عودة مجبولة بالمرارة… و إرادة و صمود مجبولين بالحديد
من مراسلنا في الأديغي نارت أستيمر
الثلاثاء 29 تموز 2003
الثلاثاء 29 تموز 2003
لطالما حلم رشاد بأرض أجداده، و كثيراً ما تساءل منذ نعومة أظفاره مثل الكثيرين من أبناء وطنه: من نحن؟ و ماذا تعني أديغه؟ و أين هو القفقاس؟ و لماذا نحن بعيدون عنه ؟! و كانت هذه الأسئلة تكبر في ذهنه يوما بعد يوم و تتأجج حماسة كلما سمع أغنية أو لحن رقصة من الفلكلور الأديغي أو سمع مثلاً أو قصة من الأديغة خابزة.
و تمر السنين و رشاد يتأرجح بين حلم و محبة يتأججان بين جنبات قلبه الطيب و بين متطلبات الحياة و واجباتها، ليحلم و يتعلم و يصبح بعد حين مصوراً تلفزيونياً في هيئة الإذاعة و التلفزيون في تلفزيون برشتينا في كوسوفو.
و في عام 1993 انتصر عشق الوطن في قلبه الطيب ليقرر هو و خمسة من رفاقه العودة إلى وطنهم الأم ليستقروا إلى الأبد في مايكوب عاصمة الأديغي الجميلة ليكون بذلك من أوائل الأديغيين العائدين من كوسوفو.
قبل حزم حقيبته المتواضعة بفترة طويلة و خلال استعداده للعودة سمع العديد من النصائح و التحليلات التي كانت كثيراً ما تستـفز أعصابه: ماذا لك هناك يا رشاد؟ … من سيقف معك هناك يا رشاد؟… إن العودة ضرب من الجنون… فكر يا رشاد و حكم عقلك يا بني… و غيرها الكثير الكثير
و لكن رشاد كان يدرك بوضوح رغم تألمه أن ذلك أمر طبيعي من أبناء شعب لاقى الويل و عانى الكثير قبل طرده من أرض أجداده و ما تلا ذلك من معاناة كانت أشنع عبر مسيرة الترحيل الطويلة جعلت أبنائه على ما يبدو يخافون تلك الأيام و ذكرياتها المرة و تركتهم يتمسكون بالاستقرار و لو تحت ظلال صبارة في بادية جرداء قاحلة. و رشاد أبازة كان يتساءل في قرارة نفسه: و لكن أيعقل أن نعتز بانتمائنا للأديغه و نحب عاداتنا و تقاليدنا و أرض أجدادنا و ألا نحلم بالعودة إليها، و لا نتمسك بحقنا في العيش فيها؟
و يمضي قدماً نحو القفقاس الغالي و الفرحة و السرور تملأن قلبه، غير مكترث بشيء سوى التوحد مع أبناء شعبه هناك و الانغماس عميقاً في بطون أرض الوطن الحبيب. و كان التوحد الأول بزواج موفق أسعد به الأهل و الأصدقاء و توّج بثلاث غرسات جميلات: شامل، ستناي، حاج مراد. و بقي رشاد دوماً متميزاً بطيبة القلب و بساطة التعامل و الانفتاح على المحيطين من حوله من أخوة له عائدين أو محليين بعيداً عن روح الفئوية و كل هاجسه التكاتف و التضامن مع الجميع.
لكن الحياة أبت إلا أن تشاكس هذا القلب الطيب لتؤكد من جديد حكمتها الأزلية أن “لا راحة لمؤمن إلا بلقاء وجه ربه”. فمنذ أيامه الأولى في مايكوب لم يوفق في عمل يؤمن له الراحة النفسية و البدنية، فرغم أنه صاحب شهادة في الإلكترونيات عمل بها سنين في تلفزيون برشتينا إلا أنه لم يوفق في تعديل شهادته بسبب الحواجز و الاشتراطات البيروقراطية ـ 1 ـ. و حتى يجابه متطلبات الحياة مارس العديد من الأعمال من الزراعة و أعمال البناء إلى الإلكترونيات، و لم يكن يأبى القيام بعمل شريف مهما كان شاقاً و تعيساً و غير مجزياً بالنسبة له في سبيل العيش بشرف و كرامة و الصمود و الاستقرار على أرض الوطن، غير آبه بوجود أو عدم وجود صندوق دعم العائدين ـ 2 ـ
و للأسف لم تخلُ حياته من منغصات من ألوان أخرى؛ فعندما اندلعت نيران الحرب الأهلية القذرة و أحاطت أهلنا في كوسوفو خسر والده الذي اغتيل في منزله، و ضاع أخوه ضياعاً بائساً في حيثيات و متاهات الفلتان الذي رافق هذه الحرب. و عندما لحقت به عائلته من هناك بعد تقديم الجهات الرسمية في جمهورية الأديغي و روسيا الاتحادية المساعدة و مساكن مجانية جديدة لكل عائلة عائدة من كوسوفو، في ظل هذا الموقف الرسمي المتميز يوم ذاك، حاول البعض التلاعب عبر متنفذين و كادوا أن يستولوا على الدور الخاص بأهله لاستلام البيت المخصص لهم في قرية مافه حبله. إلا أن جسارته و مساندة بعض العائدين له حالت دون ذلك.
و عندما وقع رشاد أبازة من السقالة الخشبية العالية و هو شاب لم يتجاوز الأربعين من عمره لم نحزن و نتألم لفقدانه فحسب، بل حزنا و تأسفنا أكثر لأنه مات و هو يزاول عمل لا علاقة له بالعمل الذي بذل العديد من سنين عمره في دراسته و إتقانه.
رحمك الله يا “أبا شامل” لقد اختزلت في حياتك القصيرة معاناة الكثيرين من العائدين من أمثالك، و أكدت لنا بروحك الطاهرة و صمودك المتواضع أنه إذا كان عشق الوطن جنون، فما أحلى الجنون، و أنه إذا كان لا بد من كسر الحجارة من أجل الصمود في أرض الوطن، فهيا بنا نُكسر ونأكل من هذه الحجارة. لقد ذكرتنا بحكمة أجدادنا و بأن خسارة أيام و سنين من الراحة و الهناء أهون ألف مرة من خسارة الوطن فكما قال أجدادنا:
من يخسر وطنه يخسر كل شيء.
(وكالة أنباء القفقاس)