هل هذه إيحائة وامعتصماه شركسيّة؟

هل هذه إيحائة وامعتصماه شركسيّة؟

نعم إنها لم تكن صرخة، بل إنّها إيحائة شركسيّة شابسوغيّة، لكنّها مدوّية بالمعنى البلاغي للكلمة، حيث جاءت من الوطن الشّركسي المحتل وهذه المرّه تحديدا من منطقة “ووبخيا”، وهو الإسم الشّركسي لما سمّته قوات الإحتلال الرّوسي بعد السّيطرة على شركيسيا وسقوط آخر معاقل المقاومة وحصول الإستسلام في 21 مايو/أيّار 1864 بسوتشّي. والإيحائة جاءت بدلا عن الصّرخة لتمام معرفة الأخت الشّركسيّة بندرة ونفاذ هذا النّوع من الهمم العالية والشّهامة الأصيلة وأخلاق الفرسان الشّجعان، الموصوفون بِ “الرّجال-الرّجال” للإستجابة، في زمان أصبحت فيه الأنانيّة والمصلحة الذّاتيّة والإنتهازيّة والجهل بحقائق الأمور، هي معالم وصفات أخلاقيّة يتّسم بها مجموعة كبيرة من الشّراكسة في الوطن الشّركسي في القوقاز المحتل، وكذلك في ديار الشّتات والإغتراب الإجباري.

إنّ البغاث بأرضنا يستنسر!

وهذا ما خرجت علينا به الأنباء مؤخّرا وتحديدا موقع ناتبرس بالّلغة الإنجليزيّة بشيئ ليس بجديد وليس بمستغرب إن عرفت حيثيّات الإحتلال والآثار الكارثيّة التي خلّفتها الجحافل الهمجيّة الرّوسيّة في القوقاز المحتل، حيث قام موقع “أخبار شركيسيا” بترجمة الخبر المقتضب الّذي نشره موقع ناتبرس الإخباري بتاريخ 24/8/2009، تحت عنوان “الضابط المسكوفي الذي أساء إلى الشابسوغ في سوتشي، يبدو بأنّ له اتصالات عالية المستوى” ما يرمز إلى تأصّل وصلابة المقاومة الشّركسيّة الّتي ما انفكّت تتصدّى للغزاة على كل صعيد وفي كل مكان وزمان منذ مئات السّنين وإلى وقتنا الحاضر، ولكن في هذا المثال الرّائع “تأتيك بالأخبار من لم تزوّدِ”، ونجد النساء الشّركسيّات يشحذن همم الرّجال الّذين قاموا بعمل الممكن في حدود ما هو مستطاع في ظل الإحتلال وأدواته ومرتزقته، وكأنّها قصّة من قصص المقاومة البطلة تحكى في العصر الحاضر ضد الإمبرياليّة الرّوسيّة البغيضة، وهذه الحادثة كأنّها تتلائم مع الحديث النّبوي الشّريف الّذي يقول: “من استُغْضِب ولم يغْضبْ فهوَ حِمار”… ومن هانت عليه نفسه، هان على الآخرين! لكن هذا المثل الحي يرينا هذه المرأة الشركسيّة الأديغيّة من الشابسوغ، والذين وقفوا إلى جانبها في التـصدّي لمثل هذه الحثالة البشريّة ليعبّروا بشجاعة ووضوح وعنفوان قومي صادق، قيامهم بالدّفاع عن الوجود وكذلك كرامة الوطن والإنسان ضدّ ذلك الرّوسي الخسيس المتعجرف من النازيّين الجدد الّذي لا يزال على رأس عمله الرّسمي في دولة الإحتلال، ويعيش في أوكار المجرمين الّذين هم امتدادا لهؤلاء الغزاة العنصريّين وحتّى المغالين في عنصريّتهم والّذين تعشّعش في عقولهم المريضة أنانيّة المستعمرين في تطبيق قوانين التّمييز العنصري والتطهير العرقي ضاربين عرض الحائط بكل القيم الإنسانيّة ومغالين بالتّمادي في التّعرّض للمدنيّين العزّل من السّكان الأصليّين الذين كادت القوّات الرّوسيّة أن تقضي عليهم عن بكرة أبيهم، بالإضافة إلى تشتيت شمل وتهجير وتطفيش من بقي منهم على قيد الحياة.

