تذكّر الماضي، وعش في الحاضر، وفكّر في المستقبل

 تذكّر الماضي، وعش في الحاضر، وفكّر في المستقبل

في ضوء هذه التعليقات والّتي يقصد منها أن تكون إشادة وتقدير عظيمين لجهود الدّكتور والتر ريتشموند لمهمّته الصّعبة ومحاولته الهائلة للسّعى من أجل الحصول على  معلومات موثّقة ومثيرة للدّهشة عن واحدة من أهم المعضلات والكوارث البشريّة الّتي شهدها شمال القوقاز والعالم في القرن التّاسع عشر والّتي امتدّت حتى هذا اليوم، ممّا جعل من الممكن للقراء من وصل حقبة ما قبل عام 1864، مع التّاريخ اللّاحق، والّذي تمكّن من خلالها الكشف عن تسلسل الأحداث لتصل الى الوقت الحاضر واّلتي نصّت على ما أعدّت وحدّدت له روسيا القيصرية لمنطقة شمالغرب القوقازشركيسياولسكّانها.

ومنالجديرذكرهأنالدكتورريتشموندكانمثالايحتذىكونهكاتبامحترما،ومنخلالكتابهالبديع،شمالغرب القوقاز، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، عرض وباستمرار وجهات النّظر والرّؤى الهامّة عبر وصف وتصوير مهنيّين للأحداث التي وقعت، وهو ما يثبت مقدار الأبحاث  والوقت المستهلك للوصول إلى المعلومات التي من شأنها أن تعبّر عن حقيقة المسألة برمّتها، الأمر الذي يجعل من المناسب التّأكيد على انّ الإعجاب كان المكافأة لما قدّمه المؤلّف للبشريّة.

والتر ريتشموند هو أستاذ مساعد في الدّراسات الرّوسيّة في جامعة أوكسيدنتال في لوس أنجلوس، في الولايات المتحدة الأمريكية. وتشمل اهتماماته البحثيّة، الحركات الإسلاميّة في الاتّحاد السّوفياتي السّابق،  والسّياسات العرقيّة في شمال القوقاز، والسّياسات النّفطية في حوض بحر قزوين”.

ويعتبر أوّل كتاب من نوعه لتوضيح أحداث واسعة عن الشّركس ووطنهم، شمالغرب القوقاز. الإجراءات المدوّنة استعادت جهود الشّركس الكبيرة للدّفاع عن وجودهم وكرامتهم من خلال سلسلة من الحروب الدّفاعية ضد التّوغّلات والاعتداءات الّتي بدأتها روسيا منذ مئات السّنين، ومن خلال جميع الاشتباكات مع الغزاة القياصرة الروس، فانّ الأعمال كانت أبلغ من الأقوال! وقال جيمس ماديسون: “المعرفة سوف تحكم الجهل إلى الأبد، والشّعب الذي يريد حكم نفسه يجب أن يسلّح نفسه بالقوّة التي تمنحها المعرفة“.

جاء في الكتاب قي بداية التّقديم عن نقش هادف ذكر أنّه محفور على حجر تذكاري في أديغيسك الواقعة في جمهوريّة الأديغييه، وهي جزء بسيط من شركيسيا، والنّقش يمنح الالهام عند قراءته: “تذكّر الماضي، وعش الحاضر، وفكّر في المستقبل“.

انّ جزءا مذهلا من الكتاب هوالمقدّمةللسّيد جون كولاروسّو: “شمالغرب القوقاز، ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا، والّذي يتناول بالتّحليل جميع أجزاء الكتاب، بل ويتحدث عن العمل المضني الّذي تحمّله المؤلّف لانهاء هذا المشروع الهام الذي بدأ قبل سنوات من ذلك، ووصل إلى نتيجة مثمرة من النّجاح، وفيما يلي ترجمة للمقدّمة:

