حضرات القُرّاء الأعزاء،
يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسيا: ولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد
عادل بشقوي
02 نوفمبر/تشرين الثاني 2021
نظرة على الإبادة الجماعية الشركسية
الفصل الرّابع
فتوحات إيفان الرهيب (3)
تتمتع جميع سلطات وفروع الحكومة الروسية بالقدرة على تنفيذ عمليات وحشية لفظائع يندى لها الجبين. ومن غير المفهوم أن تقوم سلطات الغزو والاحتلال بالاجترار ثم ابتكار المصطلحات الخاصّة بها، التي ليس لها مشروعية. كيف سيصفون الشركس الذين ثاروا في تمرد ضد روسيا القيصرية بينما كان الوضع على العكس تمامًا؟ كان الشركس وغيرهم من شعوب القوقاز يقاومون المعتدين الذين جاءوا للهيمنة على بلادهم والسيطرة عليها بالإكراه وبقوة السلاح.
أكد الدبلوماسيون الروس مرارًا وتكرارًا لزملائهم الأوروبيين أن عمليات الطرد لم يكن القصد منها أن تكون دموية، وأن إزالة الجبليين هي الطريقة الوحيدة لإخماد أعمال اللصوصية والتمرد المنظم. كتب مراسل في صحيفة جورنال دي سانت بطرسبورغ (Journal de St. Petersbourg): ”لن تنتهي الحرب في القوقاز تمامًا حتى يعبر جنودنا جميع سلاسل الجبال ويطردون آخر السكان“، و “لكن نأمل، على الأقل، أننا لن نواجه بعد الآن مقاومة عنيدة في أي مكان، وبسبب عجزها العددي، فإن القبائل التي لا تزال في الوديان المرتفعة لن تمثّل لنا بعد الآن أدنى قدر من الخطر“.479
ومما يؤسف له أن القوات التي قامت بقمع وقتل وتشريد الآخرين لم تكن لديها مشاعر إنسانية بالشفقة أو الرأفة، بل أظهرت غدرًا تلقائيًا وذاتيًا وسوء معاملة وعربدة. الهجرة الشاملة للمجتمع بأسره كانت تضم جميع فئات المجتمع الشركسي دون استثناء. إذا كان على الروس أن يفعلوا شيئًا ما، فهو أنه ما كان ينبغي عليهم أن يتورّطوا في مثل هذه المتاهات الإجرامية.
يبدو أن حجم الهجرة والمعاناة التي يعاني منها اللاجئون على الساحل قد فاجأت الروس. لم يصل الشركس مع عائلاتهم وممتلكاتهم فحسب، بل وصلوا أيضًا مع العبيد والماشية والأشخاص والبضائع الأخرى. تم اخذ القليل من المؤن لإقامتهم أو لنقلهم بأمان إما إلى نهر كوبان، أو إذا رغبوا إلى الموانئ العثمانية. لم يتم إنشاء لجنة حكومية خاصة حتى عام 1862، حيث تم تخصيص التمويل اللازم لتنظيم النقل عبر البحر. بينما كان الروس على دراية بالعديد من أكبر وأقوى التجمعات القبلية في غرب القوقاز، كشفت الحملة الأخيرة عن وجود مجتمعات إضافية لا يعرف الروس عنها سوى القليل. في إحدى الحالات، أبلغ سكرتير في وزارة الخارجية الروسية السفير البريطاني، اللورد نابير (Lord Napier)، أنه تم اكتشاف قبيلة في الجبال لم تكن معروفة من قبل. وكان من المقرر طرد أفرادها أيضا.480
كانت رحلة طويلة وقاسية لأمة من وطن أصيل وتاريخي إلى وطن جديد. كان يتخلل الطريق المفاجآت غير السارة التي كانت تفتقر إلى اللمسات البشرية. أصابت الظروف البيئية والجوية القاسية والمعاكسة عشرات الآلاف من النازحين بأمراض نتيجة الضعف الجسدي، فضلا عن انتشار الأمراض والأوبئة وموت مئات الأشخاص وهم في طريقهم إلى موانئ الوصول.
