الفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن ضد قرار يدين قمع النظام السوري للثورة (الفرنسية)
يبدو موقف الكريملن من الثورات العربية المتلاحقة منذ ديسمبر/كانون الأول 2010 مركبًا، وفي الوقت نفسه غير قابل للتفكيك بسهولة ودون إمكانية لتحديد العناصر الرئيسية فيه والأولويات. وهناك أساطير تلف هذا الموقف لابد من حصرها لمواصلة البحث في صميم السؤال.
لو اتجهنا من الخارج إلى الداخل سنصطدم بأسطورة خارجية (عربية) مفادها أن موسكو متحالفة مع الأنطمة العربية المتهاوية بسبب ارتباطها بمصالح مشتركة وبعقود بمليارات الدولارات، وأن موسكو بدفاعها عن هؤلاء تدافع عن “مجالها الحيوي”.
أما لو دخلنا إلى روسيا الشاسعة فسنصطدم بأسطورة داخلية تروج في موسكو ومفادها أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة يقوم ببلبلة ليست مختلفة في جوهرها عن الفوضى البنَّاءة سيئة الذكر، والهدف منها هو توتير السياسة الدولية في انتظار قيام حرب إقليمية كبرى أو حتى عالمية من شأنها أن تحل تناقضات الأزمة المالية المتفاقمة والتدهور المحدق بأكبر اقتصاديات العالم. وما ربيع الثورات العربية، وفق هذه النظرية، سوى حلقات من المؤامرة بعد أن جرَّبت أميركا التدخل العسكري لإسقاط الأنظمة في أفغانستان والعراق وتوصلت إلى إمكانية جني الثمار بأيدي أصحاب البلاد.
لو بدأنا بالأسطورة الخارجية سنجد أن من يروِّج لها أكثر من وسائل الإعلام الروسية هي وسائل الإعلام العربية، وهذا راجع قبل كل شيء إلى أن العقل السياسي العربي لا يزال يتعامل مع موسكو وكأنها عاصمة دولة عظمى لا تقل عن عاصمة الاتحاد السوفيتي شراهة للحفاظ على مراكز ثقلها في العالم. وفق هذا الفهم القديم تبقى الذاكرة العربية وفيّة لمقولات قديمة لم تعد قائمة في الخارطة السياسية العالمية. عندما طارت المقاتلات الإستراتيجية الروسية من طراز توبوليف 160 ووصلت إلى فنزويلا لم تُعِرْها أميركا أية أهمية لأنها تعرف أن هذه الحركة هي للاستخدام الداخلي لا غير، وأن هذه الطائرات ربما كانت تكمل بهذه الرحلات عمرها الافتراضي لا أكثر. أما الفكر الجمعي العربي فقد هلَّل لها باعتبارها إشارة إلى عودة التوتر بين روسيا والغرب، وأن المستفيدين قبل غيرهم سيكونون عربًا أيضًا. لا يريد العرب أن يفهموا أن التناقضات بين روسيا والغرب قد تراجعت إلى مستواها الوطني منذ أن سقط محتواها الأيديولوجي.
