شركيسيا الخالدة

شركيسيا الخالدة

عادل بشقوي

21 مايو/أيار 2023

Illustrations of a round Circassian village drawn by ‘Jean Baptiste Tavernier’ (French traveller), 1632 [Source: Fontana, 2017]

في الحادي والعشرين من مايو/أيار من كل عام، تعود مرة أخرى المناسبة الحزينة ليوم الذكرى الشركسية، لتذكير أولئك الذين يهتمون بضرورة الاستمرار في حمل شعلة الحرية للأمة الشركسية بهدف الوصول إلى الزمان والمكان المناسبين لتحقيق ذلك. إنّهُ ليس يومًا للنّحيب والعويل على مآسي الأمة الصامدة والطموحة، ولا يومًا للاستماع إلى أحد الخطباء المفوّهين الذي لا يقصد ما يقوله بغض النظر عن اللغة المستخدمة، حتى لو كانت اللغة الشركسية.

ومع ذلك، فإن بعض هذه الشخصيات ذات المستوى المتواضع ستستغلها وستستغل المناسبة، فقط لإثبات وجودها من خلال التفوه بعبارات رنّانة ومنمّقة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. بالتالي، فإن بعض هؤلاء المتواجدين عبر العالم الشركسي، سواء في الوطن أو في الشتات، والذين ليس لتفوُّهاتهم هدفا منطقيا، يعتزمون فقط إثبات وجودهم وتكريس تجربتهم في مجتمعاتهم. إنّهم لا يثبتون بأي حال من الأحوال أن لديهم هدفًا منطقيًا. حتى أنهم يقولون ما يريدون دون الالتفات إلى ضرورة الوصول إلى تلبية منزلة ومستوى الجمهور الذي يخاطبونه. وفي أحيان أخرى، لا يذكرون الاهتمامات والمصالح المتوخّاة من إحياء مثل هذه الذكرى الأهم في التاريخ الشركسي المعاصر.

لشركيسيا تاريخ مؤكد يمتد لأكثر من ستة آلاف عام. وقد ساهمت بشكل ثابت وإيجابي في تطور الحضارة الإنسانية. نشأت الثقافة والحضارة الشركسية في شمال غرب القفقاس وظلت قائمة لفترة طويلة من الزمن. لقد منح الله عزّ وجل للشركس موقعًا استراتيجيًا وموارد غير محدودة. فهي تقع جغرافيًا، ضمن هضبة القفقاس الواقعة بين أوروبا وآسيا والتي تعتبر عائقًا طبيعيًا قويًا، وهي تقع في جنوب شرق أوروبا. إنها منطقة إستراتيجية تقع في الجزء الشمالي الغربي من سلسلة جبال القفقاس، والتي اكتسبت أهمية اقتصادية وعسكرية وسياسية. فهي تقع على الشواطئ الشمالية الشرقية للبحر الأسود، وتمتد بين بحر آزوف وأبخازيا.

منذ القِدم، كان للشركس طوال تاريخهم علاقات ودية وتجارية مع الإغريق القدماء وكلٍ من جنوة وفلورنسا والبندقية، بالإضافة إلى عشرات الدول في المنطقة وخارجها. ”يُعتقد أن الشركس القدماء كان لهم تعامل تجاري على نطاق واسع مع الإغريق القدماء ولاحقًا مع البندقية وجنوة“.[1] حتى في فترة العصور الوسطى، فقد كانت لديهم علاقات جيدة مع الإغريق والبيزنطيين، خاصة عندما اعتنقوا المسيحية. ونتيجة للتأثير اليوناني والبيزنطي، فقد انتشرت (الديانة) المسيحية في جميع أنحاء القوقاز“.[2] وتطور الوضع لاحقًا إلى انبثاق كنيسة شركسية مستقلة مرتبطة مباشرة بالقسطنطينية. ”وكان القديس جورج هو شفيع المسيحيين الأرثوذكس الشركس“.[3]

