نظرة على الإبادة الجماعية الشركسية / فتوحات إيفان الرهيب (2) – من كتاب “شركيسيا: ولدت لتكون حرة” للكاتب عادل بشقوي

حضرات القُرّاء الأعزاء،

يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسيا: ولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد

عادل بشقوي


29 أكتوبر/تشرين الأول 2021

نظرة على الإبادة الجماعية الشركسية

الفصل الرّابع

فتوحات إيفان الرهيب (2)

PHOTO-2021-10-28-21-27-34

من منطلق مبدأ حق الدفاع عن النفس، كان الشركس أحرارًا في الدفاع عن أراضيهم ضد غزو القوات القيصرية الروسية. اجتاحت المناطق الشركسية بين ساحل البحر الأسود والجبال العالية والوديان العميقة والسهول المتناثرة. أقاموا معاقل عسكرية لتمكينهم من مواصلة عملياتهم. لم يعترف الشركس قط بأنهم وافقوا على ترك وطنهم تحت أي عنوان.

لكن الشركس الحقيقيينشعوب أديغه الأصلية في شمال غرب القوقازأثبتوا أنهم مشكلة مستمرة للمسؤولين الروس. هاجموا الحصون الروسية على طول ساحل البحر الأسود وداهموا المستوطنات شمال نهر كوبان. أكدوا مرارًا وتكرارًا أن منطقتهم كانت مستقلة منذ فترة طويلة، وليست جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، وبالتالي لا يحق للسلطان التنازل عن أراضيهم للقيصر كما فعل في عام 1829 بموجب شروط معاهدة أدرنة.

لا تعني الاتصالات وإجراء التحالفات مع روسيا القيصرية بأي شكل من الأشكال أن الشركس قد اندمجوا في مثل هذا الكيان أو ارتبطوا به، حتى لو كان هناك عدد قليل من الزعماء الشركس الذين كانوا ودودين أو حتى لديهم علاقات عائلية وعلاقات خاصّة مع القيصر. هؤلاء الزعماء أو زعماء العشائر يمثلون أنفسهم وربما عشائرهم فقط وليس كل القبائل الشركسية.

كانت الأمة الشركسية آخر من تم إخضاعها بالكامل.

كان الشركس أول وآخر الشعوب الأصلية في القوقاز التي تم دمجها في الإمبراطورية الروسية. تعود أولى الاتصالات الرسمية بين روسيا والجماعات الشركسية إلى القرن السادس عشر. كان القباردي الناطقون باللغة الشركسية في الأراضي المنخفضة شمال غرب القوقاز حلفاء مهمين للمسكوفيين في جهودهم لمواجهة نهب تتار القرم. ومع ذلك، كان هناك أيضًا من قاوموا باستمرار الحكم الروسي، واستمروا في القتال حتى بعد استسلام شامل.467

للأسف، اكتشفت شركيسيا نفسها في براثن الوحوش المفترسة التي أرادت أن تلتهم فريستها، لكن فقط في الوقت المناسب، وفي غياب الآخرين: ”طوال القرن التاسع عشر كان الشركس موضع اهتمام كبير للاستراتيجيين في أوروبا الغربية. في الجزء الأول من القرن التاسع عشر، عمل الفرنسيون للحصول على حقوق تجارية تفضيلية معهم. لاحقًا، لعبت القضية الشركسية دورًا خاصًا في الإستراتيجية الشاملة لبريطانيا، وهي المنافس الرئيسي لروسيا في الشرق الأدنى“.468

كانت سمعة وحضور الشركس حاضرة في العالم الغربي. لقد ارتبطت أناقتهم ولياقتهم، بالإضافة إلى اللباس، والعناية الشخصية، والطريقة التي يظهرون بها، بأنّهُم الشركس الوسيمين. لقد تم وصفهم على هذا النحو وهم يرتدون أزياءهم القوميّة. أعجب الناس الذين التقوا بالشركس بهم. وقد أظهر الأشخاص الذين التقوا بهم تقديرًا وإعجابًا لمعاملاتهم ولطفهم ودماثة أخلاقهم. وهكذا، كيف يمكن أن تكون صفات هؤلاء الناس كما يحاول الروس دائمًا أن يدّعوا؟

من خلال مكانة الشركس في المناورات الكبرى في ”اللعبة الكبرى، ترسّخت سمعتهم كمقاتلين نبلاء من أجل الحرية في الخيال الغربي. ليس من المبالغة القول إن كلمةشركيسياأصبحت كلمة مألوفة في أجزاء كثيرة من أوروبا وأمريكا الشمالية لعدة عقود في منتصف القرن التاسع عشر. وجد مراسلون من الصحف الكبرى طريقهم إلى شركيسيا أو حصلوا على معلومات من القناصل والتجار الأجانب في طرابزون والقسطنطينية.469

فيما يتعلق بالشؤون الشركسية، التي قوبلت بآذان صماء في القرن التاسع عشر، فإن القوى العظمى في ذلك الوقت التي كان لها وزن دولي لم تستغل واجبها الأخلاقي تجاه الأمة التي دمرتها الإمبراطورية الروسية عمداً مع سبق الإصرار والتّرصُّد. لقد تم إبادة معظم السكان أو تطهيرهم عرقياً أو ترحيلهم. حدث كل ذلك تدريجيًا وببطء ولكن بثبات.