فيما يتعلّق بأعداد الأفراد والعائلات التي تم فحصها من قبل المسؤولين الروس والعثمانيين والبريطانيين المقيمين في موانئ المغادرة أو الوصول، فإنّهُ في ديسمبر/كانون الأول 1863، كان هناك بالفعل 7000 مهاجر في طرابزون (Trebizond)، وتم وصول 3000 آخرين خلال ثلاثة أيام فقط في فبراير/شباط 1864. بحلول مايو/أيار كان هناك 25000 مهاجر حول طرابزون و 40.000 آخرين في سامسون (Samsun). كان هناك ما يصل إلى 150 يموتون كل يوم من المرض والجوع. في سبتمبر/أيلول، وصل 4000 شخص إلى سميرنا (Smyrna) {المسماة الآن إزمير}، ووصل في نوفمبر/تشرين الثاني 2346 شخصًا إلى قبرص (Cyprus)، وجميعهم في ظروف بائسة متماثلة. يمكن اكتساب إحساس بحجم الموت والمرض من عدد الأشخاص الذين مروا عبر مضيق البوسفور — وبالتالي يمكن إحصائهم من قبل مفتشي الصحة — وهم في طريقهم إلى إعادة التوطين في غرب الأناضول والبلقان.481
تم بذل الجهود الجسدية والعقلية من قبل أولئك الذين كانوا مهتمين بتطوير ومصير ووجهات سفر المهجرين. تم إرسال المهجرين عبر البحر الأسود على متن السفن إلى الموانئ العثمانية في تركيا وبلغاريا وغيرها كما لو كانوا بضائع وليسوا أُناسًا: ”في الأشهر التسعة الأولى من عام 1864 وحده، كان هناك ما يزيد قليلاً عن 74000. إلى هذا العدد، بالطبع، يجب إضافة العديد ممن تم شحنهم مباشرة إلى موانئ غرب البحر الأسود، مثل فارنا (Varna)، أو تم تفريقهم برا من طرابزون“.482
تم تكديس المرحلين في سفن النقل البحري التي لم يتم اختبار صلاحيتها أو اعتمادها للإبحار الآمن. كانت من أنواع وأحجام مختلفة، لكن العامل المشترك بشكل عام كان في الطريقة التي تم بها التعامل مع السكان الأصليين المضطهدين. جاء ذلك في ظل مؤامرة دولية ضد الأمة الشركسية ومصيرها، وضرورة تسهيل نقل المبعدين من الساحل الشركسي للبحر الأسود إلى أي مكان.
كانت الظروف أثناء العبور غير إنسانية. اللاجئون — ما يصل إلى 1800 منهم في كل سفينة — تم ضغط المرحلين في السفن الشراعية التي قدمها العثمانيون أو الحكومة الروسية. ازدحمت الماشية والسلع المنزلية على طوابق السفن. أولئك الذين لم يتمكنوا من تأمين مكان على متن سفينة أكبر، أبحروا في قوارب صغيرة، والتي غالبًا ما تغرق خلال العواصف المتكررة في البحر الأسود. حتى في القوارب الأكثر استقرارًا وتوازنًا، وبالتالي أدى الاكتظاظ إلى العطش والجفاف وتفشي الأمراض. ألقيت جثث الموتى في البحر وجرفتها المياه على الشواطئ على طول الامتداد الشرقي للبحر الأسود.483
ولاكتمال الصورة، كان الركاب مثل بضائع الشحن. في مثل هذا الجو الكئيب، لم يكن هناك مكانًا نذهب إليه، باستثناء المكان الذي ستبحر إليه السفينة. ستقوم السفن برحلاتها إلى حيث ستضع حمولاتها الجديرة بالاهتمام. يتوجهون إلى السواحل والموانئ التي تَقْبل بإنزال النازحين المبعدين. ترك الركاب وطنهم وراءهم وأُجبروا على السفر إلى أماكن لم يفكروا بها من قبل في ظل ظروف غير عادلة ويشوبها التعصب والتمييز في المعاملة.