تحتل العلاقات مع الإمبراطورية البيزنطية مكانة مهمة في التاريخ الشركسي. بالنسبة لبيزنطة، كان غرب القوقاز مهمًا لبعض المصالح السياسية والتجارية، كما جذبت المنطقة انتباه المثقفين البيزنطيين. الإضافة إلى ذلك، كان انتشار المسيحية أهم أداة دبلوماسية وأيديولوجية وثقافية لبيزنطة. بهذه الطريقة، لعب التأثير السياسي والأيديولوجي لبيزنطة دورًا حاسمًا في الأماكن التي اختارت المسيحية. في واقع الأمر، انتشر التأثير السياسي والثقافي لبيزنطة، الذي بدأ في غرب القوقاز في عهد الإمبراطور جستنيانوس (Jüstinyanus)، تدريجياً بتأثير المبشرين الذين أتوا إلى المنطقة. انخرط رجال الدين المسيحيين هؤلاء في أنشطة مكثفة لنشر المسيحية الأرثوذكسية في المنطقة. في تلك الفترة، بدأ الشركس يصبحون مسيحيين بشكل مكثف، بينما نشأ رجال دين يُلقّبون شوجين، وتم إنشاء مكاتب أسقفية وبُنيت الكنائس في مدن مثل نيكوبسيا (Nikopsia)، وفاناغوريا (Fanagoria)، وتاماتاره (Tamatarh)، وزيهوبوليس (Zihopolis) في زيهيا (Zihya)“.[4] حدثت وتوسّعت هذه التطورات قبل ما يقرب من ألف عام من إقامة دولة روسية على هذا النحو، أو حتى ظهور لغة روسية معروفة.

علما بأن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي وقفت موقفًا مؤيدا لسياسة الإمبراطورية الروسية العدائية وحربها المجنونة، ولأسباب أخرى لا يتسع المجال لذكرها هنا، جعلت من المنطق ان يتحول معظم الشركس وخلال الحرب الدفاعية الدامية التي فرضت عليهم والتي استمرت 101 سنة (1763 – 1864) الى الديانة الإسلامية. إنّها كانت حربا امبريالية/استعمارية بامتياز. وقد شملت الإبادة والإخضاع والضم. كذلك تم فرض وتنفيذ التهجير القسري كسياسة ثابتة، وذلك من أجل بناء المستوطنات على الأراضي الشركسية لتوطين الغرباء مكانهم. لذلك تم منع المُهجَّرين من العودة الى وطنهم الأصلي تحت اي ظرف. وليس خافيا على أحد، بأن نفس هذه الكنيسة الأرثوذكسية تعاطت بالسياسة، فأيّدتْ ووقفت مع سياسة الحرب التوسُّعية التي شنتها الدولة الروسية على أوكرانيا منذ شهر فبراير/شباط 2022، مع أن معظم الشعب الاوكراني يدين بالديانة المسيحية الأرثوذكسية.

ليس مستغربا أن يستمر إصرار السياسة الإستعمارية الروسية على تجاهل الحقيقة المتواصل بشأن الحقوق الشركسية، وبشتى الوسائل والطرق. فقد قررت السلطات الروسية هذا العام أيضا فرض منع على احياء ذكرى المأساة الشركسية الذي يصادف الحادي والعشرين من مايو/أيار الذي يتم إحياؤه كل عام. يزيد الامعان بالانتقاص من الحق الطبيعي المشروع للمواطنين الشركس في وطنهم التاريخي لاحياء ذكرى الغزو والاحتلال والابادة والتهجير القسري الأليمة التي اكتوى بنار أذاها كافة أفراد الأمة الشركسية. وينبع ذلك عبر تعمد السلطات الفيدرالية والمحلية عدم اتباع القوانين والاعراف الدولية، وفقا للحرِّيات المذكورة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومن دون الالتفات إلى أهمية الحد الادنى من اتباع الموضوعية فيما يتعلق بالتعامل مع الواقع والمنطق.

بفضل سياسة روسيا الإستعمارية، تم جلب الموت والدمار إلى شركيسيا لمئات السنين وبدون أدنى التزام قانوني وأخلاقي. لدى الشركس والأمم غير الروسية الأخرى الفرصة المناسبة لإبلاغ العالم وجميع المهتمين بمعرفة حقيقة الجرائم التي ارتُكِبت ضدهم. حتّى وإن طال أمد انتظار استعادة الحقوق الشركسية المشروعة، إلا أن الشراكسة سيتمكنون في نهاية المطاف من النهوض من تحت الرماد من جديد، مثلهم مثل طائر الفينيق، للمطالبة بحقوقهم المشروعة.

************************

المراجع

[1] https://factsanddetails.com/russia/Minorities/sub9_3d/entry-5108.html

[2] http://everything.explained.today/Circassians/

[3] http://www.christiancircassians.com/eng/christian-history-of-circassians/saint-georges-day-for-christian-circassians/

[4] https://justicefornorthcaucasus.info/?p=1251684480

https://www.facebook.com/groups/194621334006994/posts/924062177729569/

Share Button