذ أهدافهم. أدّى ذلك إلى تبني سياسات قاتلة مثل سياسة الأرض المحروقة، بالإضافة إلى القضاء على الأمة بأكملها أو إبعادها عن الوطن. لقد نجحوا عندما اتّبعوا مُخططات شيطانية تشير إلى الكراهية المُفرِطة.
أحد أسباب تحول الروس إلى الإبادة الجماعية كحل للقضية الشركسية هو أنهم لم يستطيعوا أبدًا تطوير خطة مُحْكمة لإخضاعهم للحكم الروسي. على الرغم من أن جهود رافسكي (Raevsky) لغزو الشابسوغ (Shapsug) في عام 1838 قوبلت بالفشل الذريع؛ وفي يناير/كانون الثاني 1839 اقترح وزير الحرب الروسي ألكسندر تشيرنيشيف (Alexander Chernyshev) نفس الخطة تقريبًا.431
ربما يكون هناك انطباع واقعي عن المجموعة الأولى من الشركس الذين وصلوا إلى أرض مهجورة تم التخلي عنها منذ مئات السنين. وكما هو متوقع، فقد وصف المستوطنون بأنهم تعرضوا لـِ ”أضرار جسدية ونفسية“. وليس من غير المألوف أن يكون لديك مثل هذا الانطباع عن الأشخاص المذعورين. هذه شهادة عن مآسي الحرب، وتحمُّل أهوالَها، حيث طُرِدوا من وطنهم بقوة السلاح، وأمضوا وقتاً عصيباً في السفر بالسفن.
في عام 1881 وصل النقيب البريطاني كلود كوندر (Claude Conder) إلى عمان خلال حملة ضد رجال القبائل الدرزية. لم تكن المدينة مأهولة بالسكان حتى عام 1876، وكان المهاجرون الشركس قد بدأوا للتو في استعادة الموقع القديم لفيلادلفيا. ووصف كوندر الأضرار الجسدية والنفسية التي كان يعاني منها المستوطنون ورسم صورة لا تُبشِّر بالأمل.432
إن تهجير وترحيل الشركس بكل تداعياته لم ينته في وجهة واحدة. لكن كان على بعضهم أن ينتقلوا بالسفن إلى أماكن أخرى خاصة من مناطق البلقان التي انتقلوا اليها أوّلًا. فقد تم نقلهم وإيصالهم من قبل سلطات الدولة العثمانية إلى أطراف وضواحي الإمبراطورية. وأخذهم ذلك في النهاية إلى الأجزاء العربية من الإمبراطورية، والتي كان الأردن واحدًا منها.
المستوطنة الشركسية في عمان هي واحدة من عدة مستوطنات زرعها السلطان في بيرية (Peraea). هؤلاء الأشخاص التعساء، الذين طردهم الروس من منازلهم، وطردهم مرة أخرى من مستوطناتهم الجديدة في تركيا الأوروبية بسبب الحرب الأخيرة، منتشرون الآن في البرية، حيث تم تخصيص الأرض لهم لزراعتها.433
واصل الضابط البريطاني رسم صورة قاتمة للوضع المحزن الذي وجد الشركس عليه في عمّان. لقد صور صورة تكشف كيف خرج الشركس من أتون الحرب. وتلت ذلك كارثة شملت الموت والدمار والنزوح والجوع والمرض. وقد انتهى بهم الأمر بالاستقرار في بيئات ومحيط جديد، فكان عليهم التكيف مع كل ذلك والاعتياد على التعامل مع البعد الديموغرافي.
لكنهم، مع ذلك، لديهم نظرة فاترة ومحبطة للمنفيين الذين يجدون أنه من المستحيل أن يتجذّروا في المنطقة غير الجاذبة التي تم إرسالهم إليها. مكروهين من العرب والفلاحين، وكانوا قد سُلبوا من أموالهم وممتلكاتهم، وبعد أن رأوا العديدين من أكثرهم شجاعة يسقطون أو يموتون من الجوع، يبدو أنه لم يعد لديهم المزيد من الشجاعة، وربما يموتون بالتدريج، أو يتبعثرون بين السكان الأصليين“.434
بالنظر إلى تجاربهم وأوقاتهم العسيرة خلال رحلتهم من الإبادة الجماعية والترحيل، كانوا مرتابين في كل شيء. وأدّى وصول الجيش البريطاني إلى وضع عدة احتمالات في عين الاعتبار.
أثار ظهورنا في عمان فجأة مخاوفهم. لقد اعتقدوا أننا رواد سلطة وكنا على وشك الاستيلاء على البلاد، وتساءلوا بقلق ما إذا كان سيسمح لهم بالبقاء حيث كانوا وذلك في حالة بقاء الاحتلال الإنجليزي أو الفرنسي.435
يتبع…