الإقتداء بالقادة المجرمين

فهل هذه المسرحيّة الجديدة القديمة تختلف عن مثيلاتها السّابقات أم أنّها لتذكير المواطنين الشّراكسة المزروعين في الوطن بأنّ عليهم إبداء الطّاعة العمياء للمستعمرين، أم أنّها أداء مسرحي للمجرمين المحتلّين عبر ضابطهم ضمن توزيع أدوارهم الشّريرّة الّتي يقومون بها خير قيام وهي تذكّرنا بالضّابط الرّوسي العقيد (أيضا) بودانوف الّذي فعل ما فعل وبدنائة وخسّة ضد طفلة شيشانيّة حيث اضطّرّت المحكمة الرّوسيّة لتجريمه والحكم عليه كقاتل ومغتصب لعفة فتاة في عمر الزّهور، حيث خرجت علينا الدّوائر الإستعماريّة الرّوسيّة مؤخّرا وقامت بالصّفح عنه لأنّه كما يبدو لم يفعل غير ما فعله ويفعله إخوان الشّياطين الّذين يطبّقون ما دأبوا على تطبيقه من أوامر وسياسات استعماريّة قلّ مثيلها بالتّاريخ البشري، اقتداءا بخطى “يرملوف الجزار المتعطش للدماء”،  عندما قام الروس بعدوانهم بقيادته، “وقد اتخذ مشروع القياصرة لغزو القوقاز، وعلى رأسها الشيشان، في هذه الفترة كل أبعاده بقيادة شخصية ما تزال حتي اليوم تمثل الرمز لهذا الغزو، وهو الجنرال الكسي يرملوف الذي عيّن عام 1816 نائباً للملك، وقائداً عاماً للقوقاز. وأعد له القيصر جيشا كبيرا وأعطي إشارة البدء بعملية الإبادة في القفقاس”، وكذلك الجزّار قائد أسطول البحر الأسود ميخائيل لازاريف، وغيرهم من الّذين قادوا ووجّهوا حروب الإبادة وكافّة المآسي الّتي ارتبطت بها ضد الأمّة الشّركسيّة والأمم المنكوبة الأخرى.

عقيدة وعقدة العداء ضد الشّركس والقفقاسيّبن

يبدو أنّ ظاهرة العقدة النّفسيّة هي  أصل سلسلة العقد المتلاحقة في الشخصية الاستعماريّة الرّوسيّة، ما أوجد عندهم شعور عميق بعقدة النقص، والذي ترسخ بمرور الزمن حيث أنّ عدم ثبات أصلهم وثقافتهم ولغتهم بالإضافة إلى أنّ تاريخهم لا يزيد عن ألف عام من الزّمان ممّا يؤكّد تدنّيهم الحضاري الذي أثبته مدى براعتهم بالتّسلّط على مقدّرات الآخرين وهم ليس لهم تراثا حضاريّا كباقي الأمم الأوروبّيّة وتجدر الإشارة هنا كذلك بأنّ  الأمّة الشّركسيّة لها تراثا حضاريّا يتجاوز عمره السّتّة آلاف عام، ناهيك عن أمم وشعوب شمال القوقاز الأخرى التي تفوق روسيا حضارة وعراقة ومثلهم كمثل شخص جاءت به ظروفه المواتية ليقود فريقاً من النّاس يفوقونه في تحضرهم وجاههم وتحصيلهم  وتفوّقهم الثّقافي ووجاهتهم، عندها لن يتمكّن من استيعاب الأمر بحيث يحافظ على توازنه النفسي والأخلاقي، فإنّه يتولد عنده شعور بالنقص تجاههم إضافة إلى إزدواجيّة في نفسه المضطّربة. وعند تكرار الموقف بصورة أو بأخرى تكون النّتيجة عنده  عقدة النقص القاتلة. وهذا يدفع قطعان المحتلّين الى اتباع أساليب ملتوية وشاذّة ووحشيّة لمحاولة التّمييز والموائمة لموازنة وتعويض الفرق بالتّفوّق، حيث يؤدّي ذلك إلى ظهور هدف استيعاب الآخرين منذ ظهور عقدة السيطرة الإستعماريّة لديهم مع ظهور إيفان الرّهيب وحتّى منذ الّذين حكموا قبله، حتّى صارت هذه السياسة جزءا من شخصيتهم وسماتهم الّتي يتميّزون بها.

إنّ بربريّتهم وتوجسّهم من الآخرين بالإضافة إلى شكوكهم وأنانيّتهم لتحقيق آمالهم البغيضة باخضاع هذا العدد الكبير من القوميّات الّذي يفوق المائة قوميّة مختلفة، لم يتحقّق إلا من خلال تعزيز شعورهم المهزوز بالتّفوّق وهمجيّتهم وفرض نظريّاتهم البدائيّة من حيث إعطاء أسباب واهية تجاه تحدّيات معيّنة يجعلونها سببا (كعذر أقبح من ذنب) لبسط هيمنتهم على القوميّات المختلفة.

