حضرات القُرّاء الأعزاء،
يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسيا: ولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد
عادل بشقوي
19 نوفمبر/تشرين الثاني 2021
نظرة على الإبادة الجماعية الشركسية
الفصل الرّابع
الابتهاج باغتيال الأمة (1)
ليس من غير المألوف الإدراك أو التعرف على أحد المجرمين المتورطين في اغتيال الجنس البشري، ولكن ليس من الشائع أن تصادف شخصًا ساهم، على الأقل، في قتل مئات الآلاف. لقد تم ذبح الناس والاستيلاء على ممتلكاتهم. وكل أولئك الذين عملوا تحت إمرته شاركوا في الجرائم التي ارتكبها ”إرمولوف، جَد الإبادة الجماعية“.542
هناك العديد من الكتاب المهتمين بنقل تفاصيل الحرب الروسية–الشركسية. يستحق البروفيسور وولتر ريتشموند (Walt Richmond) الإشادة بعمله المهني وأبحاثه وتفانيه في الكشف عن المعلومات والوثائق المخفية منذ فترة طويلة والتي تتعلق بالكارثة الشركسية: ”يقضي جون بادلي (John Baddeley ) وقتًا طويلاً — كتب في روايته الإنجليزية الشاملة عن غزو روسيا للقوقاز في بداية القرن العشرين — يناقش فترة ولاية أليكسي إيرمولوف كقائد أعلى لجيش القوقاز“.543
وأبدت السلطات الروسية سلوكا مثيرًا للاشمئزاز وأصرّت على الوجود الاستعماري في المناطق المحتلة. فقد استمروا في بناء مجموعة متنوعة من النصب التذكاريّة للقادة والجنرالات الروس لإثبات سلوكهم المُقرِف الذي يصر على وجودهم الاستعماري. هناك من يستمر في المزاح حول هذا النفاق بالقول إن هناك نصبًا تذكاريًا بين كل نصبٍ تذكاريٍ وآخر.544
تواصل السلطات في شمال القوقاز الترويج لهذه العملية وتواصل زيادة تملّقها وصخبها. لا تسمح السلطات للسكان الأصليين بإحياء ذكرى أبطالهم وقادتهم التاريخيين، وقد يمكن فهم ذلك على أنه عنصرًا إيجابيًا ويشكل علاجًا للتناقضات القديمة التي من شأنها تشجيع جهود المصالحة.
يرغب الشركس، إلى جانب شعوب أخرى في شمال القوقاز، التأكيد على إقامة نصب تذكارية تبرز أبطالهم التاريخيين. لكن من الواضح أن موسكو تثنيهم عن القيام بذلك بهدوء ولكن بشكل فعال. بدلاً من ذلك، فإن شمال القوقاز مليء بالنُّصُب التذكارية التي تحتفل بالصداقة بين الروس والسكان المحليين، إلى جانب نُصُب الحقبة السوفيتية لفلاديمير لينين وشخصيات سوفيتية أخرى.545
ركزت الروايات على أحد القادة الروس المجهولين، الذي ارتكب أعمالًا حمقاء ضد شعوب القوقاز، بينما اعتبرت الإمبراطورية الروسية مجرمي الحرب من الشخصيات البارزة. ويعتبر إحياء ذكرى مجرمي الحرب الروسية–الشركسية سلوك رسمي مألوف في شمال القوقاز.
لقد تم تأبين إرمولوف وهو أحد المحاربين القدماء في حرب 1812، وفي شعر ألكسندر بوشكين (Alexander Pushkin)، اعتُبِر أعظم بطل في حروب القوقاز، وكذلك تم ذكره في كل مراجعة للتاريخ قبل الثورة البلشفية. ويمكن العثور على نصب تذكارية لإرمولوف في جميع أنحاء شمال القوقاز اليوم، ولا يزال يعتبر أحد الشخصيات العسكرية الروسية العظيمة.546
أراد إرمولوف أن يصنع من نفسه مثلًا أعلى وأن يمنح المسؤولين الروس هالة من ”القداسة“ التي سمحت لممارساتهم وآرائهم ومكانتهم بأن تكون دون تحدي واعتراض. إن ممارسة القمع والتطاول تجاه السكان الأصليين وحتى ضد دينهم ومعتقداتهم ليس ملائمًا على الإطلاق. لا يوجد معيارًا يسمح لضابط أخرق في جيش القيصر، خالي من المبادئ الإنسانية، بإذلال من دمر وطنهم وقام باحتلاله.