مقدّمة جون كولاروسو

بالنسبة لنا، نحن الذين يدرسون القوقاز فانّه في كثير من الأحيان يكون حاضرا في أذهاننا، وبغض النّظر عن الجزء الّذي نركز عليه، وهو الالتزام بالحزن نظرا للاضطراب والمعاناة الّذان ابتليت بهما هذه المنطقة. حتى الجمهور في الغرب يمكن أن يقدّر هذه المشاعر حيث أنّ الأكثريّة تدرك قيام آخر حربان وقعتا بين روسيا والشّيشان، الأولى جرت في عهد الرّاحل بوريس يلتسين، والثّانية في عهد فلاديمير بوتين. البعض ربما كان على علم عن عمليّات التّرحيل بالجملة التي اجتاحت المنطقة خلال الحرب العالميّة الثّانية بتوجيه من جوزيف ستالين، المولود في دجوجاشفيلي، وهو نفسه من القوقاز ومن جذور أوسيتيّة وجورجيّة. قلة من الناس العاديّين قد يكونوا مدركين أيضا لأحداث القرن التاسع عشر المشهودة لمقاومة التّوسع القيصري الّذي أبداه الدّاغستانيّون والشّيشانيّون تحت قيادة الإمام شامل. فقط الّذين لديهم الدّراية الكافية، مع ذلك، يبدون أنهم على بيّنة من الحرب الشّرسة التي اجتاحت منطقة شمال غرب القوقاز في نفس الوقت تقريبا الّذي شهد مقاومة شامل في الشّمال الغربي والتي انتهت بالهزيمة والتّطهير العرقي لجميع الشّراكسة تقريبا وأقاربهم الوبخ والأبخازيّين والأباظة، من حيث أنّ هناك فقط بقايا من هذه الشّعوب الّتي كانت يوما ما كبيرة العدد، تنجو من الهلاك وتبقى في كيانات مقسّمة في أوطانهم السّابقة، في حين أن الغالبية العظمى منها لا زالت قائمة بدون ترابط سياسي أو ثقافي كأقلّيّات في تركيّا والشّرق الأوسط.

الدكتور ريتشموند هو أوّل باحث لدراسة تاريخ منطقة القسم الشّماليالغربي من القوقاز بعمق من خلال دراسة مستفيضة من كافّة المصادر والمساقات الرّوسية المفترضة. والّذي يتبيّن له صورة ذهنيّة للإجهاد والحرمان الّذان ابتليت بهما شعوب شمالغرب القوقاز النائية منذ القدم. ان المأزق الحالي لهذه الشعوب، يأخذ مظهرا لا يصدّق،  وليس بسبب أية مسألة تخص الدقّة في الموضوع، ولكن لأن مجرد البقاء على قيد الحياة في أي شكل من الأشكال وصولا الى يومنا الحاضر يبدو مدهشا، نظرا لما بيّنه لنا الدكتور ريتشموند عن ماضيهم. والّذي ينبثق عمّا يخرج من عمله هو وصف تفصيلي لمجموعة صغيرة ومتميزة من الشّعوب الخاضعة للأطماع ومكائد الدّول الأقوى المجاورة، وفي الوقت نفسه، لا سيما في حالة الشّراكسة وأقاربهم، والّذين يعانون من كثافة ضغوط داخليّة واجتماعيّة وثقافيّة واقتصاديّة متعددة الأبعاد. وهو يبيّن بوضوح أنه في بعض الأحيان، هذا الاضطراب الدّاخلي منع ظهور دول ذات كيان في المنطقة وقاموا بالتّنازل الجدّي من أجل توجيه الجهود للخطر وذلك من أجل مقاومة القوى الخارجيّة. وفي أحيان أخرى، من الثّابت أن أكبر الجهات الفاعلة، وعلى رأسها روسيا والامبراطوريّة العثمانية، قامتا باستخدام شمالغرب القوقاز كمنطقة لاختبار همّة وعزيمة كل منهما الأخرى، دونما أي اعتبار على الإطلاق لاحتياجات أو آمال الشّعوب المحلية. في حين أن منطقة شمالغرب القوقاز حتى يومنا الحاضر قد تكون نوعا ما توصف وبحق، بأنها غامضة في أذهان الغربيّين، حتى أولئك الّذين هم منشغلين بشؤون روسيا وأوراسيا عموما، فالدّكتور ريتشموند يوصلنا الى المستقبل المرتقب لكل من موسكو أو اسطنبول نحو هذه المنطقة. وقد أوضح بجلاء أنه من الآن فصاعدا، أي تناول لطموحات الهيمنة من قبل قوة اقليمية قريبة لهذه المنطقة، ستكون روسيا حديثة وامكانيّة أن تكون إيران توسّعيّة أو ربما تركيّا منبعثة من جديد، وسوف يركز على هذه المنطقة بسبب أهمّيّتها كمركز جيوسياسي لغرب أوراوسيا: السّيطرة على منطقة شمالغرب القوقاز، سيمكّن المرء من السّيطرة على كامل منطقة شمال القوقاز؛ والسّيطرة على الشّمال سيمكّن السيطرة على كامل منطقة القوقاز. والقوقاز كقاعدة، يمكن للمرء من الشّمال أن يخطّط للسّلطة والنّفوذ في الشرق الأوسط وما بعده. إذا كانت القوّة  المحتملة تقع في الجنوب، فانّ السهوب الشاسعة للمنطقة تكون مفتوحة أمام تغلغل الهيمنة. انها فقط منطقة شمالغرب القوقاز التي تحوي التّضاريس والموانئ التي تسمح بسهولة الأعمال الّلوجستيّة الّلازمة لتحقيق هكذا طموحات كبيرة لسلطة في أوراسيا. انّه مزيج من الموقع والجغرافيا الّذان أعطيا المنطقة تاريخها المأساوي والاستثنائي والّذان هما في الوقت الحاضر لا يزالان يعتبران الحليف الاستراتيجي الحيوي لروسيا.

