حضرات القُرّاء الأعزاء،
يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسيا: ولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد
عادل بشقوي
16 يوليو/تموز 2021
الإستقلال الشركسي
الفصل الثاني
الإمبراطورية الروسية ما بعد القيصرية (2)
في أوقات معينة، لم تخل الأنشطة الشركسية وحتى أنشطة باقي شعوب وأمم القفقاس من محاولات التدخل الأجنبي، حتى من أساليب التطفل التي تسعى مختلف الأطراف إلى القيام بها لفرض التأثير على الجهود المبذولة من أجل الوصول إلى وضع قيام دولة خاصة بهم.
وبناءً على ذلك، قررت الحكومة العثمانية إقامة منظّمة رسمية من كبار المسؤولين لهذا الغرض. تم تعيين المشير فؤاد باشا (Fuad Pasha) {Thuga} رئيسًا إلى جانب عضوية الجورجيين الأمير ميخائيلي (Mehaelli) وتوغريدزي (Togridze)؛ والبروفيسور عزيز مكير (Aziz Meker) والدكتور عيسى روحي باشا (Isa Rowhi Pasha)، وكلاهما من الشركس، وسالم بهبودوف (Salem Behbudof)، وهو أذربيجاني. وكانت اللجنة مخولة بمحاولة تحرير القفقاس. اتصلت بالدول العظمى وقدمت مذكرات لطلب المساعدة. إلا أن بعض أعضاء اللجنة انسحبوا ولم يبق منهم سوى أعضاء من شمال القفقاس. كان انسحاب العضوين الجورجيين بسبب الوعود الألمانية بالمساعدة، بينما كان للأذربيجانيين شعورا بحسن النية تجاه الاتراك.185
ومما يؤسف له أن محاولات التدخل التركي لم تظهر نوايا بريئة وصادقة لأنها لم تكن حرة في زمن الطموحات التوسعية. لقد كان ذلك متوافقا مع الأجندة التركية التي تسعى للسيطرة على المناطق الواقعة بين آسيا الصغرى وآسيا الوسطى عبر القفقاس.
فعلى الرغم من الانسحابات، استمرت المنظمة القفقاسية في عملها ومع عقد مؤتمر لوزان الذي كان في عام 1916؛ وحظيت المنظّمة بالفعل بإعجاب واسع كمنظمة أيّدت شعارات وتقاليد (الشيخ) شامل ومثلت مهمته التاريخية. بالنسبة للدولة العثمانية، فقد رعت هذا التنظيم، لأن نجاحه يخدم هدف {جمعية الإتحاد والترقي} التي تهدف إلى تشكيل دولة ترينمان (Trainman State) الكبرى عبر القوقاز إلى تركستان، وضم القفقاس إلى تلك الإمبراطورية، وهي التي كان يقطنها ملايين المسلمين.186
تساهم الظروف المتغيّرة في بعض الأحيان في جعل الدول المؤثرة تُظْهر دعمها لبعض الشعوب أو الأمم للتمتع بحريتهم واستقلالهم.
علاوة على ذلك، كانت القوى الأوروبية الكبرى مهتمة بالقوقاز بجدية، لأنها توقعت تفكك روسيا القيصرية نتيجة الحرب العالمية الأولى، مما يعني حدوث انقلابات كبيرة وتغيرات مفاجئة في روسيا وأوروبا نفسها. وهكذا أصبحت مسألة القوقاز من أهم مشاكل العالم. غير أن نهاية الحرب العالمية الأولى وظهور البلاشفة غيّر المسار بطريقة وجدتها القوى الأوروبية غير مرغوب فيها.187
عندما تصل المصالح المتضاربة إلى نطاقات غير متسامحة من قبل أحد الطرفين، تصبح الأمور أكثر تعقيدًا. وبناءً على ذلك، تصبح الأمم الصغيرة ضحايا وستفقد كل ما تم إنجازه للتمتع بالاستقلال وليس الرعايا الذين ينتمون إلى أي جهة. إن عدم التجانس بين العديد من الشركاء يجعل من المستحيل إنقاذ أي كيان. بسبب التأثيرات المختلفة على المشاركين في الاتحاد، وسيكون من المستحيل استمرار مثل هذا الاتحاد.
