كتب الاستاذ كمال جلوقة:
مشهد من المسرحية التي أعددتها لتحكي قصة تهجير الشعب الشركسي من بلاده، والتي أرجو أن أتمكن من إنتاجها على خشبة المسرح، وهذا مشروعي الجديد….
أصلان: أيها الرجال لقد اتفقنا على خوض أهوال هذه الرحلة ونحن نعرف ما سنواجهه من صعاب ومشقة، وسنقف معا إنشاء الله، مهما كلفنا الأمر من تضحيات، فهذا الشعب الذي قاوم الغزاة كل هذه السنين، يملك إرادة الحياة كما لم يملكها أي شعب آخر، فأرض الله واسعة وفيها متسع لنا ولغيرنا، وهذا ما حاولت مرارا أن أوضحه للجنرال يرمولوف قبل أن يقدم على حرق العشرات من القرى وتشتيت من بقي من أهلها، فإذا كان يريد الأرض فإن بها متسع لنا ولشعبه من القوزاق، غير أنه قال بأن سيده القابع في بطرسبورغ يريد الأرض دون سكانها،
رجل 1: وهل لنا من أمل وقد أكلت الحرب والمرض من أكلت، وها نحن في طريقنا إلى المجهول ولا ندري إن كانت ستكتب لنا الحياة في هذا المكان الآخر الذي تسمونه بأرض السلطان، وهل تلك الأرض خالية من الحرب والمرض، وهل بها أماكن تشبه أرضنا،
رجل 2: ألا تؤمن بالله يارجل، لقد وعدنا السلطان بأنه ينفذ إرادة الله وسيقوم بإسكاننا في أفضل أماكن مملكته الشاسعة!!
رجل 1: أتعتقد أيها البائس أن السلطان لا يملك مشاكل غيرنا، ثم أن أفضل الأماكن التي تتمناها لابد أن بها الكثير من السكان، وقد لا يصلنا إلا الأراضي التي لا يرغب بها أحد، كما أن السلطان يخوض الكثير من الحروب وقد يجد فينا جنودا خاضوا تجربة القتال لسنوات فيزج بنا في الحرب على الفور ويرسلنا إلى إحدى جبهاته الكثيرة…
تحدث جلبة كبيرة في وسط السفينة، ينظر الرجال فيشاهدون بحارة السفينة يحاولون أن يلقوا بشيء في البحر وفتاة بائسة تتمسك بهذا الشيء الملفوف ببطانية بالية.
فتاة 1: اتركوا أمي لا تلقوا بها في هذا البحر الهائج، دعوني أكلمها فهي لم تتركني منذ أن وجدت في هذه الحياة، أتركوها أرجوكم!!
البحار: هذه المرأة التعيسة فتك بها المرض وإن بقيت على السفينة لعدة ساعات فسينتقل المرض إلى كافة الركاب ونهلك جميعا، إتركيها تذهب إلى مصيرها المحتوم، فالبحر الكبير سيتكفل بها…
فتاة 1: لا لا أتركوها أرجوكم فهي كل من بقي لي في الحياة بعد أن فقدت الأب والأخ والقريب، أتركوها …
(تتشبث الفتاة بجثة والدتها ويحملها البحارة عاليا محاولين نزعها عن الجثة وعندما لا يجدون سبيلا إلى ذلك يلقون بالأثنتين معا، يحاول الرجال منع ذلك إلا أنهم لا يستطيعون، يسود جو من الحزن ويجلس الجميع محدقين في وجوه بعضهم البعض، ترتفع الموسيقى ويرتفع صوت الموج وأصوات طيور النورس التي تتكاثر فجأة)
في مقدمة السفينة يجلس إسماعيل وبالقرب منه غواشة
إسماعيل: غواشة يا عزيزتي، ها لقد وحدنا القدر من جديد، في هذا المكان الموحش، ونحن لا ندري هل سنبلغ اليابسة أم لا، وأي مصير ينتظرنا، وقد كنت على وشك البوح لك برغبتي في الزواج منك هناك في قريتنا، ولكنني شغلت عن ذلك بمطاردة مجموعة من القوزاق الذين أغاروا على القرية القريبة منا، وها نحن معا في سفينة وكل أهلنا هنا، وقد لا تتاح لي فرصة أخرى فهل تقبلين بي زوجا يا غواشة، أنا لا أملك ما أقدمه لك من مهر أو هدية تليق بك فأنت أجمل فتيات قريتنا وتستحقين أفضل ما يقدمه الرجال إلى زوجاتهم، أرجو أن تقبلي…
غواشة: أنا أعرف نيتك هذه وقد انتظرت طويلا أن تبوح لي بمشاعرك، ولكن الآن وفي هذا الظرف الذي نعيشه والذي لا ندري إلى أين سيؤدي بنا، أعتقد أن علينا انتظار نهاية هذه الرحلة التعيسة وبعدها فلكل حادث حديث.
