حضرات القُرّاء الأعزاء،
يتم هنا نشر جزء آخر من كتاب ”شركيسيا: ولدت لتكون حرة“ مترجم الى اللغة العربية، وسيتبع ذلك نشر أجزاء أخرى فيما بعد
عادل بشقوي
10 أغسطس/آب 2021
الحرب الروسية–الشركسية (1763–1864)
الفصل الثالث
تشكيل إمبراطورية الرعب
لقد بدأت حروب وغزوات القياصرة منذ أكثر من 450 عامًا، ومباشرة بعد التخلص من سيطرة المغول المشددة لعدة مئات من السنين ضد جميع الجيران المحيطين في جميع الاتجاهات، بدءًا من نوفغورود (Novgorod) في عام 1478، والتي حصلت على أراضٍ من منطقة بحر البلطيق، إلى جبال الأورال (Urals) ومن البحر الأبيض إلى بحيرة سيليجر (Seliger) في إقليم نوفغورود الحالي،230 مما أدى إما إلى القضاء على تلك الشعوب والأمم أو إخضاعها للقهر والطغيان.
يقدم بافيل بريانيكوف (Pavel Pryannikov) مثالاً جيدًا على ذلك في مدونته على تولكوفاتيل (Tolkovatel)، والتي تصف بشيء من التفصيل الترتيبات السياسية لجمهورية نوفغورود، بما في ذلك التمثيل والانتخابات ووجود الأفرقاء (”الأطراف“) ومختلف الضوابط والتوازنات التي كانت موجودة إلى أن قامت موسكوفي بتدمير كل ذلك في عام 1478. 231
كانت عشرات الأمم هي ضحايا الحروبالقيصرية الروسية، والغزو، والدمار، والاحتلال، وسوء المعاملة، والفظائع، والقتل، والتهجير، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية. لطالما كان الاستعمار والاستبداد المباشر غارقين في العنصرية التي تتماشى مع الفصل العنصري. باستخدام القوة وبعد الاحتلال الكامل لوطنهم في مايو/أيار من عام 1864، انتهى المطاف بـ 10 في المائة من الشركس كأقلية في وطنهم واضطر 90 في المائة منهم للهجرة والترحيل إلى الإمبراطورية العثمانية، حيث انتهى بهم الأمر كأقليات في المجتمعات التي هُجِّروا اليها في كلٍ من تركيا وسوريا والأردن وإسرائيل وأوروبا والولايات المتحدة وثلاثين دولة أخرى حول العالم.
كان القانون الرئيسي الذي استخدمته روسيا في هذا المجال هو قانون القوة. اعترف بذلك الجنرال يرمولوف (Yermolov)، قائد فيلق القفقاس (Kavkazki Corps). وادّعى أن ”الخوف من الأسلحة الروسية وحده يمكن أن يُبقي الجبليين خاضعين“، ودمر بمحض إرادته ليس فقط الجبليين، ولكن أيضًا مواطنهم وبساتينهم وحقولهم وحبوبهم وأعلافهم. وأعلن باستخفاف، ”نحن بحاجة إلى الأراضي الشركسية، لكن ليس لدينا أي حاجة بالشركس أنفسهم“.232
كان الإرهاب والترهيب والبلطجة من الوسائل المعروفة المستخدمة، إلى جانب حرب الدعاية والتضليل ضد الشركس من قبل القوات المسلحة والمرتزقة للإمبراطورية الروسية.
الهدف الاستراتيجي لروسيا للقضاء على شركيسيا
استمرار الحملات العسكرية والحروب الروسية المستمرة ضد شركيسيا ومصالح شعبها، والتي شنتها الدولة الروسية، منذ تأسيسها ككيان، تُوِّجت واختُتِمت بآخرها وأكثرها تدميرًا، وهي الحرب الروسية–الشركسية،233 والتي توصف من قبل بعض الباحثين والدارسين بالحرب الروسية–القوقازية. ولا تزال المصادر الروسية وصناع القرار يُصِرون على تسميتها بحرب القفقاس. هذا بصرف النظر عن ذكر التواريخ والإجراءات الأخرى الخاصة بها، ربما للتقليل من أهمية منافسي روسيا و ومغزى الحرب بحد ذاتها.
