مصير الشركس: لتذكير من خانته الذاكرة (2)
عادل بشقوي
14 أكتوبر/تشرين الأوّل 2024
هذه هي المقالة الثانية في سلسلة من المقالات لما يشير له العنوان أعلاه.
الإبادة الجماعية والإفناء
لا شك أن الإمبراطورية الروسية كانت بارعة في الاستيلاء على أوطان الشعوب والأمم المضطهدة. فقد دبّرت واحدة من أكبر عمليات السرقة والاستحواذ على الأراضي والموارد والأوطان في تاريخ البشرية. فقد أدى الاحتلال، الذي أعقب غزوًا وحشيًا، إلى إنشاء مستوطنات للدُّخلاء وفقًا لاستراتيجية مُصمّمة تهدف إلى ملء هذه الأراضي بالمستوطنين الأجانب. فحلّ الغرباء محل السكان الأصليين، حيث تم تدمير القرى والمساكن الدائمة للسكان المحليين إما جزئيًا أو كليًا بالحرق وغيره من الأساليب.
الفظائع المرتكبة
استخدم الجنرالات الروس، جنبًا إلى جنب مع قوات الغزو الاستعماري ومرتزقتهم، سياسة الأرض المحروقة، وانخرطوا في الخيانة والخداع وقتل جميع السكان. لقد استهدفوا المراكز السكنية والحضرية ومخازن الحبوب والماشية والخيول والممتلكات الخاصة والعامة. مهدت هذه الفظائع الطريق للقوات الغازية والمرتزقة المرافقين لها لارتكاب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري. تم فرض الضم القسري وغير القانوني لشركيسيا دون استشارة أصحاب المصلحة الشرعيين – الشعب الشركسي الأصلي.
عندما قررت الإمبراطورية الروسية شن حرب وحشية في شركيسيا، عانى السكان الشركس، الذين قُدِّر عددهم بأربعة ملايين في أوائل القرن الثامن عشر، من جميع العواقب الكارثية لهذا الصراع. وقع ما يقرب من مليوني شخص ضحية للإبادة الجماعية والإبادة خلال الحرب الروسية الشركسية، والتي استمرت لأكثر من قرن من الزمان. وبينما كانت روسيا تسعى للاستيلاء على شركيسيا بدون الشركس، بدأ التهجير حتى قبل انتهاء الحرب رسميًا.
قاتلت القوات الشركسية المدافعة عن وطنها بشجاعة وصدّت الهجمات العنيفة لعقود من الزمن، مما منع الإمبراطورية الروسية من تحقيق أهدافها الاستعمارية. وردًا على ذلك، استخدمت روسيا أساليب شنيعة جعلت الحياة الطبيعية مستحيلة للمواطنين في بلدهم. كما لعب المبعوثون العثمانيون دورًا في تشجيع القبائل والعشائر والعائلات الشركسية على الهجرة إلى الدولة العثمانية. وتم تنفيذ الترحيل الجماعي بعد أن أعلنت روسيا نهاية الحرب في 21 مايو/أيّار 1864، والتي أشارت إليها باسم حرب القوقاز.
ارتكبت القوات العسكرية ومرتزقتها جرائم ضد الإنسانية بشكل منهجي وعلى نطاق واسع، فاحتلّت أراضٍ لا تنتمي إليها وأخضعت شعوبًا لا تدين لهم بالولاء. وجاءت الأوامر بتنفيذ مثل هذه الأعمال من الإمبراطور والجنرالات والقادة العسكريين، الذين أشرفوا على القتل والإبادة الجماعية والتدمير المنهجي مع تجاهل غير مسبوق للحياة البشرية. تم تنفيذ التطهير العرقي والنزوح القسري خارج الوطن، وتم تنفيذ استراتيجية التغيير الديموغرافي لتغيير التركيبة السكانية في المنطقة بشكل جذري.
”وفقًا لتعداد عام 1830، كان عدد السكان الشركس قبل الترحيل، حوالي أربعة ملايين. يستشهد المستشرق الألماني كارل فريدريك نيومان بمراسلات عثمانية تفيد بأن 1.5 مليون شركسي حاولوا الإبحار إلى تركيا، ومات 500 ألف منهم في الطريق. كما توفّي 500 ألف شركسي آخر بسبب المرض في المعسكرات على الشّواطئ التركية، وفرّ 200 ألف منهم طواعية إلى تركيا في عام 1858 قبل عمليات الترحيل. وفي عام 1864، أعادت روسيا تخصيص الأراضي الشركسية لمجموعات عرقية موالية لروسيا وأعادت توطين حوالي 120-150 ألف شركسي قسراً، والذين نجوا بقبولهم الاستيعاب الثقافي الروسي. ولا تمثل برامج الاستيعاب الروسية والترحيل إلى تركيا سوى ما يقرب من نصف السكان الشركس. وتشير التقديرات بين الوثائق التركية والروسية إلى أن عدد الوفيات الشركسية بسبب العمليات العسكرية والمذابح المخطط لها يتراوح بين 1.5 و 2 مليون نسمة. [1]
حدثت عمليات نزوح جماعي عبر البحر الأسود إلى الموانئ التركية وبعض موانئ البلقان، التي كانت آنذاك تحت الحكم العثماني. وتوفي ما يقرب من 50% من إجمالي السكان نتيجة للحرب والصعوبات المرتبطة بها، بينما تم ترحيل 90% من الناجين إلى الإمبراطورية العثمانية. وتسببت الظروف البيئية والوبائية للنازحين، إلى جانب السفن غير المناسبة التي لم تكن مُصانة بشكل جيد في وفاة العديد منهم أثناء رحلة العذاب.