انّ هذا الكتاب غني وغير عادي. ويبدأ الدكتور ريتشموند كتابه بروايات مثيرة لشهود العيان عن عمليّات التّرحيل الّتي حصلت في القرن التاسع عشر وكذلك خلال الحرب العالميّة الثّانية، ثم تبعت بوصف موجز للتّوتّرات العرقيّة والسّياسيّة الّتي نتجت عنها لغاية هذا اليوم. وكما هو الحال لكل فصل من الفصول التّالية تقريبا فانه يقدّم ملاحظة هامّة في هذه المقدّمة: الحكم الروسي يتضمّن عنصرا أساسيّا يمتاز بالسّخرية، لأن السّياسات الاسميّة المتّبعة، وضعت لحماية الهويّة العرقيّة وكذلك لتأكيد السّلام المشترك بين الأعراق المختلفة، لكن في الواقع وفي نفس الوفت هدّدت هذه الهويّات ما أدّى إلى تفاقم الصّراع بين الأعراق.

الفصل 1، في سياق التّاريخ الغابر للمنطقة، يبدأ من آثار المنطقة ويؤدي إلى وصف الحضارات القديمة للميوتيّين والسّند والبسفوريّين، إلى جانب غيرها من الشّعوب المبهمة ولكن الرّائعة، وتعالج هنا بالتّفاصيل التي لم يسبق لها مثيل. فإن السّند وبشكل واضح هم من بقايا الجنس الهنديالأوروبّي، (السند الهنودأفاالايرلندي سيونانشانون“). علمنا، على سبيل المثال أن واحدا من ملوكهم حمل اسم جيكاتي، وأنه وزوجته، تيرغاتو وهي من قبيلة ايرانية تدعى أكسومات، وقعوا في صراع مع بعضهم البعض من خلال مكائد لملك البسفور، ساتير. لقد كان هناك صلات واسعة للميوتيّين والبسفوريّين مع اليونانيّين القدماء، والصّورة التي ترشح هي مزيج بين الدّخيل والمألوف. وفي المقابل فإن الزّيخيّون هم أوّل الشّركس المعروفين لغويا حيث يظهروا في هذه الحقبة من الألفيّة الأولى، ويبدو أنّهم يصمدوا كشعب منفصل. الهونيّون والخزر الغامضون يظهرون عروضهم على السّاحة، يليهم صعود وسقوط مملكة ألألانيّين، ذوي آخر ثقافة ايرانيّة مزدهرة في المنطقة وأجداد أوسيتيّي الوقت الحاضر.

