قراءة في تراث الرقص الشركسي
بقلم: الدكتور عادل عبد السلام
دفعني ما قرأته من تعليقات على ما نشرتُه من عدم تحبيذ الفتاة الشركسية رفع ذراعيها لأعلى من مستوى كتفيها أثناء الرقص، إلى تعريف الغيورين على ثقافتهم وفولكلورهم العريق، ببعض جوانب فن الرقص الشركسي الأصيل، الذي يعود في جذوره لأكثر من 3000سنة مضت، وبما لحقه اليوم من شوائب ومستحدثات وبدع مشوهة يصنفها مؤيدوها في قائمة التطور والحداثة.
ففي البداية لابد من الإشارة إلىضرورة التفريق في الأمر بين الرقص الشركسي الشعبي والأهلي الممارس في المناسبات في القرى، وأحيانا في المدن إن سمحت الظروف والأوضاع بها من جهة، والرقص الفني الاستعراضي الذي تقدمه الفرق الفنية الشركسية على خشبات المسارح وخارجها من جهة أخرى.
أبدأ بأنشودة ساحة رقص خودمظ ( Хъудымыжъы иуджыпI)، ذات الرقم 68 والصفحة 249 في المجلد الأول من الملاحم النارتية الشركسية. للكاتب النارتي (حَدَ غاتلئه أسكر). ميه قواب 1968. التي تروي أن الحداد خودمظ زميل تلبش إله الحدادين (Лъэпщ) كان ذا قوة جسدية جبارة، وراقصاً ماهراً. وكان قادراً على حمل سبع عربات مملؤة خشباً على كتف واحدة. وفي إحدى المرات كان عائداً من الغابة حاملاً سبع عربات من الخشب، حين سمع غناء الجميلة تئاتئرخوТIатIрыхъу، فما كان منه إلا الرقص على وقع غنائها حاملاً زنة العربات السبع على كتفه في دائرة حفر طريقه فيها مخلفا في وسطها تلة مرتفعة، تشاهد اليوم في بلدة (قونتشوقوحابل(Къунчыкъохьабл وتعرف بتلة خودمظ.
فالرقص عند الشركس قديم قدم حضارتهم، مارسه الأرباب وأنصاف الآلهة كما الإنسان. لكنه لم يكن في يوم من الأيام للمتعة واللهو وإثارة الشهوات الغرائزية، بل كان ومازال لغة تواصل وتعبير عن الرغبات والأفكار الأخلاقية بالحركات والإشارات الجسدية الراقية. وكان في البدايات عبادة وابتهالات للأرباب لتدرأ عنهم أخطار الطبيعة والكائنات الشريرة، ولتجلب لهم الخير والبركة، مثلهم في ذلك مثل أقوام الحضارات الأخرى في العالم القديم. فمن الرقص الطقسي الدائري حول الأشجار المقدسة إلى التضرع إلى رب الغابات ورب الرعود لحمايتهم من الصواعق:( Елэ, Елэ..ти чылэ укъемыу…). وإلى طلب الغيث…تطور الرقص عند الشركس تطوراً عجيباً رافق مراحل تطورات الحياة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية بجميع مظاهرها عبر ألاف السنين من تاريخهم الطويل، إلى أن وصل الدرجة الرفيعة التي بلغها اليوم، والتي تلقى الثناء والإطراء والإعجاب من قبل كل من استمتع بمشاهدة الرقص الشركسي أو كتب عنه في شتى أنحاء العالم. كما أصبح مصدراً لفنون الرقص لأقوام كثيرة من جيران الشركس وغيرهم. ولن أتطرق إلى كل هذا، بل أقتصر في حديثي على جوانب في شأن الرقص الشركسي لابد من الإحاطة بها من قبل الغيورين على الثقافة الروحية/ الفنية والفولكلور الشعبي القومي…ولمن أضحت معارفه عنها ضبابية أو لم يولها الاهتمام أو العناية الكافية. على الرغم من رغبته الأكيدة في مشاهدة شتى أشكال الرقص الشركسي وفيديوهاته التي تحفل بها وسائل النقل والتواصل العصرية.
