الطرد والابادة
عرض/زياد منى
موضوع هذا الكاتب المهم حقا، لم يسبق أن تعامل معه أي مؤلف آخر من قبل، وهو مصير سكان السلطنة العثمانية (دولت عليه عثمانية/ 1299–1923) من المسلمين، أتراكا كانوا أو من “الإثنيات” الوطنية، في مرحلة اندحارها وسقوط أراضيها غربا في أوروبا وشرقا في أواسط آسيا، في مساحة ضمت ما لا يقل عن ستة ملايين كيلومتر مربع.
قبل مباشرة عرض الكتاب ومادته، نود الإشارة إلى أنه أثار وقت صدوره مجموعة من ردات الفعل المتشنجة من أطرف تظن أنها تملك الحقيقة المطلقة في ما يخص تاريخ الإقليم.
ونعني هنا تحديدا أوساطا أرمينية وأوروبية شرقية ويونانية، والحملة ما زالت مستمرة رغم مرور سنين على نشر نسخته الأصلية.
وبدلا من مناقشة محتوى الكتاب ومنهجية البحث، أي التقيد بأصول العمل العلمي الصارمة، تحول معارضوه إلى التهجم الشخصي على المؤلف، ومن ذلك على سبيل المثال الادعاء بأنه متزوج من تركية وأن والدته تركية.
ومع أن المؤلِّف نفى ذلك فإنه أجاب بأنه حتى لو كان ذلك صحيحا فالنقد العلمي يجب أن يوجه إلى موضوع الكتاب وما يحويه من معلومات وليس إلى شخصية الكاتب.
الأرض المقبلة على الضياعمن المعروف أن حدود الدولة العثمانية في بداية المرحلة التي يتعامل المؤلف معها، أي من بداية عشرينيات القرن التاسع عشر، كانت تصل غربا حتى أراض تقع حاليا في جمهورية رومانيا وجنوبي أوكرانيا.
أما حدود السلطنة الشرقية في مرحلة التثبيت التي سنشير إليها لاحقا، فكانت تضم أراضي جعلت من البحر الأسود وما حوله “بحيرة عثمانية” بكل ما للتعريف من أبعاد.
هذا -إضافة إلى أمور أخرى- جعل السلطنة العثمانية قوة عالمية كبرى ولاعبا أساسيا في السياسة الأوروبية، ومساهما مهما في ميزان القوى الأوروبي، وقد أهلتها قوتها هذه لتكون الدولة غير الأوروبية الوحيدة التي تحدت قوة الغرب المتصاعدة في عقر داره.
لقد مرت الدولة العثمانية بما يمكن تحديده بخمسة مراحل:
1- مرحلة النمو (1453-1566م)، أي من احتلال القسطنطينية (إسلامبول ومعناها مليئة بالإسلام) إلى وفاة السلطان سليمان القانوني.
2- مرحلة التثبيت، وعادة ما يحددها أهل الاختصاص بالفترة الواقعة بين عامي 1566 و1683، أي عام معركة فيينا التي قادها السلطان محمد الرابع ضد الإمبراطورية النمساوية بسبب تدخلها المستمر في أمور المجر، لكنه خسرها.
3- مرحلة الجمود، وامتدت بين عامي 1623 و1827.
4- مرحلة الانحطاط، وامتدت بين عامي 1828 و1908.
5- وأخيرا مرحلة التفكيك، وامتدت من عام 1908 إلى عام 1922.
وقد شهدت المرحلتان الأخيرتان اضطرار الدولة العثمانية لخوض حروب عديدة ضد قوى مجاورة مختلفة هي الفرس والنمساويون والتحالف البولوني-الليتواني والروس، حيث شهد القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حروبا كثيرة إضافة إلى سبعة عصيانات مسلحة كبيرة.
هذا كله أدى إلى إنهاك الدولة العثمانية وتقلص مساحة أراضيها بكل ما لذلك من أبعاد، خاصة بالنسبة لسكان الأراضي التي ستضيع لصالح القوى المحيطة وأي مصير كان ينتظرهم.
نهاية أرض المسلمين
يقول المؤلف جستن مكارثي وهو أستاذ التاريخ في جامعة لوزفيل بالولايات المتحدة، إن اكتشافه مصير مسلمي أراضي السلطنة العثمانية التي سقطت بيدالدول المجاورة، من هجرة قسرية إلى تطهير عرقي فقتل وموت، كان بالصدفة
.فتخصص مكارثي هو مجال السكان وليس التاريخ، وكتب مؤلفات عديدة عن العرب في الدولة العثمانية وكذلك عن سكان فلسطين في العهد العثماني ومن ثم في ظل الاحتلال البريطاني.
وعندما كان يقوم بإحصاء عدد سكان الأناضول في القرنين التاسع عشر والعشرين، تبين له حجم الكارثة التي لحقت بهم.
وبعد مراجعته الأرقام التي بحوزته وتأكده من صحتها وأنها عائدة إلى المصادر الأولية، قرر توسيع مجال بحثه ليضم إليه أقاليم القِرَم والبلقان والقوقاز.
ويقول مكارثي إن كتابه ثمرة بحثه الموسع “تواريخ الوفيات والهجرات القسرية للشعوب المسلمة” في الأقاليم آنفة الذكر.
وهذا الكتاب إضافة إلى كونه تسجيلا موثقا لأحداث تاريخية، تصحيح لتاريخ مكتوب من وجهة نظر منحازة ضد المسلمين العثمانيين ومصير ما لا يقل عن عشر ملايين ملايين نسمة بينهم خمسة ملايين قتيل وخمسة ملايين مهجر.
كما أنه يكتسب أهمية خاصة لأن تصحيح الرؤية التقليدية الأحادية لتاريخ أتراك تلك المناطق ومسلميها أصبح ضروريا.
