كراسنايا بوليانا: كسر صمت دام 150 عاماً (الجزء الأول)
الناشر: أوراسيا ديلي مونيتور
(Eurasia Daily Monitor Volume)
بقلم: إبراهيم جوكيموخ (Ibragim Gukemukh)
ترجمة: عادل بشقوي
بعد حرب القرم (المسمّاة أيضاً بالشرقية) الممتدة من 1853-1856 وتوقيع معاهدة باريس في عام 1856التي تنهي تلك الحرب، بدأت الإمبراطورية الروسية بالتحول نحو الغزو النهائي لجبليي القوقاز. وكانت روسيا أخيرا قادرة على تحويل جيشٍ قوامه 200000 رجل مع أكثر من 200 مدفع ضد الشعوب الثائرة في شمال القوقاز. بدأت هذه الحلقة عندما تمكن حاكم القوقاز الجديد، الجنرال ألكسندر بارياتنسكي (Aleksandr Baryatinsky)، تمكّن من تدمير وأسر زعيم المقاومة المعروف الإمام شامل في قرية جونيب (Gunib) في داغستان الجبلية خلال ثلاث سنوات، وبالتالي بسط السيطرة الكاملة على الشيشان والداغستان مانحاً روسيا سيطرة على شرق القوقاز. ومع القبض على شامل، يمكن لروسيا أن تعود مرة أخرى إلى الإستيلاء على غرب القوقاز ومواطينه الأصليين، القبائل الشركسية والأبخازيّة الذين كانوا يقيمون في المناطق الساحلية المطلة على البحر الأسود – نفس المنطقة الّتي سيتم عقد دورة ألعاب سوتشي الأولمبية 2014 بها في فبراير/شباط القادم، وموقع ساحة المعركة في كراسنايا بوليانا، والمعركة النهائية للمقاومة الشركسية ضد تقدّم روسيا القيصريّة الإستعماري جنوبا.
تلاشي الآمال
بعد هزيمة وأسر شامل في عام 1859، لمس الشراكسة والوبيخ ان روسيا سوف تجدد جهودها الرامية إلى إخضاع الشركس وبدأت الاستعداد بشكل محموم للهجوم الجديد من قبل الجيش القيصري. وكانت السفن الشراعية التّركيّة الصغيرة تتردّد على موانئ السواحل الشرقية للبحر الأسود، جالبة البارود وذخائر أخرى إلى الوحدات الشركسية تحضيراً للهجوم الروسي القادم.
في وقت متزامن مع هذه الجهود، واصل القادة البواسل من “الجبليّين” في غرب القوقاز بذل جهود دبلوماسية يائسة لتلقي الحماية من القوى الأوروبية، وعلى وجه الخصوص إنجلترا وفرنسا، اللتان شاركتا في حرب القرم ضد روسيا. بالتركيز على القنصلية البريطانية، التي أُنشئت في مدينة سوخومي (قبل ذلك كانت القنصلية تقع في عاصمة نائب حاكم القوقاز في تبليسي)، حافظ الجبليّين على الإتصالات مثلما بدا الممثلين الإنجليز يؤيّدون تطلعات الجبليّين. وكتب المؤرّخ الأبخازي الشهير في الحقبة السوفياتية، البروفيسور جورجي دزيدزاريا (Georgy Dzidzaria) في بحثه الرّشيْمي، “المهاجرين ومشاكل التاريخ الأبخازي في القرن التاسع عشر”: “في أغسطس /آب من عام 1861، خاطب شيوخ الوبيخ إسماعيل بركاي-إبا دزياش (Izmail Barakai-ipa Dziash) وحاجي كرينتوخ-برسيك (Kerentukh-Berzek) القنصل البريطاني ديكسون (Dixon) في سوخومي من خلال رسالة بواسطة النبيل السادزي أبيش سامح (Abich Samekh). طالب الشيوخ القنصل لفت انتباه الحكومة البريطانية إلى أن الجيوش الروسية كانت تتعدى على استقلالهم وأن الجنرال الروسي يفدوكيموف (Yevdokimov) كان يحاصر وطنهم. بعد فترة قصيرة، أصدر المشاركون في اجتماع للمجلس (المعروف أيضاً بالمؤتمر الحر الأعلى) مرسوماً لإيفاد بعثة خاصة إلى القسطنطينية وباريس ولندن لطلب الحماية. ومن أجل تغطية النفقات التي ترتبت عن المهمّة، كان مطلوبا من جميع الأسر التي تعيش بين توابسه وأدلر التبرع بالمال لتمويل السفر إلى أوروبا. وترأس البعثة إسماعيل دزياش نفسه…”
