تصريحات ودراسات روسية مثيرة للجدل
بقلم: علي كشت
صدرت في الاونة الاخيرة مجموعة من التصريحات والدراسات الروسية الرسمية، التي اقل ما يمكن وصفها بالعنصرية ، هذه التصريحات والدراسات تدل على وجود مشكلة مؤرقة لصانع القرار الروسي وان هناك نوع من التخبط بشكل واضح من اجل حلها او التكتم عنها، الا انه على ما يبدو ان هذه المشاكل امست غير قابلة للعلاج بالطرق الروسية المعتادة، وهو ما يفسر ظهورها على السطح بصورة تثير عدة تساؤلات حول ما هيتها وحقيقتها، فقد نشر موقع وكالة انباء القفقاس بتاريخ 1/8/2009 خبراً حول اعداد مجموعة من الخبراء الروس لائحة شملت 84 منطقة وجمهورية في الفدرالية الروسية تشير الى ان منطقة شمال القفقاس ليست من الأماكن المفضلة للروس،اعتمد الخبراء لدى إعدادهم القائمة على معايير عدة كمستوى الرواتب والدخل الأدنى وأسعار العقارات ونسبة البطالة حسب ادعاءهم، وقد احتلت المناطق الغنية بالبترول المراتب العشرين الأولى على اللائحة في حين احتلت الجمهوريات القفقاسية درجات متدنية حيث جاءت الأديغي في المرتبة 42 والقبردي ـ بلقار في المرتبة 67 ، أوسيتيا الشمالية في المرتبة 52، داغستان في المرتبة 69، القرشاي ـ شركس في المرتبة 74، الشيشان في المرتبة 83 أما المرتبة الأخيرة فكانت من نصيب أنغوشيا، وجاءت منطقة كراسنودار في المرتبة 34 وآستراخان 36 وستافربول كراي 45 وروستوف 53، وبالرجوع الى بيانات اقتصادية سابقة يلاحظ وجود نوع من التضليل حول نتائج هذه الدراسات حيث أن جمهورية الاديغية مثلاً كانت قد احتلت عام 1997(عندما كانت الاوضاع الاقتصادية مخيفة في روسيا الفدرالية) المرتبة السابعة عشرة في الفدرالية الروسية والمرتبة الأولى لمنطقة شمال القفقاس من حيث الشروط والاتفاقيات الاستثمارية والنمو الاقتصادي، اي انه من المفترض ان اقتصاد الاديغية كان يسير على طريق الصحيح وكان يتمتع بالقوة، ولكن وبقدرة قادر تتراجع الاديغية وتصبح جمهورية فقيرة ومعدمة وضعيفة اقتصادياً هذا التحول السريع جاء متزامناً مع الخطط التي ظهرت بعد العام 1997 الهادفة الى دمج الجمهورية بمقاطعة كرسنودار المجاورة، ومنذ ذلك الوقت تصدر الدراسات الاقتصادية الروسية المركزية التي تظهر وجود تباين كبير بين الاديغية ومقاطعة كرسنودار وبين جمهوريتي قباردينو/بلقاريا والقرشاي/شركس ومقاطعةستافربول،رغم ان احدى الدراسات التي اجريت في بداية الالفية الحالية افادت بان النفط المتواجد في شمال القفقاس والممتد على اراضي الجمهوريات الشركسية وجمهورية الشيشان يكفي لسد احتياجات المنطقة لمدة 150 عاما، ناهيك عن الموارد الطبيعية والسياحية الاخرى للمنطقة الشركسية، الدراسات الدولية كانت دوماً في تناقض مع الدراسات الروسية ففي 29 تشرين الاول /2008 – المنتدى الاقتصادي العالمي دافوس قام بتصنيف البلدان من حيث قدرتها التنافسية وقام الباحثون الرّوس بتطبيق المقياس على 38 من مناطق روسيا ووجدوا انّه العديد منها ستكون افضل حالاً اقتصادياً لو انها كانت دول مستقلّة بدلاً من وجودها في الفدرالية الروسية، وعند تناول جمهوريات قباردينو-بلقاريا والقرشاي/شركس والاديغية، وجدت الدراسة ان هذه الجمهوريات تتمتع بقدرة تنافسية اقتصادية تتساوى فيها مع مصر وكازاخستان على سبيل المثال وان قدرتها الاقتصادية قادرة على التفوق على اقتصاديات دول مستقلة مثل أذربيجان وباكستان وبلغاريا، هذه التناقضات وغيرها لعبت دوراً في اثارت شكوك حول الحقيقة التي تسعى الدولة الروسية من وراء نشر فكرة التدهور الاقتصادي في شمال القفقاس، اضف الى ذلك عدم وجود مساواة بين المناطق الشركسية والروسية في الدعم المالي للمركز.