الفصل 2،  المعنون ببساطةالثّقافة، وهي واحدة من أكثر الرّوايات وضوحا لهذه الثقافات المختلفة المتاحة. يوجد هنا الكثير من الألغاز الماثلة منذ زمن طويل والّتي قاومت الحل من قبل متخصّصين غربيّين تصبح واضحة على أسس روسيّة و عرقيّة واسعة النطاق بحيث تمّ الاستفادة منها من قبل الدكتور ريتشموند. يتضمن هذا الفصل سردا كاملا لجميع المجموعات العرقيّة في المنطقة، مع جميع القبائل والعشائر من الشّركس وغيرهم. هذه المعلومات لا يمكن أن توجد في أيّة مصادر غربيّة أخرى. ولعل أكثر نجاح تحقّق هنا روايته لنظام القرابة وناتج التّسلسل الهرمي الاجتماعي للشّراكسة، وهذا من بين الأكثر تعقيدا لما هو معروف حتّى الآن. الصّراعات والاضطّرابات التي نشأت في هذه الثّقافة نظرا لضخامة التّعقيد تحتج بشدة على الرّأي الشّائع في الوقت الحاضر والمستمد من نظريّة داروين الاجتماعيّة/الأحيائيّة المستحدثة بأنّ المؤسّسات الثّقافيّة يمكن تكيّفها. ومهما كان أصول التّسلسل الاجتماعي الشّركسي، والّتي تمّ تقاسمها مع الوبخ والأباظة والأبخاز، وربما كانت ومهما كان دور التّكيّف الذي يمكن ان يكون قد لعبه في السّابق، فإنّها استمرّت لعدة قرون باعتبارها تشكّل عائقا لعمل دفاعي متماسك، وكانت حسب أيّ تقدير معقول غير سهلة التّطبيق.

الفصل 3، يبدأ بنتائج تفكك الامبراطوريّة المنغوليّة. والأسماء العرقيّة القديمة، الزّيخ والألان وما إلى ذلك، قد اختفت وظهرت أخرى حديثة مكانها. ومع ظهور شعوب مألوفة فقد بدت الصّراعات التي ستشكل تاريخهم إلى يومنا هذا. فإن الشّركس في الغرب تعرّضوا لهجمات متكرّرة ومدمّرة من خانات القرم، والإمبراطوريّة العثمانيّة. ويبدو أنّ تجّار جنوة ظهروا ولعبوا دورا حميدا، ولكن في نهاية المطاف دفعوا بعيدا من قبل القوى الأكبر. هؤلاء الشّراكسة في الشّرق، القبردي، عانوا أيضا وسعوا الى تحالف مع روسيا، باعتبارها قوّة صاعدة. فالنّجاح السّياسي للقبردي (حتّى أنّ أميرة من القبردي أصبحت زوجة ايفان الرّهيب) وما يترتب عنه من تعزيز هيبة البشس،أمرائهمسيعمل ضد مصلحة هذه الأمّة الفتيّة وذلك بتفاقم العداء المتأصّل في مجتمعهم ذو التّسلسل الهرمي، بل أكثر من ذلك الّذي وجد بين ذويهم في الغرب. ثبت أن روسيا حليفا بالتزام متذبذب. فعندما أبتدأت فارس بتأكيد نفسها في المنطقة، كان رد فعل موسكو تصالحيّا بوجه عام على حساب الشّعوب المحليّة. وعندما دخلت السّويد في حرب مع روسيا، ترك الشّركس تحت رحمة العثمانيّين. المهمّة تنتقل من الأرض الواقعة في قلب روسيا الى أطرافها في شمالغرب القوقاز حيث شكّلت مختلف فرق القوزاق. هؤلاء المستوطنين، عادة ما يختلطون مع السّكّان المحلّيّين، والّتي ستلعب دورا حاسما في الأعمال العدائيّة المتزايدة في القرن الثّامن عشر. وهكذا تمّ ذلك مبكّرا من خلال تقليد تغيير التّحالفات، والرّيبة والتّنافس العرقي وهذا كلّه الّذي كان سيؤدّي إلى مأساة كبرى من الحرب الرّوسيّةالقوقازيّة الّتي وقعت في القرن التّاسع عشر.