القضيّة الشركسية، الوضع السياسي للجبال الشماليةالغربية من القوقاز، تمت مناقشتها في البرلمانات ونوادي السادة من الطّبقات العليا في المجتمع. لبعض الوقت في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، جاب الجواسيس البريطانيون المنطقة، ساعين إلى تشكيل القبائل الشركسية اليائسة في قوة عسكرية موحدة. في الواقع، حتى العلم الوطني الشركسيالذي يحمل تصميم النجوم والسهام الذي يمكن العثور عليه اليوم وهو يرفرف عبر شمال غربالقوقاز وفي الشتات الشركسيكان من عمل ديفيد أوركهارت، وهو خبير اسكتلندي في الشؤون العامة، لكنه لوّامًا أو دائم الشكوى، أصبح وسيطًا للجبليين في الغرب واتخذ قضيتهم كأنّها قضيته.470

على الرغم من المناشدات والرسائل التي بعث بها الشركس إلى الإمبراطورية العثمانية ودول أوروبا في ذلك الوقت، إلّا أنّهُ لم يُكترثُ بها. أيضًا، نقل مواطنو الدول الأوروبية الذين زاروا شركيسيا الصورة الحقيقية للوضع إلى بلدانهم الأصلية، لكن لم يكن هناك استجابة لهم. بالتّالي، وصلت الوفود الشركسية التي تم إرسالها إلى تلك الدول لشرح طبيعة الجرائم التي تم ارتكابها ضدّهُم.

في خطاب حزين إلى الملكة فيكتوريا، ملكة بريطانيا، حاول زعيمان شركسيان توضيح صعوبات العمل المُنَسّق: ”خلال حرب القرم، اتهمتنا دول الحلفاء بعدم الصِّدق، ولم نشارك معهم ضد خصمنا المشترك، كما كتبوا بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب. ”هذا صحيح، لكنه لم يكن خطأ أمتنا، لأنه انطلق من التوق إلى الاتحاد والمقدرة في ما بين قادتنا“.471

لقد اكتسبت الإمبراطورية الروسية الانتهازية دائمًا اللحظة المناسبة لتخليص نفسها من المهام الأخرى من أجل وضع اهتماماتها وقدراتها في القضاء على الشركس: ”إن انتهاء الحرب في داغستان والشيشان، متبوعًا بنهاية صراع القرم، سمح للمُخطِّطين الرُّوس لتوجيه انتباههم الكامل إلى الصِّراع المستمر ضد الشركس. وسيمثل الهجوم العسكري الجديد الذي أعقب ذلك، الفصل الأخير لحروب القوقاز في القرن التاسع عشر وبداية تاريخ طويل من المنفى الشركسي“.472

كل الأعمال العسكرية التعسفية التي قامت بها قوات الإمبراطورية الروسية كانت تهدف إلى ترويع الناس. تم قتل السكان الأصليّين ودُمِّرت قراهم. كانت خطة تلك القوات العسكريّة النهائية تهدِف إلى تنفيذ نوايا الرّوس الشرِّيرة. أدت الفوضى في عملياتهم وتعدد الأهداف إلى جعلهم يتمتعون بالمرونة، ويتريّثون في مخطّطاتهم ويُكرِّرون جرائمهم.

منذ الأيام الأولى للتّحرك الرُّوسي في القوقاز، كانت خطة إعادة ترتيب السكان جزءًا أساسيًا من الإستراتيجية السياسية والعسكرية للإمبراطورية. كان حرق المحاصيل وتدمير القرى، بمفردها، وسائل غير كاملة لضمان الرضوخ الكامل. كان يمكن إعادة زراعة المحاصيل وبناء البيوت. وبعد أي موسم مُعيّن للحملات، قد تعود القُوّات الرُّوسية إلى المنطقة التي كان يسودها سابقًا الهدوء للعثور على أن القرويين يُقدِّمون مرةً أُخرى المساعدة للمقاومة المحلية.473

تشير الاستنتاجات الإجرامية إلى أن بعض الأعمال اللاإنسانية ضد السكان الأصليين ساعدت في تنفيذ السياسات الإمبرياليّة: ”مع مرور الوقت أدرك القادة الروس أن التهجير الكامل للسكان يمكن أن يضمن أن المجتمعات التي تم احتلالها خلال موسم واحد لن تُصبح متمردة خلال الموسم التالي“.474