اضافة الى هذه الدراسات تظهر العديد من التصريحات ذات المضمون العنصري من قبل مسؤولين روس رفيعي المستوى فمثلاً طلب الممثل الخاص للرئاسة الروسية في المناطق الفدرالية الجنوبية فلاديمير أوستينوف من الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف مد يد العون لوقف هجرة الروس المتزايدة من شمال القفقاس،وتحدث أوستينوف عبر لقاء جرى بالأقمار الصناعية مع ميدفيديف في العاشر من شهر تموز الماضي عن المشاكل التي تعاني منها منطقة شمال القفقاس وعلى الأخص البطالة التي قال إنها تدفع الروس لمغادرة المنطقة، وقد ذكرت الجملة التالية وبشكل حرفي:” نحن الآن بصدد إعداد رسالة موسعة لفخامتكم حول هذا الأمر راجين منكم الدعم لجعل الصناعة بأيدينا في هذه الجمهوريات القومية وعدم ترك الروس (يغادرون القفقاس)”، لقد اثار هذا التصريح ردود فعل غاضبة من قبل القفقاسيين ومنهم الشراكسة، وذلك للعنصرية الواضحة فيه، فالسيد أوستينوف غير قلق بالحالة الاقتصادية لشمال القفقاس سوى لان الروس يرحلون بسببها حسب قوله، ولو ان الروس لا يرحلون فانه لا يبالي بالحالة الاقتصادية اطلاقاً، ومن جهة اخرى كان استخدام لفظ الروس اي المنحدرين من اصل سلافي اثر واضح على عنصرية فكر القيادة الروسية، فاذا كانت روسيا هي ام الجميع كما تدعي وان مواطنيها كلهم متساوون في الحقوق والواجبات وان منطقة شمال القفقاس جزء لا يتجزأ من روسيا وان شعوبها هم مواطنين في الفدرالية الروسية التي تقوم على اسس الديمقراطية والتسامح والمساواة فلماذا هذا الخوف من مغادرة الروس للقفقاس اليس القفقاسيين روساً ايضاً؟!! ان هذا التناقض الرهيب يكشف حقيقة السياسة الروسية التي ومن خلال هذه التصريحات تعترف ضمنياً بان شمال القفقاس منطقة محتلة ولا بد من تدعيم الوجود الروسي فيها، فهناك فرق بين الشركسي وروسي في المواطنة، وهناك خوف من استعادت هذه المناطق لشعورها وفكرها القومي.
ان حقيقة هذه التصريحات والدراسات الاستفزازية تكمن في رغبة روسيا في تحقيق مجموعة من الاهداف، بداية فان موسكو تسعى منذ تولي السيد بوتين مقاليد الحكم الى اتباع سياسة دمج المناطق الفدرالية وذلك بغية تذويبها وصهرها في البوتقة الروسية وروسنة كل القوميات الاخرى الموجودة فيها، ولهذا عمدت السلطات الفدرالية على اتباع سياسة خلق المشاكل العرقية والاجتماعية في الجمهوريات القفقاسية وخاصة الشركسية منها بغية جعلها تنشغل بهذه المشاكل وابعادها عن متابعة تطورها الاقتصادي، فاججت المشاكل بين الشراكسة والقوميات العرقية الوافدة على ارضهم لجعلهم في حالة صراع مع هذه العرقيات التي تعتبر الاداة المثلى في يد روسيا تاريخياً، اضف الى ذلك المحاولات الروسية لخلق المشاكل الاقتصادية لوضع اعباء على كاهل الجمهوريات الشركسية ودعم المناطق المجاورة بالشكل الذي يظهر ضعف هذه الجمهوريات وضرورة دمجها مع المناطق الاخرى التي هي افضل حالاً اقتصادياً، وحتى عملية الدمج هذه فيلاحظ بان المركز الفدرالي قام بتقوية المناطق التي يشكل الروس فيها اغلبية مثل كراسنودار (على الرغم من انها ارض