كانت هذه “المقابر العائمة”، كما أطلق عليها المراقبون المعاصرون، تبحر إلى الموانئ العثمانية مع بقاء ما تبقى من حمولتها البشرية التي كانت عليها أصلًا. وبمجرد وصول اللاجئين إلى الأراضي العثمانية، لم يكن هناك في كثير من الأحيان سوى القليل من المؤن لهم. كان الطعام والملابس والوقود والأدوية نادرة. تعرضت الصحة العامة للتهديد حيث تم دفن الجثث بلا مبالاة أو تمّ التخلي عنها، وفي بعض الأحيان وجدت طريقها إلى خزانات المياه العذبة في المدن الساحلية. خلص دبلوماسي أجنبي في تقرير صدر في مايو/أيّار 1864 إلى أن ”شركيسيا قد ولّتْ“. و ”ما تبقى الآن لإنقاذه هم الشركس“.484
وقد ارتبطت أساليب الاعتداءات المتسقة بتداعيات جنائية. إن التصفية والإساءة والتطهير وتوطين الغرباء واقتلاع السكان الأصليين من منازلهم هو بالتالي ما أصبح عليه الوضع. تم إخلاء المناطق والأراضي الشركسية المختلفة من سكانها الأصليين. وتُظهر الإحصائيات عدد القبائل التي تواجدت في أراضيها ونُقلت إلى المنفى.
بحلول منتصف ستينيات القرن التاسع عشر، تم التخلي عن الأراضي التقليدية للأبزاخ (Abzakh) والشابسوغ (Shapsug) والأوبيخ (Ubykh) والمجموعات القبلية الشركسية الأخرى. كما قال المثل المحلي، حتى المرأة يمكنها الآن السفر بسهولة بين مدينتي سوجوق كالا (Sujuk Kale) و أنابا (Anapa) لأنها يمكن أن تطمئن إلى أنها لن تلتقي في الطريق بأي شخصٍ أبدًا. قبل عقد من عمليات الطرد، ربما كان هناك 145000 شخصًا يعيشون في الأراضي الأبخازية و 315000 شركسي آخرين ينتمون إلى قبائل مختلفة، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من شعوب السواحل والمرتفعات الأخرى.485
حاول بعض الأفراد تعميم مثل هذه الروايات المتعمدة؛ ربما استخلصوا معلومات واستنتاجات مضللة من مصادر روسية غير موثوقة وربما لم يكونوا مؤهلين لنشر معلومات تاريخية، وهو ما حدث بالفعل. ومع ذلك، لا تزال الآثار واضحة ويشعر بها أولئك الذين عانوا حتى يومنا هذا.
بعد تشتيت غالبية الشركس بحلول منتصف ستينيات القرن التاسع عشر، فقد تم توطينهم في الإمبراطورية العثمانية وفقًا لمتطلبات السلطات العثمانية. من الواضح أن الشركس المتبقين في شمال القوقاز تم إعادة توطينهم في المناطق التي فرضتها الوحدات العسكرية للإمبراطورية الروسية في القوقاز. جاء ذلك وفق خطة معدة سلفا وبما يتناسب مع تغيرات الوضع نظرا للظروف المحلية في مناطق جغرافية مختلفة.
ومع ذلك، في وقت أول تعداد أجرته الإمبراطورية الروسية في عام 1897، كان هناك حوالي 60 ألف شخص فقط يعيشون على سواحل شركيسيا، منهم 15 ألفًا فقط ولدوا هناك. ومن بين هؤلاء كان آخر بقايا السكان المنفيين عبر البحر، بالإضافة إلى نسل الجيل الأول من المستوطنين الروس الذين تم إرسالهم ليحلوا محلهم. وكتب أحد المراقبين في هذا السياق: ”في جبال منطقة كوبان، يمكن للمرء الآن أن يجد الدببة والذئاب“، ”لكن لا يوجد جبليّين“.486
يتبع…