فقط بعد بضع فقرات وردت في وقت لاحق، يصف بادلي نظرية إرمولوف للإدارة المدنية. وصف حجر الزاوية في ”نظامه“ الشهير لتهدئة القوقاز: ”اعتاد إرمولوف على الإصرار بأن كلمة المسؤول الروسي يجب أن تكون مقدسة، كي يُدْفع السكان الأصليين إلى أن يؤمِنوا به إيمانًا راسخًا أكثر من القرآن نفسه؛ وإلى حدود سلطته طبّقَ حسن النِّيَّة على كلا الجانبين“.547
واندلعت استفزازات وخلافات لا داعي لها بشكل مفاجئ وعشوائي ولن يتسامح معها المجتمع المتحضر. لا يمكن التسامح مع مثل هذه الأعمال التي تأتي من جنرال لا يدرك بوضوح محتوى الإنسانية. وأعقب الجرائم المرتكبة إبعاد الناس عن أراضيهم.
كيف يمكن لأي شخص أن يتوقع من أفراد شعب أن يصدقوا كلمة، أو لديهم نية حسنة، تجاه رجل قاد قواته في هيجان السلب والنهب والاغتصاب والذبح ضدهم، وهو لغز لم يحله بادلي أبدًا. ومع ذلك، فإنه يعطينا لمحة عن عدم اتساق وتماسك ”نظام“ إرمولوف. كانت هذه عقلية إرمولوف لدرجة أنه كان يعتقد أن الأشخاص الذين قتلهم وسرقهم وخطفهم كان عليهم أن يفهموا أنه كان يفعل ذلك من أجل مصلحتهم وكانوا ممتنين لذلك.548
يتم شرح السلوك الذي لا يطاق بطرق ووسائل مختلفة بواسطة مراقبين أو نقاد مختلفين. ولا يمكن تبرير الأعمال الشيطانية بأي شكل من الأشكال. يجب تعويض الضحايا بينما يتم تعويض أحفادهم وورثتهم عن حقوقهم المنهوبة في الوقت المناسب، ووفقًا للقوانين والأعراف الدولية.
كما يشرح ياكوف غوردين (Yakov Gordin)، اعتبر إرمولوف أن وحشيته مبررة بسبب حوافزه {الأسْمى}: ”اعتقد إرمولوف ورفاقه المقربون بحق أنهم فرسان أسطورة {السلام والازدهار والتنوير}. حيث كانوا يجلبونه الى مملكة الهمجية والقسوة …
رُبّما يكون إرمولوف قاسياً، لكنه كان قاسياً باسم التنوير والازدهار، فقد أطلق النار على الناس وشنقهم — أحياناً من أقدامهم — باسم التقدم لهذه الحافّة من الإمبراطورية، ولشعبها“. يجد بادلي الحقيقة في النهاية تحت هذه النظرية غير المعقولة:
يقول الجنرال الروسي إركيرت (Erckert) عن يرمولوف، ”لقد كان على الأقل قاسياً مثل السكان الأصليين أنفسهم“. هو نفسه قال: ”أرغب في أن يحرس رعب إسْمي حدودنا بشكل أقوى من السلاسل أو الحصون. أن تكون كلمتي للسكان الأصليين قانونًا لا مفر منه أكثر من الموت. إن التنازل في عيون الآسيويين علامة ضعف، وبدافع من الإنسانيّة الصّافية فأنا شديد القسوة. إن إعدام شخص واحد ينقذ مئات الروس من الدمار والآلاف من المسلمين من الخيانة“.549
كانت سياسة الإمبراطورية الروسية فظيعة بينما كانت أعمال التطهير التي قام بها جنرالاتها أسوأ منها ومرعبة. إنه لأمر مؤسف أن نرى إمبراطورية تتبع خطى أولئك الذين ألهموا قادتهم لارتكاب جرائم ذات قسوة لا توصف. لقد أبادوا أي شيء جاء في طريقهم بوحشية منقطعة النظير. فقد تم انتهاك حقوق الإنسان بشكل فظيع.
