مصير الشركس: لتذكير من خانته الذاكرة (3)
عادل بشقوي
21 أكتوبر/تشرين الأوّل 2024
هذه هي المقالة الثالثة في سلسلة مقالات بشأن العنوان أعلاه.
أمور ينبغي مراعاتها
كانت الأمة الشركسية مستهدفة من قبل واحدة من أسوأ القوى الاستعمارية التي عرفها العالم على الإطلاق. ”إنّ شركيسيا لم تولد من الظروف أو الأهواء أو النّزوات، ولم تُنشأ من خلال قهر الأبرياء والمضطهدين. إنها معروفة في التاريخ بأنها موطن الشعب الشركسي الأصلي الذي شارك في تقدم الحضارة الإنسانية. فقد تحمّل الشّركس تكلفة باهظة للحفاظ على الذات ووجود شركيسيا كواحدة من أمم القوقاز، بينما يتم تحديد هويتهم من خلال وطنهم المميز“. [1]
لا شك أن الإمارات الروسية خضعت في القرن الثالث عشر لحكم القبيلة الذهبية والإمبراطورية المغولية لمدة 300 عام تقريبًا، إما بشكل مباشر أو عن طريق دفع الجزية. لكن عندما انتهى الحكم المغولي، واتّحدت الإمارات الروسية في دولة واحدة، رُفع لديها قناع الطموحات والجشع الاستعماري والإمبريالي. وبدأ عصر استبدادي جديد في التاريخ الروسي، حيث تشكّلت إمبراطورية استعمارية من خلال غزو الشعوب والأمم المجاورة، والاستيلاء على أوطانها، وضمها بالقوة إلى الدولة المتنامية، التي كانت تتوسّع خارج حدودها وتسحق كل من يقف في طريق قواتها المتوحشّة.
كانت الدعاية والحرب المضللة تهدف إلى نشر الأكاذيب والأباطيل، سعياً إلى السيطرة على القلوب والعقول بالتزامن مع الحروب التوسعية الدموية. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار هذه الأفعال شكلاً بدائياً من أشكال الإعلام الذي اعتمد على أساليب إخضاع الشعوب التي تعرضت للغزو والاحتلال وضمها إلى كيان استعماري بغيض عازم على الهيمنة والخضوع. وقررت الإمبراطورية الروسية اللحاق بركب اتجاه القرن الخامس عشر للتوسع الأوروبي العالمي. فكان ذلك بمثابة بداية تشكيل إمبراطورية الرعب. ”كان الإرهاب والترهيب والبلطجة هي الوسائل المعروفة المستخدمة، إلى جانب حرب دعائية ضد الشركس من قبل القوات المسلحة والمرتزقة التابعين للإمبراطورية الروسية“. [2]
الاحتلال والضم
• الاحتلال
أصبحت شركيسيا، مثل العديد من الأمم الأخرى، ضحية للحروب الروسية القيصرية والغزو والتدمير والاحتلال وسوء المعاملة والفظائع والقتل والتشريد والتطهير العرقي والإبادة الجماعية. لقد كان الاستعمار والاستبداد المباشر غارقين دوماً في العنصرية، على غرار نظام الفصل العنصري. فباستخدام القوة، وبعد احتلال وطنهم بالكامل في مايو/أيار 1864، لم يبق سوى 10% من الشركس كأقلية في وطنهم، بينما تم ترحيل أو تهجير 90٪ منهم إلى الإمبراطورية العثمانية، وتشكيل مجتمعات أقليات في تركيا وسوريا والأردن وإسرائيل وأوروبا والولايات المتحدة ونحو ثلاثين دولة أخرى في جميع أنحاء العالم. [3]
لم تكن هناك وسائل أكثر شيطانية وشراً لكسر إرادة الشعب من تلك التي استخدمتها قوات الغزو الروسية الوحشية. لقد أصبحت الحياة صعبة ومعقدة وحتى مستحيلة وسط الجرائم والدمار والإبادة الجماعية والحصار الخانق على طول ساحل شركسيا على البحر الأسود، وذلك لمنع السفن من الدخول أو المغادرة. وكان الهدف من هذا كسر إرادة الناس الذين نجوا من جرائم الحرب. لقد واجهت الأمة بأكملها مصاعب وظروف كارثية عندما تعرض الشركس لأهوال الحرب. وقد أثبتت الوثائق الأرشيفية والأدلة والمواد بما لا يدع مجالاً للشك أن الدولة الروسية ارتكبت انتهاكات خطيرة، بما في ذلك:
— جريمة الإبادة الجماعية.
— جرائم ضد الإنسانية.
— جرائم الحرب.
— جريمة العدوان.