لو تحدثنا مثلاً عن أحجام التبادل العسكري بين روسيا وبعض الأنظمة المتساقطة وتحديدًا النظامين الليبي السابق والسوري سنجد أن هذه الأحجام خجولة للغاية، وأنها لا يمكن أن تحدد سياسة بلد مثل روسيا له ثالث احتياطي عالمي من العملة الصعبة بما يفوق 500 مليار دولار؛ فالصفقات التي كانت مرتقبة (وليست فعلية) مع القذافي في مجال الأسلحة لم تكن لتتجاوز أربعة مليارات دولار، في حين أنها مع سوريا كانت أقل من ذلك بكثير. أما قاعدة طرطوس، وهي على أية حال محطة لتصليح السفن أكثر منها قاعدة عسكرية دائمة؛ فهي، كما يردد الروس أنفسهم، ليست بتلك الأهمية التي يمكن أن تحدد موسكو مواقفها على أساسها، ويكفي هنا أن نذكر أن الكريملن نفسه منذ أن وعى أنه لم يعد ثاني اثنين تخلَّى عن فكرة القواعد الخارجية، وقد رآه العالم وهو ينسحب طواعية من كوبا وفيتنام ويُخلي قواعده العسكرية هناك، فما الذي سيجعله يستميت إذًا في الدفاع عن قاعدة طرطوس؟ وما المانع -كما قال السياسي الروسي المخضرم يفغيني بريماكوف- من الحفاظ على هذه القاعدة، لو كانت مهمة إلى هذه الدرجة، بأي شكل ممكن بما في ذلك عن طريق مساعدة المعارضة السورية الآن ضد النظام السوري لو كان الساسة الروس مقتنعين بالتعاون مع هذه المعارضة؟ لابد أن موسكو لا تفكر في مثل هذه الأمور وهي تدير ظهرها للثوار العرب.
قرر الغرب إذًا مرة أخرى تغيير صورة العالم التي أصبح يشوب أفقَها كثير من السواد بسبب رهاب خطير خلفته الأزمة المالية. لأجل ذلك فكّر الغرب وتفتق إبداعه عن فكرة رهيبة يتخلى بموجبها عن حلفائه التقليديين من زعماء العرب الذين كرهتهم شعوبهم ويتحالف مع عدو سابق هو الإسلاميون. دور الإسلاميين محدد وفق هذه الأسطورة بخلط الأوراق قبل كل شيء في منطقة الشرق الأوسط وصولاً إلى إشعال حرب بين إسرائيل وجيرانها؛ ومن ثَمَّ دخول إيران وتركيا على الخط، وليس القوقاز ببعيد، وهكذا دواليك…
الكاتب الروسي نيكولاي ستاريكوف مطروح منذ فترة على الساحة كمفكر روسي متميز، وهو عندما يقارب الربيعَ العربي يصبح من مناصري نظرية المؤامرة بصراحة، ولا يكتفي بالحديث عن مسلسل من الثورات بإخراج هوليودي، بل يمضي أبعد من ذلك ويرى حلقة أخرى فيه وهي حلقة المطالبة بالاعتراف الآن بالدولة الفلسطينية، ويرى أن أميركا أصبحت الآن جاهزة لبيع إسرائيل ودفعها إلى الدخول في حرب طاحنة مع جيرانها الذين سيُحكمون قريبًا من قبل السلفيين. والخوف هنا ليس على إسرائيل أو على العرب بقدر ما هو خوف من أن تنتشر الفوضى وتصل في آخر المطاف إلى روسيا المرتبطة بالعالم العربي الإسلامي بأواصر عميقة وخفية.
السبب الثاني لاستشراء العداء للغرب في روسيا الاتحادية هو استغلال هذا الشعور من قبل النخبة الحاكمة المسيطرة على جميع وسائل الإعلام وخاصة المرئية منها استغلالاً يشتد، خاصة في الحملات الانتخابية لملئها بمضمون خارجي طالما لا يمكن ملؤها بمضمون داخلي، وذلك بسبب انعدام المنافسة السياسية الحقيقية باعتبار أن الغلبة واضحة ومعقودة لطرف واحد. وهذا هو الوجه الوهمي للعداء للغرب لأن الحقيقة هي أن السلطة في روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي لم تعد فعلاً معادية لهذا الغرب. بل إننا إذا اعتمدنا المحددات الاقتصادية فسنجدها حليفة له، وإذا اعتمدنا العلاقات الخارجية مع الدول الأجنبية فسنجدها تلتزم بالرؤية الأميركية غالبًا، وما ملف التعاون العسكري مع إيران إلا خير دليل على ذلك، ولعل الجميع يذكر صفقة صواريخ إس 300 التي أُبرِمت بشكل قانوني ودُفع من مقابلها الجزء الأول ولكنها أُوقفت بسبب التدخل الأميركي. ولو عدنا قليلاً إلى الأسطورة الأولى التي ذكرناها أعلاه والمتعلقة بالتعاون العسكري الروسي مع دمشق لرأينا أنه هزيل لأنه يخضع لمعادلة التوازن العسكري القائم بين العرب وإسرائيل والذي لا تسمح موسكو لنفسها بأن تخرقه، وعليه فإن معظم طلبات دمشق في السنوات الأخيرة من الأسلحة الروسية المتطورة قوبل بالرفض بسبب تدخلات إسرائيلية وأميركية. ليس هناك ضرورة لكي يكون الإنسان اختصاصيًّا في الأمور العسكرية ليعرف أن ميزان القوى مختل جدًّا في صالح إسرائيل؛ وهذا دليل آخر على أن أسطورة المصالح الروسية العسكرية في سوريا تعرج، وأن العلاقة الإستراتيجية الحقيقة لموسكو هي مع تل أبيب.
