المساومة على الوطن الشّركسي، مرّةً أخرى!!!
عادل بشقوي
لم تكن أهمّيّة الوطن ولا مصيره يوماً من الأيام بالنّسبة للشّراكسة، شكلا لمقال سياسي أو موضعاً لمساومة ولكنه كان دائماً وسيبقى أغلى ما يملكه الإنسان الشّركسي، ويفتدى بالمهج والأرواح، فهو يعتبر هويّةٌ وانتماءٌ وترابٌ و سماءٌ وهواء وأمان؛ ويكرس ذلك قول ونستون تشيرشيل: “الوطن شجرة طيبة لا تنمو إلا في تربة التضحيات وتسقى بالعرق والدم”. و يؤمن الشّراكسة بما قاله فولتير: “خبز الوطن خيرٌ من كعك الغُربَة”.
دأبت أطراف مختلفة ومتعدّدة وغريبة عن الأمّة الشّركسيّة جملةً وتفصيلا وفي أساليب ووسائل متطفّلة وانتهازيّة وخسيسة وأحياناً محمومة، على القفز على الحقوق الإنسانية والقوميّة الخاصّة بالأمّة الشّركسيّة الّتي لا تحتمل لا المتاجرة ولا المراوغة ولا المداهنة، باعتبار أن أحد أسباب النكبة الشّركسيّة هو تدخّل القوى الطامعة من كل حدبٍ وصوب والتي دست انفها وبشكل سافر ومتغطرس في شؤون الامّة الشركسيّة ما أدّى إلى تحديد مصير أمّة قاست الأمرّين نتيجة لحرب ضروس أتت على الأخضر واليابس وساهمت في تعريض واقع ومستقبل شركيسيا الوطن التاريخي لأمّة عريقة ومتجذّرة في تاريخ القوقاز لأكثر من ستّة آلاف عام في خضم دفاع مرير ندر مثيله، إلى تداعيات تمزيق الوطن وتعرض شعبه للقتل والإبادة كنتيجة حتميّة لسفك الدماء وإزهاق الأنفس البريئة بأسلوب “الغاية تبرر الوسيلة”، وذلك غيلةً وغدراً وتقتيلاً وحرْقاً وإغراقاً واحتلالاً أجنبياً وتهجيراً قسرياً، ما أدّى إلى خسارة الوطن إلى حين، وذلك لصالح جشع واستحواذ المستعمرين؛ لكن “جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة”.
في حين أن معظم الشراكسة تم ترحيلهم بعيدا، وتم حرمانهم من حقهم في العيش بحرية في وطنهم على مدى السنوات المئة والخمسين الماضية، وكان على البقية الباقية أن يقاسوا نتيجةً للإحتلال، بينما يراقبوا الوطن الشركسي بأعينهم يتعرض للتمزق والتقسيم والتّفتيت وتغيير الهوية، في فترات متفاوتة من مختلف الأنظمة الروسية المتعاقبة منذ الحكم القيصري البغيض. لقد وصفت التجزئة بأنّها من أجل تدابير إداريّة، والتي وضعت الشركس في ظل ظروف الأمر الواقع المرير الذي فرض عليهم، وكذلك العيش في أماكن متفرقة ظهرت ووصفت بأنها مناطق و/أو جمهوريات حكم ذاتي في أرجاء مختلفة من موطنهم الأصلي، مع التأكيد على حقيقة أن ليس كل تلك المسمّاة المناطق الإدارية هي مرتبطة بعضها ببعض!