تم تعيين ما سمي باللجنة الشركسية في ذلك الوقت في إنجلترا. أصبح ساسة وزعماء آخرين أعضاء في اللجنة، لكن الحكومة البريطانية كانت مجبرة على البقاء على الحياد، لأنها لم تكن ترغب في بدء صراع عسكري مفتوح مع روسيا. ونتيجة لهذا الموقف، أصيب أعضاء البعثة الشّركسيّة الّذين وثقوا من سماحة بريطانيا العظمى بخيبة أمل شديدة. وتردّد أن البعثة لم تتلق سوى مساهمات متواضعة لتغطية نفقات السفر. وأعقب فشل البعثة الدبلوماسية للشراكسة في لندن إخفاقات مماثلة في باريس والقسطنطينية. ومع ذلك، فإن المبعوثين البريطانيين وخصوصاً الأتراك في غرب شركيسيا حاولوا الحفاظ على آمال الشراكسة كبيرة. كانت رسالتهم أن القوى الأوروبية سوف تشارك بعد دخول الجيوش القيصرية شركيسيا المستقلة – كانت لا تزال- آنذاك ، وسوف توفر الدعم ليس فقط بالذخيرة، ولكن أيضا بالرجال. وكما بينت التطورات اللاحقة، كانت هذه وعوداً فارغةً لا غير. أدركت الحكومة الروسية ذلك حتى في وقت سابق، لذلك شرعت في تنفيذ خطة الهجوم التي اقترحها الجنرال نيكولاي يفدوكيموف (Nikolai Yevdokimov).
خطة يفدوكيموف واستئناف الحرب ضد الشراكسة
نظراً لعدم تمكّن روسيا من أن يكون لها قواعد عسكرية على البحر الأسود بسبب شروط معاهدة باريس لعام 1856، قام القادة الرّوس بتغيير استراتيجيتهم العسكرية لتأكيد استعادة السيطرة على الشراكسة من خلال عمليات برية في غرب القوقاز بدلا من مهاجمة معاقل المقاومة القويّة على سواحل البحر الأسود والمرتفعات المجاورة لهذه المناطق. بدلا من ذلك، طوّر يفدوكيموف خياراً آخر. وكان جوهر خطته حصار المناطق الشركسيّة والأبخازيّة الغربيّة غير الخاضعة. وتقدّمت قوات قوزاق الكوبان ووحدات الجيش الروسي النّظاميّة نحو الشركس وأسرعت في إقامة خطوط محصنة جديدة، والضغط تدريجيا على المناطق الشركسية الآهلة بالسكان، وإجبارهم على التراجع الى الوراء باتجاه ساحل البحر الأسود. ووفقا لهذه الاستراتيجية سيصبح الجبليون محرومون من الطاقة البشرية والإمدادات الغذائية لمنعهم من مقاومة انقضاض القوات الروسية بفعالية. ولتنفيذ هذه الخطة، استولت الجيوش الروسية على سوخومي (Sukhumi) وجاجري (Gagry) على الشاطئ الجنوبي الشرقي للبحر الأسود. على الساحل الشمالي الشرقي للبحر الأسود، قاموا باحتلال مينائي أنابا (Anapa) وتسيميس (Tsemess) (الذي يعرف الآن باسم نوفوروسيسك { Novorossiysk}). لعبت الحاميات المرابطة في هذه المعاقل دور السندان، بينما كانت الجيوش الروسية التي تقدمت من المنحدرات الشمالية من سلسلة القوقاز الرئيسيّة تلعب دور المطرقة. وقد تم دعم القوات الروسية المتقدمة في هذه العمليات من قبل الخطوط المحصّنة المعروفة باسم بلوريشنسكايا (Belorechenskaya) (سميت بذلك نسبة إلى نهر بيلايا) وأدغومسكايا (Adagumskaya) (سميت بذلك نسبة إلى نهر أداغوم).