الفصول الثلاثة المقبلة وبتفصيل كبير تغطّي الحرب المدمّرة بين روسيا ومنطقة شمالغربي القوقاز. جهود لدمج القوى في الامبراطوريّة الرّوسية بدأت في عهد كاترين العظمى في عام 1762. القلاع والحصون ومستوطنات القوزاق بدأت تظهر في التّخوم الشّماليّة من الأراضي الشّركسيّة. الحرب الرّوسيّةالتّركيّة في الأعوام 1768-74 فاقمت العلاقات بين الرّوس والشركس. وهذه العلاقات تفاقمت أكثر عندما قاد الشّيخ منصور، وهو من الشّيشان، المحاربين عبر شمال القوقاز الى المناطق الغربيّة الشّركسيّة، حيث استقبل استقبال الأبطال. ومع ذلك فانّ ثورته لم تدم طويلا، (1785-91). غارات القوزاق بدأت بشكل جدّي في عام 1800، وتصاعدت وتيرتها تدريجيّا الى حرب القرن التاسع عشر واسعة النّطاق، والمنتهية بالتّطهير العرقي لعام 1864. في هذه الفترة البالغة 102 عاما حيث تميّزت باّنّها ثورات الفلّاحين بين مختلف قبائل الشّركس والأباظة ضد حكّامهم. وهؤلاء الأمراء غالبا ما كانوا يسعون لمنح ولائهم الى روسيا منذ بواكير القرنين السّادس عشر والسّابع عشر. لقد تعرّض القبردي لمرض الطّاعون. المعاهدات والهدنات والالتماسات لم تحترم جميعها من قبل الجانبين تقريبا وذلك قبل أن يجف حبرها. العثمانيّون، وضعف سلطتهم في المنطقة، أبقى الهجمات وعرض آمال واهية. وكذلك فعل البريطانيّون أيضا، الّذين قدّموا للشّركس الدّعم المعنوي، وما دون ذلك لا شئ. وفي هذا الاضطّراب، من العجب ان الرّوس لم يستطيعوا السّيطرة في غضون بضعة أشهر. إن مضي قرن حتّى يتم الاخضاع يعتبر شهادة لكل من الرّوح القتاليّة لقوقازيّي شمال غرب القوقاز وكذلك لعجز القوّات القيصريّة. بعد الطّرد المدمّر لمعظم السّكّان الأصليّين، فانّ مصير ما تبقّى منهم، مفصّل خلال المدّة المتبقّية من الفترة القيصريّة وخلال الحقبة السّوفياتيّة.