الرقص الشركسي ليس رقصاً وليس لعباً كما يفهم من ترجمة كلمة (الحفل= دجَكَوДжэгу)، إذ الرقص في الأصل هو اسم لطقس أو عبادة تعرف بـ (التوسل إلى الرب = تحهَ تلؤ= (ТхьэлъэIу، وهو عبارة عن حركات ولوحات وشعائر ابتهاليه مرفقة بأدعية وترانيم طلب الإنسان العون والرعاية والحماية والبركة والنعمة من الأرباب الافتراضيين (شخصيات أرباب البانتيون الشركسي غير مجسدة بأصنام أو أوثان أو أشكال مادية معينة)….. وهي طقوس مارسها الشركس في مواسم ومناسبات كثيرة معينة، مثل رأس السنة، والاعتدال الربيعي، والخروج للفلاحة، ونهاية موسم الحصاد، والصيد، وتقديس الأشجار والغابات، ومناسبة خروج الفرسان للحرب، وحدوث الصواعق والرعود والأمطار، ومباركة الخصب، والمواشي والأنعام وغيرها.
فما ندعوه اليوم رقصاً هو خلاصة مجسِدة لثقافة أمة ذات حضارة قديمة عمرها آلاف السنين، خبرت تكاليف الحياة ومنجزات عهود : ما قبل الوثنية، فالوثنية وتعدد الأرباب، ثم تعاليم الأديان التوحيدية. علماً أن الاعتقاد بإله واحد قادر على كل شيء، ظهرت بوادره مبكرة عند الشركس باعتقادهم بـ (الرب الكبير) (تحه شهوَر (Тхьэшхор، قبل وصول المسيحية والإسلام إليهم بأكثر من ألفي سنة. ولقد ترافق التدرج الاجتماعي والاقتصادي والتطور الحضاري في تاريخ الشركس، مع الترقي الروحي للطقوس والشعائر الروحية والدينية التي شذبتها المؤثرات الحياتية، و(قولبتها) الضرورات الاجتماعية والحيوية بممارسات شعبية مجبولة بمجمل حياة الأمة لتتحول وبالتدريج إلى وسيلة تعبر عن مخزون أمة عاشت مداً وجزراً في وجودها وحريتها، وخاضت غمار حروب وصراعات لا تحصى عبر تاريخها الطويل… وسيلة تعرف اليوم بالرقص الذي يجسد خلاصة الحياة الاجتماعية والأخلاقية والتربوية والديناميكية واللياقة البدنية، والمشاعر الروحية والأحاسيس الإنسانية والعواطف، وكل ماغرسته أساسيات (الأديغاغة Адыгагъэр) في الإنسان الشركسي، والتي أختصر مفهومها بتمثيلها لكل راق و رفيع المستوى من السلوك وسمو الأخلاق والتعامل مع الآخر بصدق واحترام، وبالشجاعة و القوة والاعتزاز والحشمة والحياء و الأدب والخفر وكل ما يوصل إلى المجتمع الفاضل والمدينة الفاضلة….
ومن المعروف أن رقصات أقوام ما وراء القفقاس (أذربيجان، جورجيا، أرمينيا) ومن كان وثيق الصلة تاريخيا بهذه الأقوام (الأبخاز والأوسيت)، وكذلك رقصات القوزاق في الشمال، تأثرت كلها بالرقصات القفقاسية الشمالية ومنبعها الأصلي وهو الرقص الشركسي، فامتزجت بما وصلها من أساليب رقص جنوبية ومشرقية من طورانية وفارسية وهندية، تميزها حركات الجسم وكافة أعضائه. هادفها جلب اللهو والمتعة وإثارة الشهوات والغرائز الجسدية لدى الرجال. من بينها ما ذكرناه من رفع ذراع الفتاة لأعلى من الكتف. وعدم رفعه في الرقص الشركسي كيلا يكشف عن الإبط، بحيث تُظهر فيه الفتاة عدم الترفع والتعالي على الرجل،. والبعد عن الخلاعة وإثارة الغرائز، ومنقادة لحركات يد الشاب بذراعيه المرفوعتين فوقها كنسر يقودها ويحميها.
أنا من دعاة التطوير إن دعت الضرورة شريطة عدم المساس بأساسيات الثقافة الشركسية. وعدم النقل عن الغير نقلاً أعمى، أو صياغته بما لا يتلاءم مع مقومات ثقافة الأمة. إذ لا أرى حرجاً كبيراً من الاستمتاع بلوحة رقص شركسي لفرقة فنية، تطلب تنفيذها رفع سواعد الراقصات لأعلى من مستوى الكتف…..إذ كان مثل ذلك يحصل في الرقصات الجماعية الخاصة بالابتهال للأرباب. على أن يعبر رفع الأيدي عن التوسل والتضرع الساميين…
ومن المؤسف ان وباء النقل المشوه للتقاليد والأعراف أصاب اٌقوام وشعوب التخلف وشراكسة الشتات بل وأبناء جلدتهم في الوطن الأم أيضاً، واسمحوا لي أن اعتبره وباء العصرنة والعولمة العابر للحدود، ويكتسح ثقافات شعوب أولى الحضارات.