ويتم الرد على سؤال حول ”الغرض من الحرب“:
دخلت روسيا بقوة إلى الساحة الدولية، وذلك خلال عهد بطرس الأكبر. كانت هذه هي الفترة التي بدأت تضعف بها كل من الإمبراطورية العثمانية وإيران، وكانت روسيا تزداد قوة. في ذلك الوقت، أصبحت شركيسيا، نظرًا لأهميتها الإستراتيجية، هي موضع تنافس لهذه القوى. من ناحية أخرى، لفت هذا الوضع انتباه القوى الأوروبية الكبرى، إنجلترا وفرنسا، التي احتلت في ذلك مواقع رئيسية في السياسة الأوروبية والعالمية وبدات بغض النظر عن المواجهة بينهما، باستخدام الجهود المشتركة لتقييد محاولاتهما المتكاتفة بهدف الحد من النفوذ العالمي المتزايد لروسيا. لقد وضع هذا الحال شركيسيا وتاريخها في مرحلة حرجة، وهي دائرة المشاكل الهامّة للسياسة العالمية في القرن الثامن عشر.235
لا بد من التوصل إلى نتيجة مفادها أن الخطة الاستعمارية التي نفذها القياصرة الروس، اتّبعتها أيضًا الأنظمة الروسية المتعاقبة، والتي تبين فيما يبدو أنها رؤية ووصية، وهي في ضمير ووجدان الدولة الروسية.
ترك بطرس الأكبر وصية لخطته: توسيع حدود روسيا شمالًا وجنوبًا بلا كلل أو ملل، وعلى طول البحر الأسود، وكذلك الاقتراب من القسطنطينية والهند. ومن يمتلكها يمتلك العالم. مع وضع هذا الهدف في عين الاعتبار، إبقاء التحريض باستمرار على شن الحروب، أحيانًا ضد الأتراك، وأحيانًا ضد الفرس، وتشييد أحواض بناء السفن على البحر الأسود، والتي ينبغي السيطرة عليها تدريجياً وكذلك على بحر البلطيق؛ كلاهما ضروري لنجاح الخطة — لتسريع سقوط بلاد فارس، والتوغل في الخليج الفارسي، وإحياء التجارة القديمة في بلاد الشام عبر سوريا، إن أمكن ذلك، والوصول إلى الهند. مخطط بطرس الأكبر هذا جعل إيران بوابة الهند، والقوقاز مفتاح تلك البوابة.326
بعد معاهدة أدرنة (أو معاهدة أدريانوبل) في الرابع عشر من سبتمبر/أيلول من عام 1829، والتي أنهت الحرب الروسية–التركية 1828 – 1829، تم توقيعها بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، حيث تؤكد موسوعة بريتانيكا (Britannica)، بأن ”المعاهدة سمحت لروسيا بضم الجزر التي تتحكم في مصب نهر الدانوب (Danube) وشريط القوقاز الساحلي للبحر الأسود، بما في ذلك حصون أنابا (Anapa) وبوتي (Poti). اعترف العثمانيون بمُلكية روسيا لجورجيا وإمارات قوقازية أخرى وفتحوا مضيق الدردنيل والبوسفور أمام الملاحة الروسية“.237 في الوقت الحاضر، يثبت ضم روسيا لشبه جزيرة القرم والاتجاه نحو تطوير حملة استعمارية حديثة لاحتواء شرقي أوكرانيا ومناطق أخرى، ويؤكِّد طموح الشهوة والسيطرة على الآخرين وإنشاء ”العالم الروسي“،238 كما فعلت الإمبراطورية الروسية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكذلك الاتحاد السوفياتي في القرن العشرين.
عملت الدول الإمبريالية الغاشمة باستمرار على تكرار الهراء الذي يتعلق بتبادل التنازلات فيما بينها حول المناطق التي يعتبرونها نفوذًا لهم. وهم يتظاهرون زوراً وبهتانا بأن هذه المناطق هي أجزاء منها أو أنها تقع داخل الحدود الإقليمية لطغيانها، الأمر الذي يجعل هذه الدول المستعمِرة تغزو وتحتل أوطان الآخرين بغرض استعمارها وضمها في نهاية المطاف.