خلال ثورة 1917، تم تشكيل منظمتين مؤيدتين للوحدة في القوقاز: الأولى في الشمال والأخرى في الجنوب، حيث تشكلت في 19 أبريل/نيسان 1918، جمهورية ما وراء (جنوب) القوقاز الديمقراطية الإتحادية، حيث ضمت كل من جورجيا وأرمينيا وأذربيجان. لم تدم تلك الجمهورية طويلاً، بسبب زيادة التدخل الخارجي بعد إزالة السيطرة القيصرية القوية من ذلك الجزء من العالم. لقد تم حل الاتحاد بقرار تم اتخاذه في مؤتمر عقده ممثلو هذه الدول الثلاث، حيث أعلن تسيريللي (Tserelli)، ممثل جورجيا، بصراحة أن الاتحاد مستحيل لأن كل مجموعة من المجموعات الثلاث تعتقد أن بلادها يجب أن تعيش بشكل مستقل. وقد تم إعلان الحل رسميًا في 26 مايو/أيار 1918؛ وهكذا ظهرت ثلاث جمهوريات مستقلة: جورجيا وأرمينيا وأذربيجان.188
ولعل اتحاد ضحايا الاستعمار يجعلهم يشعرون بالقوة والقدرة على مقاومة القهر مرة أخرى. ربما يوافق جزء من الشركاء السابقين الذين يشعرون بوجود نقاط اتفاق وتطلعات بينهم على خلق مظهر آخر من مظاهر الوحدة. على ما يبدو، سيجعلهم يشعرون بالحرية والاستقلال حتى مع الشعوب الأخرى.
في 3 مايو/أيار 1917 عُقد مؤتمر لشمال القوقاز في تيريك كالا (Terk Kala) تقرر فيه الانفصال عن روسيا. في نفس العام تقرر تشكيل حكومة تعرف باسم ”الحكومة المؤقتة“. في العام التالي، وفي 2 مايو/أيار 1918، أسسوا كيانًا يعرف باسم جمهورية شمال القوقاز. كان مصير تلك الحكومة على عكس مصير الاتحاد الجنوبي، فهي لم تتفكك من تلقاء نفسها. فبدلاً من ذلك، كانت حكومة الشمال ضحية للعدوان الخارجي الذي قام به الجنرال دينيكين (Denikin)، الذي أخذ على عاتقه إحياء القيصرية الروسية، محاربًا كل من وقف في طريقه، سواء كان قوقازيًا أم لا.189
فالسياسات الروسية، ومنذ قيام روسيا، لن تنفذ إلا ما يهم وما يتوافق مع مصالحها. لم تراعي الأنظمة الروسية المتعاقبة حقوق المضطهدين إلا في حالات الضرورة القصوى. بعد ذلك، لم يكن الجنرال البريطاني يعلم أن الجنرالات والقادة الروس ليس لديهم أي ارتباط بأي اتفاق يتم إبرامه مع أي طرف. وعادة ما يوقعون الاتفاقيات ويقدمون التعهدات عندما يكونون في موقف ضعف.
وهكذا، باستعادة قوتهم، يستعيدون الطغيان. إنهم يتقلبون بسهولة لتحقيق طموحاتهم الاستعمارية والهيمنة: ”خدع دينيكين الجنرال طومسون، قائد القيادة العسكرية البريطانية في القوقاز، للاعتقاد بأنه يريد إبرام اتفاقية مع جمهورية القوقاز، التي كانت في حالة حرب مع البلاشفة، حيث ساعدها نيابة عن دول الحلفاء، ثم محاربة البلاشفة بمساعدة تلك الجمهورية“.190
من الضروري أن تكشف السياسات الروسية عن وجهها الحقيقي. اندلع صراع من أجل البقاء والسيطرة على ما تبقى من الإمبراطورية الروسية في ذلك الوقت. كان الروس البيض أكثر صرامة في كفاحهم ضد الشركس وشعوب القوقاز الأخرى. لقد عقدوا العزم على القضاء على أي اتجاه لاستقلال شعوب القوقاز تحت أي ظرف من الظروف. على الرغم من أن الصراع كان بين البلاشفة والروس البيض، إلا أن الروس البيض غيروا أولوياتهم. لقد حولوا كفاحهم ليكون ضد الشركس وشعوب القوقاز الأخرى.