وشعورهم بالنقص كما ذكر أعلاه، نتيجة لاختلال موازين الثُقافة والحضارة والعصرنة وشعورهم المقيت تجاه أصحاب الحضارات المجاورين لهم جعل رد الفعل البربري لديهم أن يقوموا بانتهاك المبادئ الإنسانيّة السّامية وسيادة الشّعوب وتنفيذ جرائم حروب الإبادة بقصد تدمير الشّعوب والحضارات والأمم وفق منطق القوّة والإستعلاء، وأدّى ذلك إلى هيمنة إقليميّة سياسيّة و عسكريّة واقتصاديّة، لكن التّجربة تثبت أنّ سيطرة الإتحاد السوفياتي المقبور على الشعوب والقوميات المختلفة وفرض المركزية الإداريّة عليها لم يفلح في كبت الشعوب واستمرار قهرها لأن الشّعوب وعندما حان الوقت المناسب لاسترجاع حقوقها نهضت وفكّكت ذلك الكيان المصطنع.والغريب في الأمر أنّه لا يزال هناك البعض ممّن يقيم بين ظهرانينا من السّذج وضعاف النّفوس لا يرون أنّه من الواجب التّصدّي لمثل هذا الـتّافه المارق الّذي يقوم بتطبيق السّياسة القمعيّة الرّوسيّة ضد أصحاب البلاد الأصليّين والحقيقيّين وهم لم يبخلوا على أمّتهم ولم يتهاونوا أو يقنطوا، بل حافظوا وضمن القدر الممكن على البقاء ,وهم مرتاحي الضمير في محيط من الوحوش لا تتوانى عن نهش اللحوم البشريّة في وضح النّهار وعلى رؤوس الأشهاد، ومن دون أدنى درجة من تأنيب الضّمير!

إن العقيدة الرّوسيّة التّوسعيّة تطبّق منهجيّة جيوبولوتيكية تقوم بتحقيق أغراضها عبر التّوسع على حساب الآخرين بشكل يعبّر عن إرادة شيطانيّة  شرّيرة، وإنّ ظهور مجموعات من المرتزقين تساير مثل تلك المنهجيّة الّتي تتكوّن من مزيج من المصالح الأنانيّة والإنتهازيّة وتتوافق معها يدل على مدى استغلال مثل تلك العناصر الّتي لا تعرف سوى طريق الإستعباد وتطبيق أجندة المستعمرين ضد الأمم المستعمرة. فالقوزاق أو القوازق وآخرين من قوميّات أخرى مثلا  – وهم ليسوا من الرّوس – لم يكونوا ليصبحوا من المحظيّين في الدّولة الرّوسيّة لو لم يلتزموا (بالعقدة الرّوسية التّوسّعيّة) فيحذوا حذو أسلافهم في معاداة الشّعوب وسلب حقوقهم وأراضيهم ومياههم سواء أكان ذلك في القوقاز، أم في باقي الأراضي الّتي قامت الجيوش الإستعماريّة الرّوسيّة بالسّيطرة عليها… وهم لم يمتزجوا بوشائج الصّلة الوثيقة مع الشعوب التي قاموا باحتلال أوطانها عنوة وكان ذلك سببا أكسب معظم الشّعوب المستعمرة إبقاء وتحصين خاصّيّتها القوميّة الّتي تختلف اختلافا جوهريّا عن قوميّة المحتلّين.

إنّ هؤلاء الصقالبة (Esclaves) لم ولن يتوانوا يوما عن عقدة الشّعور بالتّفوّق والوقاحة والفظاظة والسّيطرة على الشعوب وأوطانها من أجل ممارسة الغطرسة واحتقار الغير وسوء استعمال الحق والسّلطة، حيث أنّهم أناس متغطرسون وأكثر ميلاً من غيرهم لاحتقار الآخرين وإذلالهم وإخضاعهم والإفتراء عليهم وتشويه سمعتهم، وهم قوم (المحتلّون الرّوس) متحلّلون من كل القيم والأعراف والتقاليد، وفي نفس الوقت خبيثون وماكرون ومختالون وهذه هي صفاتهم الجينيّة المعروفون بها. وهم إن “طردوا من الباب عادوا من الشّبّاك” بواسطة مكرهم ودهائهم وخساستهم، إضافة إلى قوّاتهم التي لا تلتزم بمنطق غير منطق القوّة.

إنّ مشروعهم الإستعماري أرشدهم إلى تطوير أساليبهم من خلال أجهزة المخابرات والإستخبارات لكبت أنفاس الشّعوب وقضم حقوقها من خلال التّملّق والتّلوّن والمداهنة والغش والمراوغة والخداع والباطنية والغدر واستعمال الأدوات اللازمة لإيصالهم إلى مآربهم، ومثلهم مثل الحرباء، حيث ينطبق عليهم هذا التّشبيه لأنّهم يغيّرون ألوانهم دوريّا وبالتّالي يقومون بتغيير سياساتهم بما يتناسب مع تغيّر ألألوان حسب الحاجة، ويلاحظ كل ذلك من خلال تصرفاتهم وتعاملهم مع الغير، واستطاعوا في معظم الأحيان المحافظة على الأمان والأستحواذ على الآخرين من خلال حملاتهم الحربيّة المستمرّة وسياسة توجيه الضّربة الأولى ضد الآخرين والتّوسّع المستمر.

