نشرت صحيفة الغد الأردنية بتاريخ 24 / 3 / 2010، مقالا للسيد مراد بطل الشيشاني بعنوان “من القوقاز مع التحية”، عن المؤتمر الهام للشعوب القوقازية الذي عقد في العاصمة الجورجية “تبليسي”، وجاء في المقال:
وجهت لي الأسبوع الماضي دعوة لحضور مؤتمر عن شعوب القوقاز، في العاصمة الجورجية تبليسي، وقد وصف البعض المؤتمر بـ “عاصمة القوقاز”. عقد المؤتمر بالتعاون ما بين مؤسسة “جيمستاون” الأميركية و”المعهد الدولي للدراسات القوقازية” في جامعة إيلا الجورجية. الزيارة عنت لي الكثير على المستوى الشخصي، فقد كانت آخر مرة لي زرت فيها العاصمة الجورجية، أو حتى كنت في القوقاز كله، قبل نحو عشرين عاما، وقد حدث ذلك مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وشهدت سقوط تمثال لينين في إحدى ساحات تبليسي العامة. الزائر هنا يلاحظ الفرق ما بين الأمس واليوم بكل سهولة، من النمط الشيوعي السوفييتي إلى دولة مستقلة وعضو في منظمة حلف شمال الأطلسي.
وأما فيما يتعلق بالمؤتمر فقد ركز خلال يومين على القضايا المرتبطة بمنطقة القوقاز، ومنها خرجتُ بمجموعة من الملاحظات العامة، من خلال الكلمات التي ألقيت، أو الحوارات الجانبية مع الحضور من السياسيين والأكاديميين. وقد لاحظت أن جورجيا يبدو أنها تقود جهوداً لإعادة ربط نفسها بالجمهوريات القوقازية في شمال القوقاز. ويبدو أن الحرب الروسية ضدها في العام 2008، وردة فعل الغرب التي “كانت أقل من المتوقع”، وفقاً لمراقبين عدة، دفعت إلى التفكير بهذا الشكل. ويبدو أن الخوف المفهوم من روسيا يدفع إلى خلق نوع من الصيغ التوحيدية مع جمهوريات شمال القوقاز. ويبدو أن هذا نتاج السياسات الروسية التاريخية في المنطقة. وبالمقابل من الضروري الإشارة إلى أن المنطقة الأوراسية تعدها روسيا دوماً منطقة حيوية استراتيجياً، أو “الجوار القريب”، الذي تريد الحفاظ على نفوذها فيه، ما يؤشر على حالة من التنافس الاستراتيجي المقبل في المنطقة.
وأما الملاحظة الثانية، فترتبط بإيلاء المؤتمر حصة كبيرة لقضايا الشعوب الشركسية، والتي شكلت عنواناً رئيسياً في المؤتمر. وقد سعدت بلقاء عدد من الزملاء الشراكسة من الأردن، ويبدو أن تصاعد القلاقل في الجمهوريات الشركسية خلال السنوات الأخيرة وانتهاء حرب الشيشان، يؤشران على تحولات في المنطقة وفي رؤية الشراكسة في الخارج لها.
وأما فيما يتعلق بالشيشان، فمن الملاحظ أن موجة الهجرة واللجوء التي تسببت بها الحربان الروسيتان ضدهم خلال الخمس عشرة سنة الماضية، أفرزت جيلاً يعيش في الغرب، قادرا على الحديث عن قضيته بمفاهيم مختلفة عما سبق تركز على مسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهو ما يظهر أن قضية الشيشان تبقى ظلالها مخيمة على القوقاز.
وهناك ملاحظة أخرى، بأن شعوب القوقاز بشماله وجنوبه، بحاجة إلى منابر للتواصل أكثر، فنشر الشيوعية، وما كان يعرف في الأدبيات السوفيتية، “قيم عمال العالم”، دفع إلى سياسة تقوم على إبقاء التعبير القومي في حدوده الفلكلورية، ولذا فإن النزعات الأولية أو Nativization، وهو الأمر الذي ما يزال يثير حساسيات مختلفة ترتبط بالحدود المختلف عليها، أو اختلاف اللهجات، أو إعادة كتابة التاريخ بأشكال مختلفة، وما إلى ذلك، طفت على السطح مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وما تزال تعد عنواناً رئيسياً في الفهم القومي لدى الشعوب. وعلى ذلك وجدت هناك حالة من القبول للنموذج الأوروبي من خلال الرغبة في تأسيس شبكة علاقات اقتصادية متبادلة بين شعوب المنطقة تقود إلى صيغة توحيدية ما. وعلى الرغم من الصعوبات العملية والواقعية التي تواجهها فكرة من هذا القبيل، إلا أن متابعي الشأن القوقازي، والتطورات في آسيا الوسطى، يدركون أن هناك تطورا في الخطاب مقارنة بسنوات مضت، حيث كانت الطوباوية تحكم الأفكار الشبيهة.
وأما الملاحظة الأخيرة، فترتبط بالحضور العربي، فعلى الرغم من غياب الحضور السياسي والاجتماعي العربي، فإن الاقتصاديين العرب، يبدو أنهم يتحركون بشكل أكثر واقعية من السياسيين العرب. أخبرني أحد مستشاري الحكومة الجورجية أن الاستثمارات العربية في العام 2009 شكلت ما يزيد على 50% من الاستثمارات الأجنبية في البلاد، وقد تركزت في العقارات، والموانئ، وأيضاً على مستوى التجارة. من الملاحظ أن القوقاز وآسيا الوسطى ما تزال، وعلى الرغم من انقضاء عشرين عاما على انهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال تلك الجمهوريات، أرضاً خصبة للفرص السياسية والاقتصادية، ويبدو أنها ستبقى، وكما وصفها منذ قرنين، الشاعر الانجليزي روديارد كيبلينغ، أرض “اللعبة الكبرى” بين الأمم.