ومع ذلك، فبدلاً من محاربة الجيش الأحمر، عدوهم المشترك، حشد قواته وركز كل جهوده على القتال ومحاربة القوقازيين أنفسهم، وسعى إلى القضاء على جمهوريتهم وإقامة نظام قيصري جديد في القوقاز. ومن خلال القيام بذلك، أعطى الجنرال دينيكين للبلاشفة الفرصة لتقوية سيطرتهم في القوقاز وتسهيل احتلالها، بعد أن فشل في الدفاع عنها، وبعد أن أساء استخدام الأسلحة والمواد العسكرية التي حصل عليها من البريطانيين. إلى جانب ذلك، حاول في كل مناسبة، أن يجعل القوقازيين يظهرون كمتعاونين مع الشيوعيين.191
كان على شعوب القوقاز أن يكونوا كبش فداء في جميع الحالات، حتى عندما كان الخصوم الروس يتقاتلون مع بعضهم البعض. ونتيجة لذلك فقدوا حريتهم واستقلالهم: ”لم يعارض الجيش الأبيض تقدم البلاشفة؛ اضطر دينيكين وحلفاؤه إلى إخلاء بتروفسك وداغستان والانسحاب إلى باكو. وهكذا اجتاح الشيوعيون القوقاز الّذي انتهى استقلاله نتيجة لذلك“.192
إن السياسات الروسية في التعامل مع الشعوب والأمم المستعمَرة معروفة للجميع بأنها مفيدة لهم.
ليس من المستغرب معرفة ذلك: ”في 6 أغسطس/آب 1990، خاطب بوريس يلتسين، رئيس جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، القادة الإقليميين في القفقاس فقال: {ساعد نفسك في الحصول على أكبر قدر ممكن من السيادة يمكنك تجرعه}. وهكذا بدأ ما أسماه غورباتشوف {استعراض السيادات} ومعه الانزلاق نحو فدرالية روسيا، التي أصبحت دولة مستقلة في ديسمبر/كانون الأول 1991“.193
حدث مثال على فشل روسيا وتراجعها في وقت ضعف في عام 1996. حوصر الجيش الروسي في الشيشان، حيث بدأ الروس في البحث عن مخرج.
أدى ما نتج عن ذلك إحباطًا واسع النطاق للقوات الفيدرالية، والمعارضة شبه الشاملة للجمهور الروسي للصراع الوحشي، إلى قيام حكومة بوريس يلتسين بإعلان وقف إطلاق النار في عام 1996 والتوقيع على معاهدة سلام بعد عام من ذلك.194
تم التوصل إلى اتفاق يعترف باستقلال الشيشان في المستقبل القريب. حيث تكون ممارستهم المعتادة هي المغادرة إثر ذلك والعودة في الوقت الذي يناسبهم، فقد حققوا بل وتجاوزوا هذا التوقع. لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً هذه المرة، حيث بدأت المؤامرات تتشكل لخلق الحجة. تم إعداد الشروط والمبررات وإطلاقها لإعطاء إشارة إلى حملة عسكرية أخرى لإعادة الاحتلال: ”أصبح فلاديمير بوتين، وهو ضابط سابق في الاستخبارات السوفيتية أو كي جي بي (KBG) وكان فعليًا غير معروف على نطاق واسع، رئيسا لوزراء روسيا الجديد في أغسطس/آب 1999، وفي غضون أسابيع قاد عملية عسكرية ضد المقاتلين الشيشان“.195
القاسم المشترك بين كل تلك الدول المُسْتعْمَرة هو أنها لا تشارك الروس في أصولهم أو تطلعاتهم أو أهدافهم القومية. احتل الروس واستعمروا بالقوة والجبروت كل جيرانهم وما وراءهم، وتمارس السلطات الروسية الخداع عندما تُجبر على التخلي عن أي مستعمرة أثناء الضعف الروسي. فتبدأ من جديد الاستعدادات والإجراءات الفورية للتغلب على العقبات التي واجهتها في أقرب فرصة معقولة. ثم يتم قمع الثورات أو حركات التمرد بالقوة المميتة والمدمرة.
إذا كان عليهم سحب قواتهم وحتى التوقيع على اتفاقية تعترف بحرية واستقلال دول معينة، فسيتم تجاهلها بل وحتى إلغاؤها عندما يتغير ميزان القوى لصالحها. سيتم تنفيذ إعادة الاحتلال عندما تكون الظروف مواتية لاستعادة أي مستعمرة. هناك العديد من الأمثلة التي حدثت مع بعض شعوب القوقاز ودول البلطيق والقرم وغيرها.