شركسية تاريخياً) وذلك من اجل جعل الشراكسة اقلية في حالة دمج الاديغية مع كراسنودار ونفس الامر ينطبق على مقاطعة ستافربول وجمهوريتي قباردينو/بلقاريا والقرشاي/شركس ، اي ان الخطة الروسية كانت تقوم على افقار مناطق شمال القفقاس وبث الدعاية الاعلامية اللازمة وذلك بغية دمجها وفق مخططات روسية تحت ستار الحالة الاقتصادية المتدهورة لكن ما حصل ان الروس المقيمين في القفقاس هم من الحق بهم الاذى نتيجة هذه السياسية ، حيث ان الشركسي مضطر الى البقاء في القفقاس فلذهاب الى موسكو مثلاً قد يعنى قتله على ايدي حلقي الرؤوس الروس او العصابات، وفي اغلب الاحيان ونظراً لاتباع سياسة الفصل العنصري ( وهنا نعني الفصل العنصري(Apartheid) وليس التمييز العنصري(Discrimination) لان الفصل العنصري هي سياسة تطبقها الدول مثلما كان متبع بجنوب افريقيا اما التمييز العنصري فيتم تطبيقها من قبل الافراد) من قبل الدولة الروسية بحق الشراكسة فانه يجبر على البقاء في القفقاس والتكييف مع جميع الصعاب رغماً عنه، بعكس المواطن الروسي الذي له الحرية في التنقل اينما اراد وبهذا انقلب السحر على الساحر وبدأ الروس بمغادرة القفقاس وبقاء الشراكسة الامر الذي اثار حفيظة موسكو، وقد جاء تصريح رؤساء القازاق ليكشف حقيقة السياسة الروسية والذي جاء فيه” أن إعادة هيكلة منطقة شمال القفقاس عبر إحياء منطقة تيريك كما كان في العهد القيصري من شأنه توطيد ركائز الاستقرار في المنطقة والمساهمة في حل الخلافات بين شعوبها”،وكان رئيس اتحاد قازاق تيريك ميخائيل إنكافستوف في اجتماع عقده رؤساء القازاق مطلع الشهر الحالي في مبنى إدارتهم في عاصمة أوسيتيا الجنوبية فلادي قفقاس قد اكد بإنهم بصدد إعداد طلب حول هذا الخصوص سيتقدمون به لمجلس الدوما، وتحدث قائلا: “يجب أن تحتل القبردي ـ بلقار والشيشان وأنغوشيا وأوسيتيا الشمالية وداغستان وستافربول كراي مكانها في منطقة تيريك وأن تلحق الأديغي والقرشاي ـ شركس بكوبان”، وزعم إنكافستوف أن منطقة تيريك كانت غنية جدا في عهد القياصرة مردفا: “لقد كانت تكتفي بنفسها وتقدم 2 مليون قطعة ذهبية للخزينة لكن بعد ذلك استلم البولشيفيون الحكم وهدموا المنطقة مما تسبب بظهور مشاكل إقليمية في القفقاس… إن جميع جمهوريات شمال القفقاس تحصل على مساعدات الآن وجميعها تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية حادة ونظام الإدارة فيها نظام قبلي، يجب اعتبار أن جمهوريات شمال القفقاس قد أفلست ويجب جلب نظام إدارة خارجي. إن الوضع في جمهوريات شمال القفقاس تسبب بمغادرة الروس لها عقب انحلال الاتحاد السوفيتي ففي البداية ظهرت النزعة القومية وبعد ذلك الأزمة الاقتصادية وانهيار الصناعة مما تسبب ببطالة آلاف الأشخاص ومغادرتهم المنطقة وفي حال استمر الوضع على ما هو عليه سيستمر الروس بمغادرة المنطقة لأن إمكانية عثورهم على عمل ضئيلة جدا، إن إعادة تشكيل منطقة تيريك سيحل أولا المشاكل السياسية وسيزيل الانتقادات الإقليمية التي توجهها بعض الشعوب لبعضها الآخر ولن يبقى هناك مفهوم “شعب بوصف وشعب بلا وصف”.