من أجل تعطيل الخطوط البحرية للتواصل بين قوى المقاومة الشركسية والسكان المدنيين من الشركس الذين يقطنون على طول ساحل البحر الأسود، والتي تضمنت القبائل الغربية الأبخازيّة سادج (Sadz) وجيغيت (Jigets) فضلا عن مؤيدين في الأناضول التركية، وجاب الأسطول الروسي بشكل مستمر طول الساحل الشرقي للبحر الأسود سعياً لاعتراض خطوط اتصالاتهم وطرق الإمداد. كان إبحار ودوريات الأسطول الروسي في هذه المناطق خرقاً لمعاهدة باريس. إن فشل بريطانيا وفرنسا في تطبيق هذا الجانب من المعاهدة ساعد روسيا إلى حد كبير في استراتيجيتها للاحتلال. اعترضت القوات البحرية القيصرية باستمرار الإمدادات التي تدفقت على الشراكسة من على الساحل التركي، وقام قادة القوات الروسية مرارا وتكرارا بالإنزال في خلجان ومصبات أنهار مناسبة من أجل حرمان القوات الشركسية من الإمدادات التي كانت تشتد حاجتها إليها. رأسَ هذه العمليات البحرية الباحث الروسي المعروف في القطب الجنوبي، الأدميرال ميخائيل لازاريف (Admiral Mikhail Lazarev)، الذي تم تعيينه مسؤولاً لأسطول البحر الأسود. في وقت لاحق، تم إطلاق إسمه لازاريفسكي (Lazarevsky) على إحدى المقاطعات الأربع في سوتشي، والثلاثة الأخرى هي تسنترالني (Tsentralny)، وخوستنسكي (Khostinsky)، وأدلرسكي (Adlresky)، وتحتل جميعها 150 كيلومترا على طول الساحل.
عنصرا هاما كان في الإستراتيجية الروسيّة هو دور الأبخازي الموالي لروسيا دوق ميخائيل شيرفاشيدزي (Duke Mikhail Shervashidze) (Chachba)، الذي نصح القيادة الروسية العليا واقترح بأن مفتاح تدمير المقاومة الشركسية كان الإستيلاء على إثنتين من النقاط الهامة الأخرى في مناطق الوبيخ والشابسوغ ومن ثم التقدم لاجراء مفاوضات مع هذه القبائل الهامّة من الشركس من أجل تقويض تماسك المقاومة. فيما يتعلّق بتقاسم الجنسية مع هذه الشعوب، توقّع شيرفاشيدزي أنه إذا أعلن الجبليين الولاء لروسيا، فإن هذه الأخيرة لن تبيدهم وترحلهم من وطنهم. الدوق، مع ذلك، لم يدرك حقيقة ان الشراكسة الغربيّين قد أثاروا غضب الغرباء كثيراً، ليس لأن تلك التفرعات من الشركس كانت عنيدة بشكل خاص، لكن لأنها شغلت أراضٍ كانت خصبة بشكل خاص ومفيدة للغاية لموسكو من وجهة نظر جيوسياسية. كان القيصر بحاجة لهذه الأراضي لكنّه لم يكن يريد سكانها المحبين للحرية. الدّوقيّة الأبخازيّة نفسها تم إلغائها أيضا مباشرة بعد انتهاء الحرب في عام 1865. وتجدر الإشارة إلى أن الجبليين كانوا قد أخذوا على حين غرّة من هذه التطورات. الكثير من القبائل لم يعتقدوا أن روسيا ستكون قادرة على استعادة قوتها العسكرية بسرعة بعد حرب القرم.