فكثيرون هم أولئك الذين يقيمون اليوم حفلات زفافهم في المدن في صالات الفنادق الفخمة وغيرها من منطلق التبجح والتظاهر والتفاخر والزهو الأجوف. كما يرى أغلب هؤلاء أن صالات الجمعيات الشركسية لا ترضي غرورهم فهم لا يرون من التراث الشركسي أبعد من مدق الحافر ولا يعرفون حا من سا، بل وجلهم أجهل من فراشة في التقيد بالعادات الشركسية. وفي مثل هذه الحفلات قد تسمع بعض الموسيقا والرقص الشركسي… لكنك قد تفاجأ بفتاة …بل وحتى بسيدة شركسية يرتفع في عروقها ادرنالين الخروج على العادات الشركسية باندفاعها الصارخ إلى ساحة رقص الصالة، تخلع وتتلوي مترجرجة أردافها… في صورة مزرية يكملها تصفيق بناتها وأبنائها الذين أنشأتهم على هديها وبحضور زوجها الذي قد يصاحبها في رقصها. والأدهى من ذلك ان تُصدم بفتاة تفرض نفسها على الحضور بمبادرة فردية برقصة شركسية عنيفة خاصة بالشباب لا تتقيد فيها بأية أصول أو قواعد، حافية وشبة عارية من الأسفل ومن الأعلى ومساحة المكشوف من جسمها ضعف المستور منه، لتقدم صورة مخزية عن نفسها عبر الرقص الشركسي ، تشوه ليس الرقص الشركسي بل كل رقص تراثي أصيل لكافة الشعوب المتحضرة. ، يصفق لها الحضور للياقتها الجسدية وبهلوانية حركاتها وقفزاتها ورفساتها. هل لك أن تتصور هذه الصورة لعرس شركسي يحمل من التراث كلمة (عرس شركسي) فقط…
ذكر البعض ان حكماء الشركس مثل سلانتشري دكَو (Сэлэнчэри Дэгу) في الغرب الشركسي، وقزانقوه جباغ (Къэзаныкъо Джэбагъ) في الشرق الشركسي، أشهر واضعي أسس الأديغة خابزة وحكماؤها، قالوا بتبني التغيير نحو الأفضل المتماشي مع الظروف والمكان والزمان…كلام سليم لكنه قول مبتور، إن لم يحظ بإجماع المجتمع واستحسانه… إذا كان نحو الأفضل. والمثال الرائع على هذا التغير والتطور المدروسين، هو ما أراه من مستحسن التغيير والتطوير في الرقص الشركسي، في تقديري، هو ما تقوم به الفرق الفنية الرسمية والمحترفة في الوطن الأم، ومعروفة في العالم، والناشئة في بلدان الشتات، ومدرائها ومشرفيها، من تقديمها لوحات فنية رائعة تتطلب بعض التجاوزات الخادمة لإيصال الرسالة. فهي تكلم المشاهد بلغة رقص يروي قصة حضارة سامية وأخلاق رفيعة. بحيث يكون الرقص وسيلة نقل للأفكار والمشاعر وليس مجرد حركات رقص للهو وللمتعة الآنية. وتأتي فرقتا نالمس وقبردينكا اللتان تأسستا في ثلاثينات القرن الماضي في رأس القائمة التي لا تمثل جمال ورقي فن الرقص الشركسي في أسمى معانيه فحسب، بل وتمثل الأمة الشركسية ثقافة وتاريخاً وحضارة، ولعل ما قدمته فرقة قبردينكا وعروضها ولوحات رقصاتها في مدينة موسكو سنة 2015 تحت عنوان:
(الحرية لشركيسا) freedom for Circassia))، خير ما أذكره كمثال على ما تقدم.
مرجعان يستحقان القراءة:
-Beshkok, M., Adigeiski folklorni tanets [Adigean Folkloric Dances], Maikop, 1990الرقصات الفولكلورية اللأديغية – ميه قوابه 1990. .
-Narodnie tantsi adigov [Folk Dances of the Circassians], Nalchik: Elbrus Book Press, 1992. رقصات الشركس الشعبية – نالتشيك 1992.
(يتبع: الرقص الشركسي في المهاجر، الأصول والقواعد: نموذج سورية).
عادل عبد السلام (لاش)
دمشق 6-9-2018.
المصدر: منقول عن فيسبوك