اذاً الهدف هو اعادة ترتيب منطقة شمال القفقاس وتغير بنيته بصورة تقضي على الهوية القومية الشركسية، وهذا الامر ليس جديداً بل ان المتتبعين والمختصين بالشؤون الشركسية يلاحظون تكرار الحقبة القيصرية والسوفيتية مرة اخرى ولكن هذه المرة تحت رعاية الفدرالية الروسية، ففي العهد القيصري وبعد سقوط شركيسيا جرى تقسيم البلاد الى مناطق عسكرية على مستويات مختلفة من حيث الحجم و الصلاحيات، وكان تجرى عليها تعديلات بين الحين والأخر، وقسمت منطقة الترك العسكرية الى عدة مناطق، فالمنطقة الغربية شملت نواحي القبرداي و اوسيتيا و الانخوش ، و المنطقة الوسطى شملت نواحي اتشكيريا و اراغون وفي العهد السوفيتي تم بث التفرقة بين شعوب المنطقة وروُعي في تقسيمات جمهورية القبرطاي /بلقر ومقاطعتي الكرتشاي /شركس و اديغة تشتيت شعب من خلفية عرقية واحدة ومزج شعوب من خلفيات عرقية مختلفة، فالمنطق العملي كان جمع القبرداي والشركس والاديغة وهم جميعا من شعب الأديغة (سكان القفقاس الاصليين) وتجمعهم لغة واحدة في تقسيم أداري واحد، إلا أن سياسة (فرق تسد) جعلتهم يتم توزيعهم على وحدات مجزأة صغيرة و يصبحوا أقلية سكانية في بعضها وأمكانية أحداث خلافات ونزاعات في مناطق الأدارية بما يساعد على دوام السيطرة المركزية من موسكو ، وهذا ما يريد تطبيقه مرة اخرى في روسيا الديمقراطية.
الا انه ومن خلال تتبع التطورات السياسية في شركيسيا فانه يلاحظ ان الهروب المتزايد للروس سببه اشتداد رياح الحرية في المنطقة الشركسية فالمؤتمرات الشركسية منذ مؤتمر تشركيسك العام الماضي اعادة المشروع القومي الشركسي الى الوجود وهو اعادة بعث شركيسيا من جديد، والجدير بالذكر بان هذا الاقتراح الداعي لاعادة تشيركسيا العظمى تمت مناقشته بصورة واضحة وصريحة من قبل المجتمع الشركسي في الفدرالية الروسية بعد ان كان خلال الحقبة السوفيتية يعتبر دعوة الى الانفصال والتطرف ويصتف تحت بند الخيانة العظمى،جوهر المشروع يقوم على اعادة توحيد ودمج ثلاث جمهوريات ومنطقة من شمالا القفقاس حيث الشركس يشكلون الأغلبية المهيمنة عرقياً،وتتجه شرقا ، وتشمل منطقة الشابسوغ في سوتشي وجمهورية الاديغية وقرشاي/شركس وقباردينو/بلقاريا، ويعتقد البعض ان الفضل في الجرأة الشركسية يعود الى ديمقراطية روسيا اليوم، ولكن في الواقع فان الشراكسة حتى ابان الفترة السوفيتية لم يكونوا خاضعين وخائفين بل انهم تواجهوا مع السوفيت كثيراً وتكفي الاشارة الى احدى الحوادث في عام 1937 حيث القي القبض على حوالى خمسين من العلماء الأديغه وقتلوا رميا بالرصاص بسبب مواقفهم القومية.
ان شركيسيا ليست منطقة فقيرة كما يروج اليه الروس ولو كانت كذلك لكانت موسكو قد تخلت عنها منذ زمن، فهي غنية بمصادرها الطبيعية التي تنتظر ان تستثمر بالشكل المناسب وهذا الامر لن يتحقق سوى باحلال الاستقرار في المنطقة وتوقف موسكو عن سياسة فرق تسد واشعال الصراعات العرقية وقمع الحريات ومصادرة الحقوق الشركسية والتعتيم عليها، ان الشراكسة يعيدون ترتيب انفسهم وفكرهم السياسي اصبح يتبلور من جديد وقوميتهم تيعث من بين الرماد، ولهذا يجب على موسكو ان تتخذ النموذج العقلاني في اتخاذ القرار وان تعترف ان السبب في هروب الروس هو عدم قدرة الفكر الروسي على تقبل الحقيقة القائمة على ان الشراكسة هم الحقيقة الخالدة اما الاخرون فهم السراب الذي يلزمه الوقت فقط للاختفاء.