خلال الفترة من 1860-1863، أبيد جزئيا كلاً من القبيلتين الشركسيّتين البجدوغ والناتخواي وتم ترحيلهم جزئيا إلى الإمبراطورية العثمانية. كان الناتخواي مثبطي العزيمة بعد مرور فصلين من الشتاء ومعاناتهم من الجوع يرافقهما الأوبئة ووفاة زعيمهم الكبير سفربي زان (Seferbey Zan). بحلول شهر أغسطس/آب من عام 1862، لاحظ الجنرال غريغوري أوربلياني (Grigory Orbeliani) أن القوزاق قد سيطروا على معظم أراضي الناتخواي وأن الجبليين “كانوا مقيدين إلى أبعد الحدود حيث أنّه في الواقع من الصعب العثور على إعالة لهم في الأرض المتبقية” (The Acts of the Caucasus Archeogeographic Commission. Volume: XII, part II, p. 844).
وفي الوقت نفسه، فإن الشابسوغ، والوبيخ، والسادج والجيغيت كانوا لا يزالوا يبدون مقاومة يائسة ضد الهجوم البري الروسي. شارك الشابسوغ في معركة تحدي بعدما دخل الجنرال بابيتش (Babich) أراضيهم. وأشار مؤرّخ روسيا القيصرية سيميون إسادجي (Semyon Esadze) في كتابه، إخضاع غربي القوقاز وانتهاء حرب القوقاز (موسكو، 2004)، بيّن أن هذه القبائل كانت مستعدة بشكل جيد لخوض القتال في حرب عصابات في الجبال التي تغطيها الغابات و”يمكنهم بشجاعة وثبات الدفاع عن أنفسهم في أرضهم”. صعّد الوبيخ والجيغيت من هجماتهم على الحاميات الروسية الساحلية ردا على هذه الهجمات. كتب الحاكم العام لكوتايسي (Kutaisi)، الجنرال جورجي إريستوف (Georgy Eristov) (المعروف أيضاً إريستافي { Eristavi}) في تقريره إلى الجنرال بارياتنسكي (Baryatinsky): هؤلاء الجبليّين يظهرون باستمرار على المرتفعات المجاورة لقلعةجاجري (Gagry) ويبدو أنهم يراقبون ما يجري داخل الحامية بغرض الاستفادة من أي حدث خاطئ في جانبنا …” وعلاوة على ذلك، استخدمت قبائل الشركس والوبيخ الساحليّين سفن التجديف الشّراعية الصغيرة في عملياتها. كتب رئيس حامية جاجري (Gagry) في أحد تقاريره: “في سوتشي، يجهّزالجبليّون ما يصل الى 25 من قوارب التّجديف أو القوارب الشراعية بقصد إنزال القوات بين جاجري (Gagry) وكيب بيتسوندا (Cape Pitsunda)…” حيث طلب قائد الحامية تعزيز هذه النقاط.
على الرغم من هذه الجهود، فإن وضع الشركس، وأقاربهم في العرق الوبيخ والقبائل الأبخازية الغربية أصبحت تدريجيا أكثر يأساً يوماً بعد يوم. الجوع والأوبئة والقذائف الاسطوانيّة الروسية حصدت المحصول الوفير في هذه الأراضي. حتى الآن، واصل وكلاء الدولة العثمانية والمغامرين الأوروبيين الذين تظاهروا بأنهم ممثلون عن انجلترا، واصلوا إقناع الجبليّين بقرب وصول المساعدة الوشيك من الغرب. لقد حقّقت جهودهم نجاحا كبيرا حتى بين الجبليين الّذين كانوا مطوّقين تماما من جميع الجهات. تحققت في الواقع وعود هؤلاء الناس في بعض الأحيان. يلاحظ جورجي دزيدزاريا حالة واحدة، على سبيل المثال، حيث يصف واحدة من هذه الحالات في بحثه: “…في أغسطس/آب 1863، تم إبلاغ قائد منطقة كوبان بواسطة التلغراف أن قارباً مع بارجة محملة بالذخيرة والعملاء، متوجّهين نحو الساحل القوقازي، قد غادرا من القسطنطينية. هذه السفن رست بالفعل على شاطئ الوبيخ [منطقة القبيلة] وحملت معها خمس مدافع، وصناديق مع الأسلحة والبارود وقذائف المدفعية، أيضا كان هناك على متن السفن ثمانية مغامرين. وقال هؤلاء الآخرين للوبيخ أن قوات كبيرة كانت في طريقها لنجدتهم، وأنهم سوف يستعيدون كل أراضيهم، في حين ان روسيا لن تستطيع التعامل مع الوضع كما انها ستواجه قتال كل القوى” (Dzidzaria, “Muhajirs and the Problems of Abkhaz History of the 19th Century”).