مؤلف الكتاب الذي يحوي ثمانية فصول وملحقا ومجموعة من الجداول والخرائط التوضيحية، يتناول المادة من منظور جغرافي، ويبدأ تقصيه بمدخل منطقي هو فصل “الأرض المقبلة على الضياع” الذي يتحدث فيه باختصار عن مختلف المجموعات السكانية فيها وأماكن سكناها.
بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى التعامل مع أحداث كل إقليم، بل وفي أحيان كثيرة أحداث كل مدينة على حدة ومصير سكانها المسلمين بالتفصيل كشرقي الأناضول والقوقاز وبلغاريا، (الشرق 1878-1914)، وحروب البلقان والحرب النهائية في الشرق وأخيرا الحرب النهائية في الغرب.
ثم ينهي كتابه بفصل “نهاية أرض المسلمين”، وتأثير تلك الأحداث والوقائع في تركيبة الدولة التركية الحديثة وسياساتها.
ففي الوقت الذي تأسست فيه الدول القومية في تلك الأقاليم العثمانية السابقة على معاناة سكانها المرحّلين، توحدت أيضا من خلال طرد سكانها المسلمين.
أما الاستعمار الروسي القيصري الذي نظر إليه على أنه “حامل المدنية الأوروبية” فقد جلب معه الموت لملايين الشركس والأبخاز واللاز والأتراك.
وينقل المؤلف شهادات مباشرة كثيرة غاية في الفظاعة منها على سبيل المثال، أعمال اليونانيين في أبريل/نيسان 1821 حين كان أكثر من 20 ألفا من المسلمين يعيشون مشتتين في اليونان، فقتل القسم الأكبر منهم، قتل الرجال والنساء والأطفال من دون رحمة أو ندم.
وكتب المحقق كَلِن عن تصرفات الروس وحلفائهم من الأرمن “لا أستطيع أن أصل إلى أي استنتاج آخر إلا أن الروس ينفذون سياسة ثابتة لإبادة العنصر المسلم”.
كما أورد خبرا عن توقيع عدد من المراسلين الصحفيين الأوروبيين بيانا يشير إلى فظائع القوات الروسية والبلغارية يقول فيه إنه “جرى قتل كل السكان المسلمين في العديد من القرى، والعدد الأكبر من الضحايا من النساء والأطفال”.
كما ترد في الكتاب شهادات كثيرة أخرى عن حرق السكان المسلمين رجالا ونساء وأطفالا أحياء في بيوتهم أو في ساحات القرى.
فصول الكتاب كلها تحوي تفاصيل مريعة لعمليات قتل وتهجير وتطهير عرقي واغتصاب وتنصير وحرق للقرى وأهلها المسلمين، قامت بها قوات روسية وأرمينية وبلغارية ويونانية ورومانية ضد السكان العثمانيين، أتراكا كانوا أم غير ذلك.
وقد اعتمد المؤلف في تقصيه على وثائق رسمية تابعة للحكومات البريطانية والفرنسية والأميركية مأخوذة جزئيا من الناجين، إضافة إلى مجموعة من الكتب والتقارير المنشورة التي كتبها مؤلفون أوروبيون في المقام الأول.
خاتمة
مع كل حملات التشكيك الآنفة التي رافقت الكتاب فإنه يكتسب أهمية خاصة -من وجهة نظر كاتب هذه السطور- تكمن في الحقائق التالية:
1- الكتاب هو المرجع الأول في هذا الموضوع، حيث لم نعثر على أي عمل منشور يتناول مصير المسلمين العثمانيين في الأقاليم المذكورة.المؤلف يقول إنه لا يفهم سبب غياب هذه الحقائق المعروفة عن المؤلفات الأكاديمية التي أسهبت في الحديث عن مآسي البلغار واليونانيين والأرمن لأنه -على سبيل المثال- من غير الوارد اليوم الكتابة عن تاريخ نشوء الولايات المتحدة الأميركية من دون الحديث عن الوحشية التي مارسها المستعمرون الأوروبيون بحق السكان الأصليين، ولا يستطيع أحد الحديث عن الاستعمار و”مآثره” في المستعمرات من دون ذكر إبادة الأفارقة أو الصينيين في “حروب الأفيون”.
2- اعتماد المؤلف أسلوبا علميا صرفا في كتابه واستعانته بالمراجع الأولية، ما يفسر -ربما- وجود أكثر من 30 جدولا تفصيليا بأسماء القرى وعدد سكانها من مختلف الطوائف وعدد المنازل المدمرة.
3- الكتاب على عكس المؤلفات الأخرى التي كتبت عن خسائر المسيحيين في تلك الحقبة الزمنية، لم يرفق بأي مطالب أو ادعاءات سياسية، عدا أنه لا ينفي إطلاقا حدوثها.
أخيرا، ثمة نقطة أساسية مرتبطة بهذا الكتاب وما يحويه من معلومات لا شك في أنها حقائق، وهي أنه ليس عملا مجردا وإنما ذو أبعاد علمية مهمة.
فالكاتب يصل إلى استنتاج أن المشهد التقليدي لتاريخ البلقان والقوقاز والأناضول أقل من كامل إن لم يكن مضللا، لأن تاريخ الجماعات التي شكلت الأقلية في الإمبراطورية العثمانية استثني من الكلام.
القسم الأهم من الكلام هو معاناة المسلمين التي حدثت في المناطق نفسها وفي الوقت نفسه الذي حدثت فيه معاناة المسيحيين والتي كثيرا ما فاقتها. ولهذا يعتبر المؤلف كتابه -بحق- إسهاما في التنقيح الأكاديمي الضروري الذي يقع في صميم مهمات المؤرخ.
المصدر: الجزيرة