الكيان الرّوسي المصطنع

ونشر موقع “الجزيرة توك” مقالا بعنوان “الحروب الروسية الصليبية ضد المسلمين في القوقاز” ورد فيه سردا وافيا للمراحل التي أثّرت على مجريات الأمور فيه، وتم ذكر أهمّيّة رسالة الرّحّالة العربي “ابن فضلان” والّتي اعتبرت أول صورة نقلت عن مخطوطة عربيّة يمكن الاعتماد عليها عن روسيا، في العصور الوسطى . وقال – الرحالة ابن فضلان – عن سكانها بأنهم أكثر خلق الله جهلا، وهم على عكس جيرانهم من البلغار، فقد ظلوا على الوثنية، وهم سفّاكون للدّماء، مولعون بالحروب، سرعان ما تنشب بينهم الحروب والنّزعات الدّموية، وتتفشى فيهم السرقة، ويكثر القتل، حتى أصبح عادة شائعة عندهم، وفي عرفهم فإنّهم يعتبرون أن الحكم النهائي هو للقوّة، فإذا احتكموا إلى ملكهم، ولم يقتنعوا بحكمه يطلب منهم المبارزة بالسيوف. ووصف ابن فضلان طقوس الوفاة عندهم، فقال: أن الروس – سواء كانوا فقراء أو أغنياء – يحرقون موتاهم، وقد جرت العادة أن يموت الرجل بمحض إرادته حالما تموت زوجته. وذكر بأنّه لم يُعرف للروس أية مساهمات ملموسة في تكوين الحضارات الإنسانية، كما لم يكن لهم كيان معروف أو اسم متداول إثناء فترة الفتوحات الإسلامية للأقاليم الشرقية في آسيا الوسطى والقوقاز. وأقدم المعلومات التي دوّنها العرب في كتبهم، حول الروس وبلادهم، تعود إلى بداية القرن الثالث الهجري، وقد كان ذلك من خلال الرّحّالة العرب الذين جابوا مناطق القارّة الآسيويّة، ومنها روسيا، وذكر أيضا بأنّ الجمهوريات التي أقامها القوزاق في المناطق الحدودية لمنافسة موسكو ووارسو قد اختارت الانضواء تحت راية الروس. وكان القوزاق دائما – وهم مسيحون أرثوذكس، بل ومن السلاف على الأرجح – يعتبرون رأس حربة في يد القياصرة الروس في حروبهم التّوسّعيّة. وجاء في نفس المقال بقلم: أحمد الظرافي في القسم الثّاني منه بعنوان، “جذور مأساة المسلمين في القوقاز”: “وفي ضوء ما سبق يمكن القول أن جذور مأساة المسلمين في آسيا الوسطى والقوقاز وشبه جزيرة القرم ، والتي هي أساسا من صنع الصليبية الروسية الحاقدة ، ترجع إلى القرن السادس عشر الميلادي. وسيقتصر حديثنا هنا حول مأساة المسلمين في القوقاز. ففي النصف الثاني من القرن العشرين شرع إيفان الرهيب – العقل المدبر للإمبراطورية الروسية – بالتمدد نحو الجنوب بهدف السيطرة على إقليم القوقاز الجبلي ، والوصول من خلاله إلى المياه الدافئة في بحر قزوين والبحر الأسود، ثم إلى جورجيا، الدولة المسيحية في القوقاز الجنوبي ، والتي وقعت حينذاك بين مخلبيّ إيران وتركيا.”

بقي أن نقول

والعدالة ستتحقّق يوما ما وسيأخذ كل ذي حق حقّه، لأنّه ما من ظالم إلا سيبلى بظالم، و قال الشّاعر: لا تظلمنَّ اذا ما كنت مقتدرا / فالظّلم آخره يأتيك بالنَّدم؛ نامت عيناك و المظلوم منتبه / يدعو عليك وعين الله لا تنم، وقال تعالى في سورة فاطر: “وَلاَ يَحِيقُ المَكرُ السَّيِيّءُ إِلاَّ بأَهلِهِ”، وكذلك قال المثل الشّائع “إن مفاتيح الأمور العزائم”، ثمّ “إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن بحزم ناصح أو نصيحة حازم”.

إيجل

 

Share Button