الجمعية الحرة الكبرى
بتشجيع من هذه الوعود الخادعة (وليست المرة الأولى) وبدون التفكير في أي وسائل أخرى للبقاء، قرر جبليو غرب القوقاز بحزم حماية استقلالهم من خلال إنشاء جمعية برلمانية. في السابق، وفي عام 1861 أنشأ الوبيخ والشابسوغ والأبزاخ ما يشبه هيئة برلمانية تم تصميمها لتنسيق جميع أنشطتهم ضد الغزاة. اتّخذت هذه الهيئة عنوان المجلس (يعني مكان الإجتماع باللغة العربيّة) أو الجمعية الحرة الكبرى، كما هو معروف عنها في الأدب الشركسي القديم. قاد رؤساء الوبيخ الجهود في صياغة قوة موحّدة تضم الشركس وقبائل الأبخاز الغربيين ومارس هؤلاء القادة سلطة على مستوى عالٍ الى حد بعيد.
تذكر الشركس على نطاق واسع الشيخ والزعيم الشهير حاجي برسيك (Haji Berzek) الذي كان عم المذكور أعلاه حاجي كرنتوخ برسيك (Haji Kerentukh Berzek). أقسم حاجي برسيك انه سوف يرتدي سروال نسائي إذا دخل كافر واحد أراضي الوبيخ خلال حياته. الشيخ كان في الواقع قادرا على الوفاء بوعده، حيث حدث الغزو الروسي لأراضي الوبيخ فقط بعد وفاته. كان للوبيخ وحلفائهم أيضا قادة عسكريين بارزين آخرين، لكن لم يكن جميعهم حازمين في قرار القتال حتى النهاية. كتب سيميون إسادجه (Semyon Esadze)، بأنّ على سبيل المثال، جزءا من قبيلة سادج (Sadz) التي كانت تحت نفوذ دوقها رشيد جيشبا (Duke Rashid Gechba) بقي لا يستجيب لدعوات المجلس لفترة طويلة (Esadze, The Conquest of the Western Caucasus and the Ending of the Caucasus War, Moscow, 2004).
تقييماً للإجراءات الّتي اتّخذها المجلس، أشار جورجى دزيدزاريا (Georgy Dzidzaria) في الدراسة المذكورة سابقا ما يلي: “لا بد من الإشارة إلى أن ‘دستور’ الوبيخ الذي تم إحداثه في زمن الخطر الجسيم بدى بأنّه “نموذج” لحكم ديمقراطي، فقط من خلال الوهلة الأولى. في المقام الأول، كان الدستور مشروعاً للإصلاحات الإجتماعية. فعلى الرغم من أنه أوضح أعلى مستوى من فكر الجبليين السياسي، إلا أنّه كان موهِم في الوقت نفسه. لم يتمكن المجلس من التغلب على الخلافات القبلية الشركسيّة ومقاومتهم المجزّأة. في حين أن ذكر شعار الغزوات (الحرب المقدسة) كان غير مجدٍ … لأن محاولة التوفيق بين التناقضات الاجتماعية الداخلية كان غير ذي جدوى”.