لو عدنا إلى الربيع العربي لوجدنا أنه فاجأ موسكو التي كانت تربطها علاقات عادية بالأنظمة العربية ربما باستثناء نظام حسني مبارك الذي رفعت معه موسكو درجة التعاون إلى مرحلة إستراتيجية. ثورة تونس جوبهت بخطاب روسيّ دبلوماسي سياحي من قبيل: يوجد لحد الآن عشرون سائحًا روسيًّا على الأراضي التونسية، وحسب معلومات وزارة الخارجية هم جميعًا بخير. وفي مصر تكرر الأمر نفسه ولكن بأعداد أكبر: هناك 20 ألف سائح في شرم الشيخ، كما أرسلت موسكو نائب وزير الخارجية الروسي السابق ألكسندر سلطانوف إلى حسني مبارك قبل أن تقيله من جميع مناصبه بما في ذلك الممثل الخاص للرئيس الروسي في الشرق الأوسط. عندما وصلت الأمور إلى ليبيا تحفظت موسكو على قرار مجلس الأمن ولم تستخدم حق الفيتو، ولكنها أمعنت في نقد تأويل حلف الناتو له؛ وهنا حرَّكت النخبة الحاكمة بعض سفرائها السابقين والمستشرقين ورجال السياسة الآفلين لتشكيل جبهة تضامن مع النظام الليبي ثم توسع محيطها ليشمل النظام السوري. تأخرت موسكو في ليبيا وبدا لها أنها لم تتصرف بحكمة إذ لا يُعقل أن تتحفظ على قرار مجلس الأمن ثم تستغرب تأويلاته الخطأ! كيف يعقل أن وزارة الخارجية الروسية بخبراتها المتراكمة في التعامل مع الغرب وسياساته لم تتمكن من استقراء الوضع بعد الحظر الجوي على ليبيا؟! استاءت موسكو للأمر كثيرًا وعندما حانت الفرصة في سوريا تذكرت أنها تستطيع استخدام الفيتو.
قبيل استخدام حق الفيتو بأيام أعلن الثنائي بوتين-ميدفيديف عن تبادل الأدوار بينهما للمرة الثانية. على مدى أربع سنوات كان الهمّ الأكبر للدوائر المرتبطة بالسلطات الروسية هو إيهام الجميع بوجود خلافات بين الرجلين، وأن ثانيهما يمثل التحديث والتوجه نحو الغرب فيما يمثل الأول الاستقرار والثبات في التوجه الوطني. وحتى المواقف إزاء الثورات العربية كان يراد لها أن تشي بوجود خلاف معيّن بينهما فيتكلم بوتين مثلاً عن حملات صليبية ضد ليبيا فيراجعه الرئيس ميدفيديف ثم يعلن لاحقًا في قمة الثماني بدوفيل الفرنسية أن القذافي قد فقد شرعيته. ويتكلم بعد ذلك عن مستقبل حزين للرئيس السوري وهكذا إلى أن جاء مؤتمر حزب روسيا الموحدة الذي شهد اعترافًا مدويًا للرجل الأول بأنه متفق مع صديقه منذ البداية على كل الأدوار وأنه لا خلاف بينهما فهما يعملان في فريق واحد موحد.