لكي يتخيل الناس أمة قديمة بأكملها في القوقاز تعرضت للإبادة الجماعية: تم ترحيل الغالبية العظمى من الذين نجوا إلى مصير مجهوليا له من حدث فريد ولكنه شرّير في حد ذاته. سرعان ما تم التوصل إلى أحكام خارج نطاق القضاء في زمن الحرب وتم اقترافها ضد أكبر شعب في القفقاس في ذلك الوقت. صدرت أحكام شريرة وغير أخلاقيّة من قبل الطغمة العسكرية، التي كانت تمثل الإمبراطور، وذلك ضد الشعب كله.

في مذكرة سياسية لعام 1857، لخص ديمتري ميليوتين (Dmitrii Miliutin)، رئيس أركان باراتينسكي (Bariatinski)، التفكير الجديد في التعامل مع الجبليين في الشمالالغربي من القفقاس. زعم ميليوتين أن الفكرة لم تكن لتطهير المرتفعات والمناطق الساحلية من الشركس بحيث يمكن توطين هذه المناطق من قبل المزارعين المنتجين، كما حدث في أجزاء أخرى من محيط الإمبراطورية. لكن على الأصح، كان القضاء على الشركس هو غاية في حد ذاتها — وذلك لتطهير الأرض من العناصر المعادية.475

كانت خطة التهجير، التي كانت تسمى في مرحلة ما إعادة التوطين،  تهدف إلى إعادة توطين الأرض بالروس والقوزاق وذلك في الوقت الذي يتم فيه ترحيل السكان الأصليين دون تصريح. كان هذا غزوًا واحتلالًا استعماريًا: ”وافق القيصر ألكسندر الثاني (Alexander II) رسميًا على خطة إعادة التوطين، مع هدف نقل الشركس إلى خارج القوقاز، إلى الأراضي المنخفضة على طول نهر كوبان. كان من المقرر أن يرى ميليوتين، الذي سيصبح وزيرًا للحرب في نهاية المطاف، خططه تتحقق بحلول أوائل ستينيات القرن التاسع عشر“.476

كل القادة العسكريين الذين تمركزوا في مواقع مختلفة، كانوا يشرفون على العمليات الوحشية ضد الشركس. اتّبعوا سياسة إخلاء الوطن الشركسي من سكانه بأي طريقة ممكنة. بالإضافة إلى الجرائم الأخرى، تمارس العنصرية البغيضة ضد واحدة من أكثر الأمم تجذرًا في القوقاز. إن استخدام الدين كسبب لجميع الفظائع الدنيئة المذكورة أعلاه ليس سببًا مقنعًا. فالدين لا يُحرّض على العنف ولا القتل ولا اغتصاب حقوق الآخرين.

في سلسلة من الحملات العسكرية الشاملة استمرت من 1860 إلى 1864 — أشرف عليها ميليوتين في سانت بطرسبورغ، وبارياتينسكي في تيفليس (تبليسي)، ونيكولاي إفدوكيموف، قائد الجناح الأيمن، في الجبالتم إفراغ شمال القوقاز وساحل البحر الأسود فعليًا من القرويين المسلمين. تم نقل طوابير النازحين إما إلى سهول كوبان أو نحو الساحل لنقلهم إلى الإمبراطورية العثمانية، وكانت قد أُعِدّتْ في وقت سابق ترتيبات لإعادة توطين المسلمين.477

طالت الجرائم غير المسبوقة ضد الإنسانية المرتكبة كافّة العشائر والقبائل الشركسية دون استثناء. كانت النتائج لمن ارتكبها مثيرة للإعجاب. الجزء الذي كان يسكنه الناس من الوطن تم تطهيره وترحيله عرقيا. لم تنجو القرى من الدمار الحتمي. قام الجنود والمرتزقة بالمرح والاستمتاع بتنفيذ الأوامر الرّوسيّة، الأمر الذي تطلب منهم القضاء على العنصر الشركسي.

واحدة تلو الأخرى، تم تفريق مجموعات قبلية شركسية بأكملها أو إعادة توطينها أو قتلها بشكل جماعي.                                                   مع تحرك القوات الرّوسية أبعد وأبعد في مرتفعات شمال-غرب القوقاز تم وضع قوائم بالمجموعات المستهدفة للطرد وصدرت أوامر بنقلهم من قراهم إلى الساحل. كانت المفارز الروسية تتقدم عبر وديان الأنهار على المنحدرات الشماليّة، لتكتسح القمم ثم تدفع الناس نحو البحر الأسود على الجانب الآخر.478

يتبع…

Share Button

اترك تعليقاً