الدكتور ريتشموند يبدأ بوضع الثّلاث مفاهيم الخاطئة التي دفعت روسيا إلى ما كان لجنودها من حرب طويلة دامية، وما كان لسكّان المنطقة من مأساة لم يسبق لها مثيل. أولا، لقد افترضوا أن الشّركس في غرب القفقاس هم رعايا عثمانيّين، وهو ما من شأنه أن التّحقّق كان سيظهر أن الحال ليس كذلك. ثانيا، إن روسيا فشلت في الاستفادة من ميوعة التّحالفات والولاءات بين مختلف قبائل المنطقة، وهي هالة وضعت نفسها فيها بانّها جزء من المشاركين. ثالثا، لقد اتّبعت طموحاتها الاستعماريّة دون أي معرفة عن الثقافة أو التّاريخ للمنطقة، وبدلا من ذلك معتمدة على شعورها الذّاتي بتفوّقها الثّقافي  وتفوّقها العسكري. واللافت أنه، باستثناء الافتراض الأوّل الذي يمكن، وبطبيعة الحال اعتبار انّه لم يعد قائما في غياب وجود العثمانيّين، والافتراضين الأخيرين يبدو أنّهما كانا صحيحين بناءا على سياسة الكرملين في القوقاز، وحتى الحروب الّتي عصفت بمنطقة القوقاز منذ بداية سنوات 1990. وفشل النّخبة الرّوسيّة للتّعلّم من تاريخ المنطقة، ومن عمل ومعرفة متخصّصيها، يعتبر ذلك محيّرا تماما. ويقدم الدّكتور ريتشموند البيانات الديموغرافية عن الآثار المدمّرة لعمليّة التّطهير العرقي الّتي بدأت في عام 1864. فيما عدا بعض الاستثناءات البارزة، فانّ الجنرالات الّذين قادوا القوّات الرّوسية في المراحل النّهائية لهذه الحرب قد قاموا بالتّخطيط لهذا التّطهير العرقي حيث أن الدّكتور ريتشموند يجادل  بأنّه يعتبر ذلك  ذو أبعاد  ترقى للإبادة الجماعية حسب المعايير الحديثة. وبعرض هذا الإجراء في هذا الوقت للقوى الإمبريالية والأمم الكبيرة، مثل الولايات المتحدة، هكذا أعمال قابلةللشّجب، إلا أنها لم تكن غير واردة. واللافت، مع ذلك، هو أن المعاملة القاسية للسّكان الأصليّين في شمالغرب القوقاز كانت  ستتواصل بعدما تركتهم الحرب على أرضهم أثرا بعد عين.

خلال المدّة المتبقّية من الفترة القيصريّة وطوال الحقبة السّوفياتيّة، اتّصف الحكم الرّوسي بالمعاملة المغرضة والقمعيّة. وشمال غربالقوقاز، رغم بقاء العشر من سكّانه في ظروف ما بعد الغزو، لم يكن الوضع هادئ تماما، سواء في إطار التّدابير القيصريّة الصّارمة المستوحاة من الثّقافة الإمبريالية (الاستعماريّة)، أو في إطار التّدابير الوحشيّة التي أملتها الإيديولوجيّة الشّيوعيّة من السّوفيات. انّ ما يبرز من استنتاجات الدّكتور ريتشموند هو الفشل الذّريع لروسيا وصولا الى يومنا هذا من التّطور  بعيدا عن عقليّتها الامبرياليّة، على خلاف التّطورات الّتي حدثت مع قوى إمبرياليّة سابقة أخرى. وبقدر ما هو شمالغرب القوقاز معني بذلك، فانّ روسيا لا تزال حبيسة القرن التّاسع عشر. القوانين والمؤسّسات موجودة في الظّاهر لضمان العدالة وحقوق الإنسان لتبدو بأنّها تعمل فقط بطريقة ظاهريّة، ولتكون مجرّد واجهة زائفة عندما تنشأ المسائل المحليّة (الدّاخليّة) التي تسبّب قلقا لموسكو أو لممثّليها في المنطقة. انّ حالة جمود الثّقافة السّياسيّة هذه تدعو إلى تفسير لها.