مبنى المجلس، وهو منزل كبير من قطع الأشجار، أنشئ في وادي نهر بشاخ (river Psakhe)، على مقربة من نهر سوتشي، وليس بعيدا عن المكان الّذي ستعقد فيه ألعاب سوتشي الأولمبية لعام 2014 في فبراير/شباط القادم. إلى جانب الوبيخ، شارك أيضاً في أعمال البناء الأخشيبسو (Akhchipsou) والسادج (Sadz) والجيغيت (Jigets). تألفت الجمعية من 15 عضوا، والعلماء والزعماء الأجلاء. ووفقا لمرسوم المجلس، تم تقسيم كل المنطقة إلى 12 قسماً ولكل واحد منهم كان إثنان من “المشرعين”، مفتي وقاضي، الذين كان عليهم إيصال قرارات الجمعية الكبرى للشعب وللقادة المحليين. تم فرض التجنيد العسكري، مع صدور مرسوم يستدعي خمسة خيالة مسلحين من كل 100 أسرة، ونظام للضرائب للإستخدام في المقام الأول لأغراض الدفاع.
اعتمدت الجمعية الحرة الكبرى أيضا رمزا رسمياً، وهو العلم الشركسي – ذو ثلاثة أسهم متقاطعة مطرزة بخيوط الذهب في وسط مساحة خضراء، و 12 نجمة مطرزة أيضاً بخيوط الذهب وضعت فوق السهام. اللون الأخضر للعلم هو رمز لتمسك الشركس بالإسلام. أظهرت السهام المتقاطعة وحدة القبائل الّتي لم تقهر. إثنتا عشرة نجمة رمزت إلى الإثنتا عشرة منطقة الّتي أقرّها المجلس في المنطقة. حاليا، تتّخذ جمهورية أديغيا هذا العلم رمزها الرسمي. حافظ المجلس أيضاً على اتصالات مع اللجنة الشركسية في القسطنطينية، التي أنشئت من قبل المهاجرين (اللاجئين) الشركس في تركيا بعد اللجنة الشركسية في لندن. لكن لم تكن جهود الجبليّين لتغيّر من الخطّة القيصريّة للغزو الممنهج للقوقاز. ووفقا للمؤرخ القيصري روستيسلاف فاديف (Rostislav Fadeev)، كانت الحرب في السنوات الأربع الأخيرة “حول طرد الجبليّين من أحيائهم الفقيرة وتوطين الرّوس في غرب القوقاز”. واستمرت الحرب بضراوة وبلا هوادة. أحرقت القرى الشركسية بالمئات؛ دمرت الحقول ومخازن الأغذية. وأعيد توطين أولئك الذين عبرّوا عن ولائهم للإمبراطورية الروسية في المناطق التي كانت غير صالحة للسكن وكانوا يخضعون لحكم الضباط الروس. وأولئك الذين لم يستسلموا إما تمّت إبادتهم أو إرسالهم إلى الشواطئ الصخرية لساحل البحر الأسود للترحيل اللاحق إلى الإمبراطورية العثمانية. كاتب آخر، هو الكسندر جينز (Alexander Geins)، الذي كان شاهد عيان على الأحداث الفظيعة في ذلك الوقت حيث أشار: “في أيام مشرقة، غالبا ما حجبت الشمس بسبب [الضباب الدخاني الآتي من] الحرائق الّتي لا تُعد ولا تُحصى…”
حدثت نقطة تحول رئيسية في الحرب في عام 1863. في 19 يونيو/حزيران 1863، الجنرال نيكولاي كوليوباكين (Nikolai Kolyubakin) – حاكم كوتايسي، أنزل قواته في مصب نهر سوتشي وألحق ضرراً ذو طابع معنوي من خلال إحراق مبنى المجلس. كان توغل كوليوباكين أيضا لأغراض عسكرية وتكتيكية، وتحديداً من أجل سحب قوات الشركس والوبيخ بعيداً عن منطقة كوبان. التاريخ احتفظ بأسماء الخونة الشركس الّذين خانوا شعبهم وشاركوا في الحرب ضد اخوتهم. وكانوا الدوق الأبخازي ميخائيل شيفرنادزه والدوق تسانبا من الجيغيت.
نقل عن: موقع “الناجون من الإبادة الجماعيّة الشّركسيّة” على الفيسبوك