لقد تم تنفيذ هذه الأعمال الشريرة بشكل منهجي من قبل مجرمي الحرب، دون رادع من القوانين أو القواعد الأخلاقية. لقد كانوا أعضاء في القوات التعسفية والاستبدادية للإمبراطورية الروسية التي شاركت في فظائع لا توصف. لقد ارتكبوا إبادة جماعية، وهو ما ترفضه الإنسانية بشكل قاطع. ومع ذلك، ظلت القوى الإقليمية والقارية والدولية الأخرى صامتة بشكل غير أخلاقي، وكأنها لا علاقة لها بمذبحة أمة بأكملها. ومثل هذه الجرائم لن ترتكبها جيوش الأمم المتحضرة. ”وخلال الحرب، رددت العديد من الصحف والمجلات الأوروبية بحماس وواقعية في معالجة عواقب حرب القتل والإبادة الرّوسيّة ضد الأمة الشركسية“. [4] المصدر
كانت النتيجة المروّعة والمتوقعة للحرب والأساليب الوحشية التي استخدمها الجيش الروسي على مدى أكثر من قرن من الزمان هي انتصارًا للقوة المفرطة. ومن الأمثلة على ذلك استخدام نيران المدافع من قبل القوات الغازية لإطلاق النار على الرجال الذين يدافعون عن وطنهم بأسلحة خفيفة فقط. ووقعت المعركة الأخيرة حول العاصمة الشركسية سوتشي وكراسنايا بوليانا في 21 مايو/أيّار 1864. تبع ذلك إعلان الإمبراطورية الروسية عن نهاية الحرب وإقامة عرض عسكري لتتويج ما أسمته الإنتصار.
• الضم
بعد نهاية الحرب، وُضعت جميع الأراضي والمناطق الشركسية الواقعة بين شبه جزيرة تامان والبحر الأسود والحدود الأبخازية ونهر كوبان تحت الحكم العسكري الشُّمولي. وبعد تهجير السكان أو ترحيلهم، اكتمل التطهير العرقي، وتم تقسيم إداري للأراضي — أحيانًا بأسماء مصطنعة — تحت حكم عسكري صارم. وقد حل محل ذلك لاحقًا الضم الدائم للكيان الاستعماري الرّوسي.
ومن الجدير بالذكر أن ”مأساة الشعب الشركسي وجدت تعاطفًا صادقًا بين الجمهور الجورجي التّقدمي في القرن التاسع عشر“. وقد عكست وسائل الإعلام الجورجية في ذلك الوقت ذلك، حيث تناولت الصحافة المطبوعة بين الأعوام 1860 – 1890 من القرن التاسع عشر الكارثة بفعاليّة. ويؤكّد ذلك تماسك الشعب القفقاسي وتوقه إلى الحرية من الهيمنة الأجنبية. [5] المصدر
لم تكن الحرب الروسية–الشركسية مرتجلة؛ “لقد كان مشروعًا مخطّط له مسبقًا ومخطط له بعناية للإمبريالية القيصرية، التي أُقيمت على أنقاض الأمم الصغيرة من خلال الحروب الاستعمارية المدمِّرة. فلَم تنشأ السياسات الإستعمارية الروسية من العدم — بل كانت نتاجًا لطموحات موروثة، بخطوات محددة مسبقًا أدّت إلى الحرب الروسية–الشركسية التي استمرت 101 عامًا، والتي تسبّبت في كوارث غير مسبوقة للشعب الشركسي. [6] المصدر
”وطوال التاريخ الإمبريالي، فرضت السلطات المحتلة والمستعمِرة الهيمنة والحكم الإستبدادي على الأمم المستعمرة. وما لم تعارض الأمم الخاضعة مثل هذه السياسات، فسوف تُجبر على الامتثال لطموحات الدولة المحتلة. ومع ذلك، يجب عليها الصمود لاستعادة حق تقرير المصير والحرية والاستقلال“. [7] المصدر
على الرغم من الدعاية وأكاذيب الإمبراطورية الروسية، تكشف الحقائق المؤكّدة أن هذه لم تكن حربًا أيديولوجية، بل كانت حربًا استعمارية توسعية تهدف إلى السيطرة على أراضي أمّة أخرى. يجب أن تكون العقوبة متناسبة مع حجم الجريمة، وفقًا للقوانين والأعراف الدولية. وتتحمل الدولة الروسية وأنظمتها المتعاقبة مسؤولية إعادة الحقوق القانونية التي انتزعت من أصحابها الشرعيين.
الخلاصة
تستمر الدولة الروسية في إبقاء عشرات الشعوب والأمم تحت السيطرة الاستعمارية، بهدف ترويسها، وانصهارها القومي، وتذويبها في بوتقة متعددة القوميات تهيمن عليها أغلبية روسية سلافية. وهذا يمحو الهويات القومية والثقافية المتميزة لأولئك الخاضعين لسيطرتها. ولا توجد هناك رؤية مستقبلية تسمح بإنهاء الاحتلال، واستعادة الحقوق المشروعة، ومنح حق تقرير المصير.
في ضوء الألم والمأساة التي تحمّلها الشعب الشركسي نتيجة للإبادة الجماعية والتهجير، من الأهمية بمكان الالتزام بالأهداف القومية التي تعيد الحقوق إلى أصحابها الشرعيين. وعلى العكس من ذلك، بالنسبة لأولئك الذين يعارضون المصالحة والتنسيق في إطار وطني شامل، ينطبق المثل التالي: ”كانت الغابة تتقلص لكن الأشجار ظلت تصوت للفأس، لأن الفأس كان خبيثا وأقنع الأشجار بأنه كان واحدًا منها لأن مقبضه مصنوع من الخشب“. — مثل تركي
*******************
المصادر:
[1] (Bashqawi, Adel. Circassia: Born to be Free. p. 22)
[2] (Bashqawi, Adel. Circassia: Born to be Free, Chapter 3 and appendices)
[3] (Bashqawi, Adel. 15 September 2017. Circassia: Born to Be Free)
[4] https://justicefornorthcaucasus.info/?p=1251682649
[5] https://justicefornorthcaucasus.info/?p=1251662239