نظرة على الإبادة الجماعية الشركسية / معاهدة أدرنة والتحايل القانوني (1) – من كتاب “شركيسيا: ولدت لتكون حرة” للكاتب عادل بشقوي

حضرات القُرّاء الأعزاء،

يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسيا: ولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد

عادل بشقوي


08 ديسمبر/كانون الأول 2021

نظرة على الإبادة الجماعية الشركسية

الفصل الرّابع

معاهدة أدرنة والتحايل القانوني (1)

PHOTO-2021-12-06-22-41-11 (1)

لا شك في أن روسيا اتبعت جدولاً زمنياً خطط له استراتيجيوها ومقار قواتها العسكرية. كانت شركيسيا ومناطق أخرى في طور الاحتلال والضم. لم يحدث هذا على سبيل الصدفة. حدثت الحروب والصراعات في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بين القوى الكبرى في ذلك الوقت. الإمبراطوريتان الروسية والعثمانية كانتا لاعبتان رئيسيتان في تبادل الامتيازات.

أول موطئ قدم كان شبه جزيرة القرم، التي ضمها الروس في عام 1784. شغل الشركس مائتي ميل من ساحل البحر الأسود شرق شبه جزيرة القرم، وكانت روسيا مصممة على الاستيلاء على هذه المنطقة الاستراتيجية أيضًا. وبمجرد أن استقر قوزاق البحر الأسود على الضفة الشمالية لنهر كوبان، بحثت سانت بطرسبرغ عن فرصة للتوسع جنوبًا في شركيسيا.614

لقد تم تحديد المناطق والبلدان التي لم تكن خاضعة للسيطرة المباشرة أو الفعلية. فقد تم تبادلهم على الخريطة، بين مقامري الشعوب، حتى بدون معرفة السكان الأصليين. كانت مثل هذه الأعمال غير الأخلاقية مستمرة مع الرغبة الاستعمارية في السيطرة على أوطان الآخرين.

في البداية لم تنتبه القوى الكبرى الأخرى لما كان يجري، لكن سرعان ما أدرك العثمانيون التهديد المميت المحتمل الذي تشكله روسيا على إمبراطوريتهم المضطربة. لقد كانوا أنفسهم يتلاعبون بالشركس لعقود على أمل عقيم وبائس في أن يتمكنوا يومًا ما من ممارسة سلطة حقيقية على شركيسيا، لكن بحلول عام 1829 أدركوا أن هذا لن يحدث أبدًا.615

اعتاد المسؤولون رفيعو المستوى في هذه البلدان ارتداء العديد من الوجوه مع العديد من الأجندات والخطط المختلفة. كانوا يقولون شيئًا واحدًا ويفعلون العكس تمامًا. تم تقديم وعود كاذبة وغير منطقية وحتى غير واقعية عند مقارنتها بالحقائق التي حدثت على أرض الواقع. وقد وحدتهم الأمور المشتركة. كانوا شركاء في صنع القرار والتسويات حسب الظروف المحيطة.

وفي محاولة لتقليص خسائرهم تخلوا عن مطالباتهم بشركيسيا في معاهدة أدرنة (Adrianople). حتى هذا التوجه فشل في لفت الانتباه، لكن عندما استغلت روسيا وبسرعة، الموقف الضعيف للباب العالي (كما كانت تُعرف الحكومة العثمانية) للحصول على حقوق خاصة في مضيق الدردنيل (Dardanelles)، رأت بريطانيا العظمى أن مصالحها الخاصة في البحر الأسود مهددة.616

ربما كان السبب الأكثر أهمية لإبعاد الشراكسة عن دائرة الضوء هو جهود الإمبراطورية الروسية التي بذلتها في هذا السياق. لقد أراد الروس إبقائهم معزولين وتحت حظر الحصار البحري. لقد أرادوا إبقاء الشركس منشغلين بالحرب المدمرة التي أبقتهم مشغولين عن الأمور الأخرى. كان اهتمامهم الجماعي هو التركيز على الطريقة التي يمكنهم من خلالها الدفاع عن وطنهم باستخدام مواردهم الخاصة.