تجاهلت وأهملت السلطات الروسية ولغاية وقتنا الحاضر التفكير الجدّي لإيجاد حل معقول ومقبول للقضية الشّركسيّة وفقا للأسس القانونيّة والشّرعيّة والإنسانيّة الدّوليّة، بالإضافة إلى أن هذه السلطات تتعامى عن القضية وكل التداعيات التي نتجت عنها وبحاجة إلى حلول جوهريّة. إن الإستخفاف بالمآسي التي حلت بأمة عريقة ومتجذّرة في تاريخ القفقاس رغم أنها وصلت إلى حد الإبادة الجماعيّة والتطهير العرقي والتهجير القسري ما أدّى إلى القضاء على نصف الأمّة الشّركسيّة خلال الحرب الرّوسيّة الظّالمة التي شنت طوال 101 سنة استبسل خلالها الشّراكسة بالدّفاع عن الوطن بالإمكانيات المحدودة المتاحة إلى أن وصلت الحرب إلى نهايتها في 21 مايو/أيار من عام 1864 حين غلبت الكثرة الشجاعة. شركيسيا وأمم القفقاس الأخرى قاست نتيجة لحرب انتهت باحتلال كامل شمال القفقاس في القرن التاسع عشر، ولا تزال آثار ذلك ماثلة إلى اليوم؛ لكن هناك فارق هام بين ما جرى للأمّة الشّركسيّة وما جرى للأمم الأخرى! النّتيجة هو أن أمم أخرى كالشّيشان والداغستان وحتّى أبخازيا بالإضافة إلى آخرين لا تزال قائمة ويمكن التأكد من ذلك من خلال الخرائط المتاحة، إلا أن شركيسيا طمست وحتّى أزيلت من على الخارطة! لماذا كل هذا الجور والظّلم والإيذاء المقصود والتمادي في إنكار الحقوق الّتي لا تسقط بالتقادم، حيث أن مزيج ما ذكر، يعني تجاهلاً للقضيّة الشّركسيّة جملةً وتفصيلا؟
في شأن آخر، نشرت وسائل الإعلام المختلفة مؤخّراً أنباءاً عن قيام الأمير السعودي بندر بن سلطان رئيس المخابرات السعودي خلال قيامه بزيارة إلى الفيدراليّة الرّوسيّة ولقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتقديم عروض مغرية للقيادة الرّوسيّة على شكل صفقة تتضمّن عروضاً سخيّة بعشرات مليارات الدولارات، انهمرت كالمطر والتي شملت على سبيل المثال لا الحصر، أموراً سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنيّة تدخل في عمليّة المقايضة بالمواقف والمصالح في سبيل الحصول على تنازلات متبادلة تشمل سوريا وإيران ومصر ومصالح أخرى. ووفقاً لهذه الوسائل الإعلاميّة فإن المحادثات الّتي جرت في أحد منازل بوتين في ضواحي العاصمة الروسية تناولت مواضيع شملت الإرهاب والوضع في مصر واتفاقيات بيع السلاح الروسي بين الجانبين والإستثمار المشترك والتعاون الإقتصادي الذي يشمل النفط والغاز “في مجالات اقامة المصافي والصناعات البتروكيماوية” (http://m.assafir.com/?q=content/1377083142537871300 و http://www.alahednews.com.lb/essaydetails.php?eid=82083&cid=9).
لن نكرّر في هذا السياق رد الرئيس الرّوسي بوتين ولا العروض المقدمة ولا تفاصيل أخرى على هامش اللقاء، لكن ما يهم سياق هذا المقال هو الجزء الذي يهم القفقاس حيث أورد نفس المصدر أن الأمير السّعودي قال في مجمل ما قاله لبوتين: “«على سبيل المثال لا الحصر، أنا استطيع أن أعطيكم ضمانة بحماية دورة الألعاب الشتوية في مدينة «سوتشي» على البحر الأسود في العام المقبل. المجموعات الشيشانية التي تهدد أمن الدورة نتحكم فيها ولم تتحرك في اتجاه الأراضي السورية الا بالتنسيق معنا. هذه المجموعات لا تخيفنا. نحن نستخدمها في مواجهة النظام السوري ولن يكون لها أي دور أو تأثير في مستقبل سوريا السياسي».”!!! كيف تعطى الضّمانة بحماية الألعاب الأولمبيّة في سوتشي وهي آخر عاصمة لشركيسيا الحرّة قبل احتلالها من قبل روسيا القيصريّة، والّتي ستعقد في فبراير/شباط من العام القادم؟ وما علاقة الشّيشان بموضوع شركسي، ولماذا تخلط الأوراق على هذا النحو؟ إن ذلك يبدو كمن يقدّم أملاك الآخرين ما يؤدّي بالضّروره إلى تشابك الحقوق وضياعها من خلال وضعها في غير مكانها! ولن نكمل هنا لنهاية التّعهّد (الضّمان)المقدّم لبوتين، لأن الشأن السّوري بالمجمل ليس شأنا شركسياً. من هنا لن يقبل الشّراكسة ولا المنطق أن تقدم المساومات على شركيسيا في ظل غياب أصحاب الحق الأصليّين، وان حجب الحقيقة لم ولن يكون ممكناً.