ما يمكن تصورّه، انّ عدم التّقدّم الطّبيعي الّذي مكّن روسيا لتصبح أكبر امبراطوريّة تجاور الآخرين في التّاريخ وأيضا  جعلت الأراضي الرّوسيّة الدّاخليّة دائمة الضعف، وبالتالي الارتقاء بقوّتها العسكريّة الى وضع مثير ما يجعلها فعّالة وذات هالة  لدرجة التّقديس وخارج نطاق المساءلة المدنيّة. هذه العسكريّة الغير مقيّدة مالت نحو الفساد والاستبداد. واستراتيجيّة روسيا في الغزو والاتلاف والضّم، نزعت أيضا الى تحويل التّهديدات الخارجيّة إلى نزاعات داخلية، وجمّدت ثقافتها السّياسيّة الى ان توصف بأنّه عفى عليها الزمن إلى استحواذ نمط هاجس الأمن البالي المبني على عدم الثّقة باحد. انها تقف وحدها دون حلفاء حقيقيّين مع ريبة كامنة تجاه الجميع. هذا الطّابع القديم للثّقافتين السّياسيّة والأمنيّة يمكن أن ينظر إليه نتيجة لجغرافيّتها و تاريخها. العوامل العصريّة جعلت هذه الديناميكية الجغرافية مهملة لا تبدو بأنّها رسّخت جذورها في عقول النّخبة السّياسيّة الرّوسيّة. تأكيدات الصّداقة للغرب والتّعبير عن مصالح مشتركة تقوّضت نتيجة إجراءاتها الأخرى والمقصود منها ملء الفراغ في السّلطة التي خلّفها الاتّحاد السّوفياتي في أوروبا الشّرقيّة وآسيا الوسطى والقوقاز. أثناء عهد يلتسين، كان هناك احتمال لحدوث تحول في نظرة روسيا للعالم، ولكن في ظل بوتين طفت على السّطح القوّات العسكريّة والأمنيّة، وذلك أنّ روسيا قد عادت إلى حالتها التّقليديّة جنبا إلى جنب مع فكر قومي سلافي ومتزمّت. هذه العودة لا تبشّر بالخير بالنّسبة لعلاقات روسيا الدّاخليّة مع الأقلّيّات غير السلافيّة وكذلك العلاقات مع بقيّة العالم، وخاصّة مع الولايات المتّحدة. كما انّها توضّح تعزيز التّدابير القمعيّة المتّخذة في شمالغرب القوقاز ومناطق أخرى. الأنماط القديمة تموضعت في مكانها.

الفصل قبل الأخير يتناول الفترة من العام 1986 وحتى العام 2000، يصفها الدّكتور ريتشموند بفترةصعود القومية“. وهنا يجد المرء نظرة عامّة على الاضطّرابات التي ظهرت في المنطقة في نهاية العهد السّوفياتي، وظهور الاتّحاد الرّوسي (الفيدراليّة الرّوسيّة) في عهد يلتسين. هناك مشاكل معيّنة عولجت، مثل تلك المتمثّلة في قراشاي وأديغييه. بينما لم تندلع حرب شاملة في شمالغرب القوقاز، ولكنّه يجعل من الواضح أن المنطقة تعج بنفس التّوتّرات وسياسات الحكم الخرقاء التي كانت من تراثها خلال الثّلاثمائة سنة الماضية أو ما يزيد. وإن دل هذا على شيء، فإنه يدل على إمكانية نشوب أعمال عنف مفاجئة وواسعة النطاق  ومكثّفة هي الآن أكبر من أي وقت مضى منذ الحرب الرّوسيّةالقوقازيّة. الدّكتور ريتشموند مرّة أخرى يتعبر ثلاثة أخطاء قد اقترفتها موسكو في تقييم هذه المنطقة. أولا، موسكو، واعتزازا بعرقها، ترى الإسلام وكأنّه مجرد عقيدة محلّيّة وتخفق بابداء التّقدير  لقوّته الأخلاقيّة الغير مشكوك فيها بين أتباعها. ثانيا، ترى موسكو الحركات الاسلاميّة المحلّيّة بأنّها مستئثرة، في حين أنهم في الواقع متنوّعين وفي معظم الأحيان  غير معروفة بدرجة كافية، مما جعل سياسات موسكو في هذا المجالخام، وغير فعّالة. ثالثا، موسكو، ومرّة أخرى من خلال الاعتزاز بالعرق، تفترض أن الاسلام لديه تسلسل هرمي للسّلطة يشبه ما لدى الكنيسة المسيحيّة الأرثوذكسيّة. والنتيجة هي منح سلطة اسميّة لشخصيّات إسلاميّة من الّذين  يعتبرون من قبل السكان المحليين على أنّهم مغفّلّين، لأنّ احتياجاتهم ومظالمهم تبقى دون حل. ويمكن للمرء أن يلاحظ هنا أن معظم العواصم الغربيّة قد تبنّت افتراضات مماثلة مبنيّة على الجهل عند التّعامل مع الاسلام عموما.

