الشراكسة في لبنان… تاريخ خافت بين التهجير والتوزّع الجغرافي

الشراكسة في لبنان… تاريخ خافت بين التهجير والتوزّع الجغرافي



عكّار – لبنان
يشكّل الشراكسة واحدًا من المكوّنات الهادئة في المشهد اللبناني المعقّد، إذ وصلوا إلى البلاد أواخر القرن التاسع عشر عقب التهجير القسري الذي تعرّض له أبناء شمال القوقاز خلال الحرب الروسية-الشركسية. وبينما استطاعت التجمعات الشركسية في الأردن وسوريا وتركيا بناء مجتمعات متماسكة واضحة السمات، فإن حضورهم في لبنان اتخذ مسارًا مختلفًا، تميّز بالشتات الجغرافي والاندماج التدريجي داخل مجتمعات محلية متفرقة.
شتاتٌ غير تقليدي
في الأردن وسوريا، خُصّصت مناطق واسعة لاستقبال الشركس، الذين لعبوا أدوارًا أمنية وزراعية في حماية الحدود وإنشاء بلدات جديدة. أمّا في لبنان، فغياب رؤية توطين جماعية، إضافة إلى الطبيعة السكانية والطائفية المعقّدة في تلك الفترة، أدّى إلى توزّع الشركس على قرى متعددة بدل تجمعهم في كتلة سكانية واحدة.
وقد استقرّت عائلات شركسية في مناطق مختلفة، أبرزها:
الجنوب: قانصو
البقاع الغربي: بسج وجركس
عكّار – برقايل: عبدالرزاق وملحم
طرابلس: يمّق
ببنين – الشمال: بولاد وجركس
توزّع واسع يصعب حصره
لا تقتصر العائلات الشركسية في لبنان على هذه الأسماء فحسب، بل تنتشر أسرٌ أخرى في مختلف المحافظات اللبنانية. غير أنّ توثيقها بدقة لا يزال محدودًا بسبب اندماجها المبكر داخل المجتمعات المحلية، واعتماد كثير منها أسماء عائلية غير مرتبطة بشكل مباشر بالهوية الشركسية.
هذا التشتت الجغرافي الواسع، مع غياب العمل التوثيقي الرسمي أو الأهلي، جعل من الصعب الإحاطة الكاملة بجميع العائلات الشركسية أو تحديد مسارات انتشارها بدقة. وهو ما يجعل البحث في التاريخ الشركسي بلبنان عملاً مفتوحًا يحتاج جهودًا أكاديمية واجتماعية لحفظ هذا الإرث من الاندثار.
لماذا تفرّقوا؟
لا تشير المعطيات التاريخية إلى سياسة متعمدة لتفريق الشركس في لبنان، بل تعود الأسباب إلى عوامل متعددة، أبرزها:
1. الواقع السياسي-الإداري العثماني في لبنان، الذي لم يسمح بإنشاء مستوطنات كبيرة جديدة.
2. التركيبة الطائفية التي دفعت إلى دمج الوافدين داخل القرى القائمة بدل إقامة تجمع مستقل.
3. قلّة عدد الشركس في لبنان مقارنةً بالأردن وسوريا، ما جعل التمركز غير عملي.
في المقابل، وصل الأرمن إلى لبنان بعد أحداث 1915 بأعداد ضخمة، ما دفع السلطات إلى تجميعهم في أماكن محددة أبرزها برج حمود – بيروت، الأمر الذي ساعد في تكوين مجتمع متماسك يملك مؤسساته ومدارسه وكنائسه.
هوية صامتة… لكنها حاضرة
ورغم تشتتهم، حافظ الشركس على قيمهم القوقازية الأصيلة:
الانضباط، الأمانة، احترام القانون، والعمل الجاد.
وقد اندمجوا في المجتمعات المضيفة دون صدام أو انكفاء، تاركين أثرًا هادئًا لكنه راسخ في الذاكرة المحلية، خصوصًا في برقايل – عكّار التي تُعدّ اليوم واحدة من أبرز محطات وجودهم في لبنان.
خاتمة
يبقى إرث الشراكسة في لبنان فصلًا مهمًا من تاريخ البلاد لم يُكتب بعد بشكل كامل، ولا يزال بحاجة إلى جهود بحثية لجمع الروايات الشفوية والوثائق المتفرّقة، بهدف رسم صورة أوضح عن دور هذه الجماعة، وعن كيف حملت تراثها القوقازي العريق إلى قرى الشمال والبقاع والجنوب.

إنه تاريخٌ صامت… لكنه يستحق أن يُروى.


المصدر:
Share Button