فجأة تبنى السياسيون والصحف الأوروبية القضية الشركسية، حتى أن بعضهم دعا إلى التدخل العسكري. نوقشت هذه القضية في البرلمان، ونظر في نقطة واحدة كما لو أن بريطانيا ستخوض حربًا مع روسيا من أجل إقامة محمية لحماية الأمة المكافحة.617

كان إعلان الحرب الروسي ضد شركيسيا فريدًا من نوعه وامتداده. كان على الشركس وحدهم مواجهة الإمبراطورية الروسية وجيشها الغازي ومرتزقتها. كان عليهم أن يكونوا على دراية بالمؤامرات التي كانت تُحاك ضدهم من كل الجهات. تم استقبال مبعوثين ومندوبين أجانب من دول مختلفة في شركيسيا، لكن لم تكن هناك نتائج إيجابية وملموسة.

عاش العملاء بين الشركس ووعدوا بالدعم الدولي وحثوهم على تصعيد حربهم ضد الروس. لكن في النهاية، هجر البريطانيون شركيسيا. استمر عدد قليل من السياسيين في الضغط من أجل اتخاذ إجراء ما، لكن البرلمان لم يكن في مزاج خوض حرب كبرى. كان كل ما أنجزه التدخل البريطاني هو جعل الروس عازمين على غزو شركيسيا بأسرع ما يمكن.618

الوعود الفارغة من قبل أولئك الذين وعدوا بالمساعدة لم تكن صادقة. في مرحلة لاحقة، بدأ الشركس يدركون مدى عدم مصداقية الإمبراطورية العثمانية. تم إعطاؤهم وعودًا فارغة مع حقيقة إبقائهم غير مدركين للاتفاقيات الثنائية التي تم إبرامها مع الإمبراطورية الروسية من وراء ظهورهم.

في 14 سبتمبر/أيلول 1829، وقعت روسيا وتركيا على معاهدة أدريانوبل (Adrianople). تضمّنت المادة 4 على الشرط التالي: ”تدخل جميع شواطئ البحر الأسود من مصب نهر كوبان إلى رصيف سانت نيكولاي ضمناً في الحيازة الدائمة للإمبراطورية الروسية“.619

ربما يبدو أنهم قد اهتموا ببعض القضايا من خلال إرسال إشارات متفق عليها. في بعض الأحيان قد يتم تضمينها أو إبرامها كعناصر غير معلن عنها، والتي تم تضمينها أو الاتفاق عليها سراً. إن الانتباه إلى نشر المعلومات في مرحلة لاحقة سيكون متأخراً جداً لمعرفة المؤامرات الخفية. لكن في كل الأحوال، كانت روسيا منشغلة بمواصلة الحرب ضد الشركس في غياب العالم والأوروبيين على وجه الخصوص.

لم تذكر المعاهدة قط شركيسيا بالاسم، على الرغم من وصف الإمبراطور نيكولاس الأول، من بين العديد من الألقاب الأخرى التي وصف نفسه بها، بأنهالحاكم والمالك وراثيًا وصاحب الملك على الأمراء الشركس والجبليين“. كان ذلك بالطبع هراء: فالقيصر الروسي لم يكن بالمطلق ولا بأي شكل حاكمًا للأمراء الشركس أو لأمراءالجبالمن حكام الأمراء الشركس أوالجبليين، وبالتأكيد لم يكن لديه أي مطالبة وراثية لأي شيء.620

يعتبر تبادل المصالح والمنافع المتبادلة بين القوى والسلطات المهيمنة في المنطقة نشاطًا عاديًا بالنسبة لهم حيث، في الواقع، من وجهة نظر منطقية، تسيء كلتا القوتين تسيء رلى المالكين الحقيقيين للأرض في انتهاك صارخ لحقوقهم في السيادة.