رجل من القرن العشرين، حيث يرى بادلي أخيرا التبرير من البداية وحتّى النهاية للإمبرياليين مثل إرمولوف فيدينهم. ومع الأسف، فإن العقاب الجماعي الذي يشجبه، كاد أن يصبح إجراء تشغيل ذو معيار موحّد للروس.550
تم استهداف شعوب وأمم القوقاز من قبل القادة العسكريين المختلين عقليًا. لقد أخذوا على عاتقهم القضاء على هؤلاء الضعفاء من خلال تكييف الأساليب الوحشية. بغض النظر عن الخسائر البشرية الجسيمة، من الواضح أنهم لم يفكروا أبدًا في عواقب عملياتهم الإجرامية أو ما إذا كان سيكون لها تأثير على الأجيال والبيئات المستقبلية بشكل عام.
ابتهج إرمولوف بقوته النارية الهائلة بينما كان خصومه — لا سيما الجبليّين في الشيشان وداغستان وشركيسيا — عاجزين عن القتال: ”من المثير جدًا أن نرى التأثير الأول لهذه الوسائل البريئة [المدافع!] على قلب الإنسان، وتعلمت كم كان من المفيد أن تمتلك أحدها عندما لا يكون بمقدورك التغلب على الآخر دفعة واحدة“.551
لم يكن هناك تناسب معقول أو توازن في القوة المستخدمة للقوة العظمى في ذلك الوقت ضد الأسلحة الفردية. كانت خيول الشركس الخاصّة هي الحد الأقصى لوسيلة النقل التي يمكن أن تكون متاحة لأولئك الذين كانوا يدافعون عن وطنهم. فقد استخدموا وسائل بدائية في الغالب ضد آلة عسكرية قمعية شملت المعدات البحرية والمدافع وغيرها من وسائل التدمير بالإضافة إلى المرتزقة الذين لم يلتزموا بالمعايير القانونية والشرعية.
في سعيه لتحقيق المجد الشخصي، اختار إرمولوف خصومًا (قد يكون مصطلح الضحايا أكثر ملاءمة) من الذين لم يكن لديهم أي فرصة ليقفوا أمام أسلحته المتفوقة، وهو الذي استخدم مستويات من الوحشية واللاإنسانية في القوقاز لم يسبق لها مثيل. لقد نجح معه الأمر كذلك، حيث تم تكريم ضباط إرمولوف وترقيتهم لأن تكتيكاتهم أصبحت أكثر تدميراً. وسوف تحاكي الأجيال اللاحقة شكل نجاح إرمولوف.552
لم تذهب شعوب القوقاز لمحاربة الروس واحتلال أراضيهم الشاسعة. بل على العكس من ذلك، كان الروس يتوقون إلى احتلال القوقاز بوحشية والتخلص من شعوبها: ”يشرح بوتو موقف إرمولوف تجاه شعوب القوقاز، الذين عاملتهم الإدارات السابقة (من الناحية النظرية على الأقل) كأُمم ذات سيادة يمكن إقامة علاقات سلمية معها.553
نظرت الإمبراطورية الروسية إلى تطلعات وطموحات قادتها ومسؤوليها واستندت إليها في إخضاع جميع جيرانها وما وراءهم والسيطرة عليهم. كانت نيتهم السيطرة على جميع المناطق وضمها لجعلها جزءًا من إمبراطوريتهم.
مع ظهور إرمولوف في القوقاز . . . تم استبدال السياسات السلبية وغير الفعالة المتمثلة في الأساليب الملطفة لتقديم الهدايا لأعدائنا بالسياسة النشطة التي لم يكن هدفها سلام مؤقت وهش، بل انتصار شامل، وإخضاع كامل للأراضي المعادية . . . لقد نظر إلى جميع القبائل المسالمة والمعادية في جبال القوقاز، إن لم تكن بالفعل تحت الحكم الروسي، فمن المقرر أن تكون كذلك عاجلاً أم آجلاً، وعلى أي حال، طالبهم بالطاعة غير المشروطة.554
يتبع…