في موضوع متصل وفي خضم تهافت الدّول النفطيّة على الإستثمار في روسيا، يمكن الإشارة إلى إتفاقات في مجال الإستثمار حيث قام مستثمرون من الإمارات العربيّة المتحدة وتحديداً دبي بتوقيع اتفاقات في سوتشي على البحر الأسود لجذب 800 مليون دولار من الإستثمارات من دولة الإمارات العربية المتحدة، وتم التوقيع عليها خلال شهر سبتمبر/أيلول من عام 2010 وللتركيز على أهمية ذلك حضر بوتين شخصياً مراسم التوقيع وذلك عندما كان رئيساً للوزراء (http://www.themoscowtimes.com/business/article/putin-welcomes-arab-cash-in-sochi/416584.html)، مثال آخر كان استثمار ثلاث مئة مليون دولار من قبل داماك التي مركزها دبي (http://www.tradearabia.com/news/real_185899.html, http://www.ammonnews.net/article.aspx?articleNO=86248)، وكذلك ما تم الإعلان عنه في الكرملين أن “أبوظبي تتوقع إيداع خمسة مليارات دولار في صندوق استثماري مشترك مع السلطات الروسية بهدف تمويل مشاريع بنى تحتية في روسيا”، وذلك يصب في زيادة حجم الإستثمارات العربية في روسيا (http://www.aljazeera.net/ebusiness/pages/86d3307d-ff2b-44fb-9a4c-8c2166bfc579)، وكانت “روسيا اليوم” قد نشرت في يوليو/تموز 2007 على موقعها على الإنترنت ان أحد المشاريع الكبيرة الأخرى التي يشارك فيها المستثمرون العرب في روسيا مشروع الجزيرة الأصطناعية الواقعة مقابل سوتشي المسماة “الفيدرالية”، ومساحتها 250 هكتاراً (http://arabic.rt.com/prg/telecast/17272-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%
%B1%D8%A8%D9%8A_%D9%81%D9%8A_%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7/).
يدرك كل الناس العقلانيّين والمثقّفين أن الحق والشرعية والإلتزام بالقانون والعدالة والحقوق الطبيعية المكتسبة هي حقوق كل إنسان منذ الولادة، والتي هي ليست امتيازات أو جوائز سخيّة انتقائيّة توزعها السلطات المتنفّذة، ومع ذلك يجب التأكيد على أن الطريق إلى الحرية والكرامة ليست مفروشة بالورود والياسمين؛ لكن “يساعد الله أولئك الذين يساعدون أنفسهم” حيث أن الخضوع “للأمر الواقع” هو ضعف واستسلام وانهزامية وهروب من الواقع. في ذلك السياق والمعنى، قال طاغور: {سأل الممكن المستحيل: اين تقيم؟ فاجابه: في أحلام العاجز.} إنّ قدر الشراكسة كان دائما وأبداً واجب الدّفاع عن وطنهم ضد الغزاة الطامعين، لكن الواجب الملقى على عاتقهم، يتطلب منهم مخاطبة العالم المتحضر، وأن يتضامنوا تضامناً غير مسبوق، من أجل رفع مطالباتهم، لاستعادة الحقوق المصادرة لغرض استعادة حقوقهم المدنية والمشروعة، وفقا لل”إعلان العالمي لحقوق الإنسان“. يجب أن تحل المشاكل التي أوجدتها روسيا القيصرية، والتي لا تزال تتعاظم ككرةٍ من الثلج حتى الوقت الحاضر. إن تطبيق القانون الدولي، وإنهاء الاستعمار، وحق جميع الأمم في تقرير المصير، وإعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية هو دين مستحقَ!
نقل عن: موقع الإبادة الجماعيّة الشّركسيّة على الفيسبوك