ضمن هذا المفهوم، ماذا يعني التّشدُّق وإملاء الرغبات الاستعمارية على الشركس؟ ”ذكّر الجنرال مالينوفسكي (Malinowski) الشّركس بمعاهدة أدرنة وكيف {تنازل} السلطان عن الشركس وساحل البحر الأسود بأكمله، من مصب نهر كوبان إلى رصيف (ميناء) القديس نيكولاي (pier of St. Nikolay)، وإلى حدود جورجيا (Georgia) وإيميريتيا (Imeretia) وغوريا (Guria) إلى روسيا. أجاب أحد الشركس، ”أنت جنرالًا جيدًا!” ثم أشار إلى طائرٍ جالسٍ على شجرة وأضاف: ”من أجل كلماتك اللطيفة، أُعطيك هذا الطائر إلى الأبد. فخذه!“ ثم أومأ برأسه وقفز على حصانه وهرول مبتعدًا. حيث تبعه أصدقائه“.239
نظرًا لأن الجنرال يرمولوف (Yermolov) كان أحد أولئك الذين أشرفوا على التخطيط وملزمًا بتنفيذ خطط وسياسات الإمبراطورية الروسية، فقد كان يجمع حوله أولئك الذين كانوا متلهِّفين ومستعدين ذهنيًا للمشاركة في مهمة إدارة حرب مجنونة مع الأفعال الشريرة المرافقة لها.
كان الجنرال زاس (Zass) تلميذ ”الجنرال الدموي“ البارز (يرمولوف). إن أقواله الصريحة تكرر عملياً كلمات مرشده: ”روسيا تريد إخضاع القوقاز بأي ثمن“. ثم سأل: ”كيف تخضعهم، إن لم يكن بالرعب والإرهاب؟“ كما أعلن، “أنا أقتل الشركس بِما يُرْضي قلبي“.240
استغرق الأمر 101 عامًا لتحقيق الخطط الاستعمارية من أجل أن يتحقق الحلم.
ومن أجل تحقيق حلمها القديم — التوجه نحو البحار الدافئة — كانت روسيا عازمة على غزو شركيسيا وبناء الموانئ الضرورية على سواحل البحر الأسود. وبعد أن أنجزت ذلك، ستستولي روسيا على مضيقي البوسفور والدردنيل والعبور إلى البحر الأبيض المتوسط، وإضعاف مكانة الإمبراطورية العثمانية، وتوجيه ضربة قاصمة للمصالح التجارية لبريطانيا العظمى، وكسب اليد العليا على القوى الأوروبية في المنافسة على السيادة على العالم.241
بعد التجربة، ليس من المستغرب أن نصل إلى النتائج الكارثية التي تحققت في الحرب وأن نقرأ، ”تقرير بوغودين (Pogodin) إلى القيصر ألكسندر الثاني (Czar Alexander II) الذي يحدد بوضوح مكانة شركيسيا بشكل خاص، والقوقاز بشكل عام، في خطط السياسة الخارجية لروسيا: يجب بحق أن ينتمي الشرق إلينا. … يجب أن نسيطر على ساحل البحر الأسود ومضيقي البوسفور والدردنيل. يجب أن يصبح البحر الأسود المكان الذي تتحرك منه قواتنا“.242
لم تستهدف الإمبراطورية الروسية الشركس فقط، بل كانت تهدف أيضًا إلى القضاء على الحرية والاستقلال لجميع شعوب القوقاز دون استثناء.
لقد أثبت الالتزام الذي أظهرناه في الاجتماع الأخير أنه كافٍ تمامًا من أجل ”نزع سلاح“ الخصم المستعد لمعارضتنا بشراسة. بغض النظر عن شؤون الدولة هذه، لدينا عمل كبير في جعبتنا — بناء القلاع على ساحل البحر الأسود، وتزويد جميع النقاط الاستراتيجية بجميع أنواع الأسلحة. لا بد من استكمال الحرب مع شعوب القوقاز، والتي ستظل تتطلب نفقات كبيرة ومثابرة عظيمة. يجب أن تستخدم هذه الحرب لاكتساب الخبرة المناسبة من قبل جيوشنا وأن تصبح الدراع الواقي لجميع عملياتنا التحضيرية للسيطرة على البحر الأسود. فقد خدمت مرونتنا في التوقيع على معاهدة أدريانوبل (أدرنة) النتيجة المرجوة. لأنّهُ من خلالها تجنبنا التدخل المحتمل لإنجلترا في المستقبل. لقد تسببنا في اضطرابات شعبية في مصر. تمكنا من إضعاف الباب العالي بنفس الطريقة. ليس بعيدًا ذلك اليوم الذي ”ستتكلم“ فيه بنادقنا.243
وقد بدأت البنادق الروسية ”تتكلم“ أولاً في شركيسيا، بوحشية غير مسبوقة.244
يتبع…