تنص المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها على ما يلي:
”تعني الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية، المرتكبة علي قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
(1) قتل أعضاء من الجماعة،
(2) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة،
(3) إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا،
(4) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة،
(5) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلي جماعة أخري“. [2]
الاعتراف بالإبادة الجماعية
بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، بقي الشركس في وجهات ذهبوا إليها مثل الأردن وسوريا، بينما استقرت الأغلبية الساحقة منهم في تركيا. واليوم، بعد أكثر من 160 عامًا، يعيش 10٪ من إجمالي الشركس، أي ما يقرب من 800000 نسمة، في وطنهم الأصلي. وهم يعيشون في مناطق مجزأة وغير متجاورة من وطنهم الأصلي. في حين أن أكثر من سبعة ملايين يقيمون في تركيا وأكثر من 30 دولة في أرجاء العالم.
إن المنطق السليم يملي على روسيا، التي احتلت وضمت الأراضي الشركسية بالقوة لأكثر من 160 عامًا، أن تعترف بالجرائم التي ارتكبتها القوات العسكرية للإمبراطورية الروسية. فوفقًا للقوانين والأعراف الدولية، روسيا ملزمة بإعادة الحقوق المشروعة التي لا تخضع لقانون التقادم إلى أصحابها.
”إن عناد وصلف روسيا يعكس ضغينة عميقة الجذور ضد كل ما يتعلق بالقوقاز وشركيسيا. إنهم يتجاهلون حقيقة أن العدالة يجب أن تتحقق حتمًا، وأن جميع الأطراف ستستعيد حقوقها. ومن المؤسف أن بعض الناس يحافظون على علاقات صداقة قوية مع أولئك الذين لا يعترفون بحقوق الشركس المشروعة، بل وينكرون عليهم حقهم في وطنهم، على النّحو الّذي يُقِرّهُ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية، وحتى القوانين الروسية“. [3]
”في ضوء الطموحات الاستعمارية الروسية المعاصرة في هذا السياق والتي ظهرت جليًا للعالم، هناك تطورات ظهرت فيما يتعلق بالشعوب والأمم التي استعمرتها الدولة الروسية، منذ تفكّك الاتّحاد السوفياتي، وخاصة بعد اعتراف برلمان جورجيا بالإبادة الجماعية الشركسية في 20 مايو/أيّار 2011، وإقامة نصب تذكاري ذي مغزى في 21 مايو/أيار 2012 في أناكليا على البحر الأسود، لإحياء ذكرى ضحايا الإبادة الجماعية والترحيل القسري. {تعتبر الإبادة الجماعية القضية الرئيسية من بين العديد من القضايا الأخرى المتعلقة بالقضية الشركسية}. (شركيسيا: ولدت لتكون حرة، عادل بشقوي ص 441) وخلال السنوات القليلة الماضية، منذ احتلال القوات الروسية لشبه جزيرة القرم في عام 2014، والحرب المتعلقة بمحاولة روسيا الاستيلاء على أوكرانيا منذ فبراير/شباط 2022، برزت إمكانية للمقارنة والربط بين ما يحدث حاليًا في أوكرانيا وما حدث للأمة الشركسية وغيرها من الشعوب والأمم منذ القرن التاسع عشر. ومع ذلك، فإن تحقيق هذه الأهداف الاستعمارية يبقى في شكل تنفيذ مخططات الدولة الروسية ضد الجيران وما وراءهم“. [4]
العلاقة بين الإبادة الجماعية والإبادة الجماعية المدعومة من السلطات الرسميّة
لإثراء الموضوع معرفياً وقانونياً، يجدر بنا أن نذكر أن ”الإبادة والقتل“ (democide) مدعومين من قبل مسؤولين يعملون تحت سلطة الحكومة. فهي ”جريمة قتل ترتكب وفق أوامر الحكومة — أي بأوامر من قبل المسؤولين الذين يتصرّفون تحت سلطة الحكومة. فهم يتصرفون وفقاً لسياسة حكومية صريحة أو ضمنية أو بموافقة ضمنية أو صريحة من المسؤولين الكبار. [5] وذلك بالمقارنة مع ”الإبادة الجماعية“ (genocide)، ذات التعريف القانوني المعروف للإبادة الجماعية، وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن منع ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. فهي غالباً ما تُترجم إلى {إبادة} أو {مذبحة} أو {قتل جماعي} في بعض اللغات. حيث تفشل هذه الترجمات في التقاط النطاق الكامل للأفعال المدمِّرة المُدْرجة في التعريف القانوني الدّولي للإبادة الجماعية. [6]
الخلاصة
تظل روسيا تقاوم الاعتراف بجرائم أنظمتها السابقة وترفض اتباع الوسائل المتحضرة لاستعادة الحقوق المشروعة لأصحابها. ويبدو أن الضغوط من المجتمع الدولي وحدها هي التي ستجبر روسيا على الوفاء بالتزاماتها. ولا يمكن للعالم المتحضر أن يقبل مثل هذا السلوك التعسفي والاستبدادي.
*********************
المراجع
[2] http://www.preventgenocide.org/law/convention/text.htm
[3] (Circassia: Born to be Free, by Adel Bashqawi pp. 146 & 147)