بالنسبة لنقل ساحل البحر الأسود إلى الحكم الروسي، كان لدى الأتراك سلسلة من الحصون هناك، لكنهم لم يسيطروا على الساحل بأي حال من الأحوال. كانت الحصون عبارة عن بؤر استيطانية وأماكن تجارية، كان الباب العالي يأمل أن يشن منها ذات يوم هجومًا على شركيسيا، مثل ذلك الذي كان الروس يشنونه من الشمال.621

منذ ذلك الحين، وفقًا لمعاهدتي كيتشوك كاينارجي (Kucuk Kaynarca) و جاسي (Jassy) {1792}، كانت جميع الأراضي الواقعة جنوب نهر كوبان ملكًا لتركيا، وعندما تنازل الباب العالي عن الساحل في معاهدة أدريانابول، اعتبرت سانت بطرسبرغ ذلك يعني جميع الأراضي الواقعة شمال ساحل البحر الأسود أصبحت الآن روسة أيضًا.622

أظهر تحول الأحداث خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مدى جشع الإمبراطورية الروسية. بدت الإمبراطورية العثمانية في وضع أضعف. كل هذه المعاهدات والاتفاقيات وضعت الإمبراطورية العثمانية في مرتبة متدنية. وقد أُعِد ذلك المشهد ليبدو أن العثمانيين عرضة للخطر، وليكونوا فريسة مع كل ممتلكاتهم ومناطق نفوذهم.

كان ذلك أيضًا هراء. كان موضوعحيازةتركيا لشركيسيا وفقا لأحكام معاهدتي كيتشوك كاينارجي ا وجاسي إعلانًا قانونيًا لا علاقة له بالواقع، لذا فإن الافتراض الروسي بأن شركيسيا أصبحت في حينه تحت سلطة سانت بطرسبرغ كان خيالًا مبنيًا على خيال.623

شجع ضعف الإمبراطورية العثمانية على اشتداد حدة الطموحات التي عبّرت عنها الإمبراطورية الروسية للاستيلاء على الممتلكات العثمانية. وقد عكس ذلك طبيعة المعاهدات والاتفاقيات المبرمة بينهما، لينتهي الأمر بكل شيء لصالح روسيا. كانت أي أحكام في الاتفاقات لإرضاء روسيا القيصرية.

وهذا ما دفعهم إلى المضي قدمًا في تنفيذ الخطط الاستعمارية للسيطرة على المناطق.

في مذكراته، يزعم الضابط الروسي فيودور تورناو (Fyodor Tornau) أن سانت بطرسبرغ رأت المادة 4 لما كانت عليه حقًاإزالة العائق القانوني أمام غزو شركيسيا: كان لربط [الأتراك] في الواقع معنى على الورق فقط، حيث يمكن لروسيا حكم الأرض التي تنازلوا عنها بالقوة وحدها. قبائل القوقاز التي اعتبرها السلطان من رعاياه لم تطيعه قط. اعترفوا به فقط كخليفة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلًم) وامبراطورًا لجميع المسلمين، أي قائدهم الروحي، لكنهم لم يدفعوا له أي ضرائب ولم يساهموا بجنودهم. تسامح الجبليّون مع الأتراك الذين احتلوا القليل من الحصون على ساحل البحر وذلك بسبب الدين  المشترك بينهم، لكنهم لم يسمحوا لهم بالتدخل في شؤونهم الداخلية، وقاتلوا معهم أو بالأحرى هاجموهم بلا رحمة بسبب أي تدخل يحصل. كان امتياز السلطان غير مفهوم تمامًا للجبليين.624

أثبتت التجربة أن السلطة والقوة والجبروت والتأثير يمكن أن يكتسب أي شيء. هذا هو ما اكتسبته واستمتعت به الإمبراطورية الروسية، على الرغم من أن تحقيق ذلك استغرق وقتًا طويلاً. لقد حققوا ما يريدون ببطء ولكن بثبات. وكان نتيجة لضعف الآخرين.

كان الروس يتجنبون حاجزًا قانونيًا آخر. عبر الحصول على شركيسيا ومن خلال تفسيرهم لمعاهدة أدريانوبل، كانت روسيا تنتهك المادة 5 من معاهدة لندن لعام 1827، والتي وافقت بموجبها الدول الموقعة (إنجلترا، وروسيا، وفرنسا) على عدم السعي إلىأي زيادة على الأراضينتيجة حرب الاستقلال اليونانية.625

يتبع…

Share Button

اترك تعليقاً