كان استقلال هذه المناطق التي كانت جزءًا من الإمبراطورية الروسية حدثًا تاريخيًا مهمًا، لكن مصيرهم لم يكن آمنًا. أعطت بعض القوى العظمى في الواقع اعترافًا {بحكم الواقع} و {قانونيًا} بهذا الاستقلال. كانت روسيا الحمراء، برئاسة لينين، من أوائل الدول التي فعلت ذلك، ولكن عندما أصبحت حكومة موسكو أقوى، سحبت اعترافها وبدات في الاعتداء على القوقاز، كما ذكرنا سابقًا.196
الأنظمة الروسية المتعاقبة عقّدت الوضع. لقد تبين أنها أزمة مزمنة، حيث وضع الروس وحشروا الشركس وغيرهم في موقف لا يحسدون عليه. لقد تم دمجهم في كيان واحد، تحت نير حكم روسيا، مرتبطين بأن يكونوا جزءًا من روسيا بغض النظر عن التطورات التي قد تكون. طالما أن هناك حكومة إمبريالية في روسيا، فإن النظام سيحاول الاستمرار في الاستيلاء على كل شيء لأطول فترة ممكنة. عندما انهار الاتحاد السوفياتي وحصلت خمس عشرة جمهورية على استقلالها، حافظت روسيا على سياستها الاستعمارية وأبقت عشرات الشعوب والأمم أجزاءً لما يُدعى فيدرالية.
عندما انهار اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، كان ما حدث هو إعلان خمسة عشرة {جمهورية} استقلالها وكان الاتحاد الروسي من بين أول من فعل ذلك. انتُخِب يلتسين رئيسًا للفيدرالية الروسية عندما كانت لا تزال جمهورية تابعة لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وعندما رأى الطريقة التي تسير بها الأمور، مضى قدمًا وأعلن استقلال روسيا عن الاتحاد السوفياتي و {وحدة أراضي} الاتحاد الروسي. كانت هذه النقطة الأخيرة هي السبب الأساسي وراء قرار يلتسين والقوات التي دعمته في ذلك الوقت إعلان استقلال روسيا في خطوة استباقية تهدف إلى وقف المزيد من التفكك.197
الأمة الشركسية كانت تعتبر وفقا للوائح قوميات الاتحاد السوفياتي السابق، واحدة من الشعوب والقوميات الأصيلة (thoroughbreds)، وهو النظام الذي كان يعتبر الوريث الشرعي للإمبراطورية الروسية، التي احتلت شركيسيا.
أقر تقرير مجموعة حقوق الأقليات في أوروبا حول ”حماية حقوق الأقليات والشعوب الأصلية في الفيدرالية الروسية: التحديات وسبل المضي قدما“ بالتفصيل ظروف المعاناة للمواطنين غير السلافيين من السكان الأصليين في روسيا. في 1. 3 الأقليات المرئية والضعيفة في التقرير هي دول،
تنص الفقرة 1-3 من التقرير، بشأن الأقليات المرئيّة والظاهرة على ما يلي:
لأغراض عملية، يجب التمييز الإضافي والحاسم بين الأقليات ذات المظهر ”السلافي“ و ”غير السلافي“. في حين أن هذا التمييز ليس واضحًا، حيث تميل مشاعر كراهية الأجانب إلى استهداف الأشخاص ذوي البشرة الداكنة بشكل أساسي، ولا سيما من القوقاز وآسيا الوسطى وشعب الروما (الغجر) — مع أن هناك استهداف أيضا للأفارقة والصينيين وغيرهم في بعض الأحيان. كذلك الأشخاص، الذين هم أيضًا عديمي الجنسية (stateless) بالإضافة إلى كونهم من ”المظهر غير السلافي“، هم في وضع شديد الضعف.198
تعتبر شعوب شمال القوقاز من المواطنين الروس. فقد غزت روسيا أوطانهم وضمتها عندما احتلتهم الإمبراطورية الروسية. ومع ذلك، فإن مواطني شمال القوقاز، عندما يسافرون إلى أجزاء أخرى من الفيدرالية الروسية الحالية، يعتبرون مهاجرين. ويتعرضون للتمييز وبالتالي يُعامَلون بطريقة مهينة.
يتبع…