إسماعيل: لدي شعور يا غواشة أننا يجب أن نقترن الآن!! هنا وعلى هذه السفينة!! سيظن الجميع إننا فقدنا عقلينا من هول الرحلة، وقد يلقوا بنا في اليم كما فعلو بالأمس، حتى لا نصيب الآخرين بجنوننا، وقد لا تتاح لنا فرصة أخرى!! من يدري فقد تفرق بيننا الأقدار في بلاد الغربة، وقد يخطفك أحد الباشوات ويجعلك جارية له، ونحن قوم فقراء لا نملك من القوة ما نمنع به ذلك، إمنحيني هذه الفرصة ودعينا ننزل إلى اليابسة زوجا وزوجة على سنة الله ورسوله.
غواشة: لقد بدأت أقتنع بأن البحر قد ذهب بعقلك، من تعتقد أنه سيرضى بالسير في خطتك المجنونة هذه؟؟ أهلي أم أهلك!! إنهم مشغولون بمعاناتهم، والكثير منهم قد يكون يعيش آخر لحظات حياته، ولكنك مجنون تماما كما عرفتك، لقد جعلتني أعيش أحلامك، ماهي خطتك بالضبط أيها العابث.
إسماعيل: إليك خطتي، أحمد!! تعال إلى هنا، ألم تقل لي إنك صديقي، أثبت ذلك الآن أحضر أختك إلى هنا فهناك واجب عليكما القيام به.
أحمد: ما الذي تقوله أيها المجنون، دعني فإن معدتي تكاد تخرج من مكانها، آه ، أنت في ماذا ونحن في ماذا؟؟
يرتفع صوت طيور النورس وينتقل إسماعيل وأحمد وأخته وغواشة إلى مؤخرة السفينة، يذهبون إلى زاوية يجلس فيها وجيه القرية مع عدد من أصدقائه، يدور حوار ونقاش لا نسمع منه شيئا، تهدأ الموسيقى شيئا فشيئا، ويرسل الوجيه أحد أعوانه إلى مقدمة السفينة.
الرجل: (مخاطبا والد غواشة) لقد أرسلني وجيهنا ليعلمك بأن ابنتك غواشة موجودة لدينا كوديعة لاتمام زفافها من أحد أفضل شباب قريتنا، وهو إسماعيل، ويخبرك وجيهنا بأنها ستحظى بأفضل معاملة لحين إتمام هذا الزواج.
الوالد: ما الذي تقوله أيها الرجل، أفقدت عقلك؟؟ أهذا ما فعله بك البحر؟؟
الرجل: لا ياسيدي، أنا لا أزال والحمد لله بكامل صحتي ولكن هذا ما طلب إلي إيصاله وأنا بانتظار جوابكم!!
الوالد: (مكلما نفسه) ماذا فعل هذا المجنون؟؟ لقد أخبرتني زوجتي بأن ابنتنا تتكلم بإعجاب عن هذا الشاب إسماعيل!! وأنا شاهدته يساعد المرضى وكبار السن، ولكن أن يخطف الفتاة وفي مثل هذه الظروف التي نعيشها، ياله من مجنون، يا إلهي…
الرجل: ما هو جوابك ياسيدي؟؟ (يقول مترنحا) فأنا لا أستطيع أن أقف هنا طويلا!!
الوالد: آه، لست أدري!! ألا نستطيع الانتظار حتى تطأ أقدامنا الأرض؟؟ نعم تلك هي عاداتنا اللعينة!! إذهب وأخبر وجيهنا بأنني لن أعقد قران ابنتي على هذا المعتوه إلا إذا وصلنا إلى الشاطىء.
يعود الرجل إلى الوجيه ويخبره بما قاله له الوالد.
الوجيه: إسماعيل يا بني!! إذهب أنت من هنا، إختف في أية زاوية من هذه السفينة اللعينة، ولا عليك أنا سأتكفل بإتمام هذا الزواج، والفتاة ستبقى عندي وفي حمايتي، لحين الوصول إلى الشاطىء، يا إلهي كم هو جميل أن أرى الشباب وهم يتعلقون بالأمل على الرغم من الأهوال التي مررنا بها وكم يسعدني أن أكون وسيلة خير في نشوء عائلة جديدة تعيد بناء بعض ما فقدناه من هذا الشعب الطيب، ولعل تلك الأرض التي سنصلها بعد أيام، تكون مستقرا لنا ولأحفادنا من بعدنا، ويكون عمرانها بأيدينا نحن بعد أن فقدنا الوطن الحبيب الذي لايساويه أي وطن آخر جمالا وبركة، ألا تزال هنا؟؟ هيا إذهب أيها الشقي!!
نهاية المشهد
نقل عن: http://www.jaccf.org/?p=1328