الفصل الأخير يلاحظ انحسار تطلّعات القوميّين القويّة، ولكن يناقش ما يجري، أزمة فساد ونزاعاتمجمّدةالتي تعاني منها ثلاث جمهوريات اسميّة (من الغرب الى الشرق) أديغييه وقراشايشركيسك وقباردينوبلقاريا. الأحداث موثّقة حسب نماذج قديمة على الرغم من قشرة من النّمط العصري. نزعة موسكو في التّدخل المباشر في الشّؤون المحليّة لم يعتريها شيئ بل واشتدّت في عهد بوتين، ومحاولة لإلغاء جمهوريّة الأديغييه، والجهود المبذولة للاختيار المباشر (التّعيين) للمسؤولين المحلّيّين. ومع ذلك، فعنوان الفصل يلمّح إلى أنّ المنطقة الآن هي في القرن الحادي والعشرين، وانّ هنالك عوامل جديدة. ونتيجة للسّياسات القيصريّة، موسكو تواجه الآن شتاتا (مهجرا) كبيرا من شعوب شمالغرب القوقاز والّذين  يقعون خارج نطاق سيطرتها والتي تتضمن العديد من الأفراد الّذين ينعمون بالثّروة أو النّفوذ في البلدان المضيفة. وبرزت منظّمة دوليّة، وهي الجمعيّة الشّركسيّة العالميّة وهيدونييم أديغه خاسةوالّتي تمثّل ثقافة وتطلّعات الشّراكسة المشتّتين وأقاربهم،  والتي لها فرع في شمال غرب القوقاز. مرافق الإنترنت الثّقافية وكذلك العلاقات السّياسيّة بين هذا الشتات أتاح ظهور ما يشبه أمّة شركسيّة مفترضة خلال السّنوات ال 15 الماضية، في حين أنّ شعوب أخرى من شمال غرب القوقاز تشارك أيضا. إن الإثارة في العالم الاسلامي تطفو أيضا قريبا من شمالغرب القوقاز وتهدد باشعال العنف المغلّف بغلاف ديني. شمالغرب  القوقاز نفسه لا يزال يعاني من المشاكل الّتي تعكس الحداثة الجديدة: القضايا التّعليميّة وقضايا الفساد والبطالة والحفاظ على المؤسّسات الثّقافيّة التي أنشئت خلال الحقبة السّوفياتيّة، وضعف البنية التّحتيّة وتدخّلات الكرملين.

اعتبارا من عام 2006 عندما أغلق الدكتور ريتشموند البحث لهذا الكتاب، لم تحل أيّ من تلك القضايا والآفاق المستقبلية لتحسين أو لتلطيف الوضع حيث بدت جميعها غير واعدة. لا يسع المرء إلّا أن يتساءل عن دورة الألعاب الأولمبيّة الشّتويّة عام 2014 في سوتشي وكيف ستكون، إذ تقع هذه المدينة في نفس مكان مركز التّرحيل العرقي لعام 1864. وتحتل أيضا مركز منطقة الوبخ، الشّعب الّذي ينتمي الى شمالغرب القوقاز والّذي  يعتبر منقرضا ثقافيّا ولغويّا. سائر شعوب شمالغرب القوقاز الأخرى ترى بأنّها ضحايا الإبادة الجماعيّة الرّوسيّة. ولذلك فانّ أولمبياد سوتشي سوف تعقد في بيئة معادية وغير مستقرّة سياسيّا. دور موسكو في هذا الاختيار قد يكون من الأفضل رؤيته بأنّه حالة أخرى من حالات استمرار الجهل وعدم الاكتراث لهذه المنطقة.

جون كولاروسّو،
كولنجوود، أونتاريو،
كندا.

ترجمة: عادل بشقوي 

25-شباط/فبراير-2009

مجموعة العدالة لشمال القوقاز

 

 

Share Button

اترك تعليقاً