الآن انتهى مسرح العبث وعادت الخشبة إلى سابق عهدها ولكن الانتخابات على الأبواب ولابد أن يكون لها حامل سياسي. لا تستطيعه الخارطة الحالية بحزب روسيا الموحدة المحتكر للمشهد وبالمعارضة الصورية التي لا تستطيع خداع أحد بوجود تناقضات حقيقية مع السلطة. الحامل السياسي الوحيد هو العداء للغرب وإحدى تجلياته المواتية حاليًا الموقف المضاد للغرب من الثورات العربية، وبالذات في سوريا، بالإضافة إلى تسخين ملف الدرع الصاروخية، وربما الملف الإيراني، وغير ذلك من الملفات التي تبقى عالقة للمناوبة هنا أو هناك.
أخيرًا لماذا لا نسأل السؤال المهمّ: لقد انتقل الربيع العربيّ إلى أماكن أخرى في العالم وها هو يطرق أخيرًا أبواب أميركا نفسها. لماذا لا نتصور أن روسيا، بعيدًا عن كل الأساطير التي تلف مواقفها، خائفة على نفسها؟ ذات مرة قال الرئيس ميدفيديف: إن روسيا ترتبط بعلاقات عميقة مع العالم العربي وهو –أي الرئيس ميدفيديف- يبدي احترازه ممّا يحصل هناك. أتراه كان يقصد أن هذه الثورات قادرة على الوصول إلى أراضيه؟ وهل ينبغي أن نفهم هنا بالضرورة أن الخوف كل الخوف ممّا قد يحصل في القوقاز الشمالي مثلاً؟ ولماذا لا يخاف ميدفيديف مثلاً على مدنه الكبرى مثل موسكو وبطرسبورغ؟ كل الأسباب ماثلة أمامه؛ فهو يتكلم عن فساد مستشرٍ قلَّ نظيره حتى في الدول العربية. أما حرية الكلمة في روسيا فوضعها لا يمتاز كثيرًا عن بعض الدول العربية، ناهيك طبعًا عن احتكار السلطة وتغييب المعارضة الفعلية واستفادة زمرة من رجال الأعمال من موالاتهم. أليست هذه هي الأسباب الرئيسية التي قامت الثورات العربية بسببها؟ لابد إذًا من الذهاب بعيدًا في فهم عمق الموقف الروسي. ليس حبًّا في القذافي أو الأسد تتحفظ موسكو وتستخدم الفيتو. المرتبة الأولى في سلَّم أولويات السلطات الروسية هو الحفاظ على هذه السلطات، والمطلوب هو إيقاف زحف الربيع العربي لكي لا تنتقل عدوى الثورة إلى آسيا الوسطى، وربما ستجد روسيا نفسها تواجه الربيع وهو يقترب من حدودها وهو إن قدم فلن يكون كتلك الثورات الملوَّنة التي خبرتها روسيا على حدودها في أوكرانيا وجورجيا وقرغيزيا لأن الشعوب العربية لم تقم بما قامت به بدعم من الملياردير سوروس بل بشكل عفوي وهذا ما لا يمكن مقاومته. روسيا لا تخاف أي عدوٍّ غربي فجميع حملات الغرب على روسيا باءت بالخيبة، ولكنها تخاف من القاعدة التي تقول: إن القلاع تؤخذ من داخلها. ما حصل ويحصل في الدول العربية من عصيان وثورة على الحكام لا يجب أن يصل إلى داخل روسيا.
إذا أردنا إذًا أن نميز الأسطوري من الواقعي في الموقف الروسي من الربيع العربي لابد ألا يلهينا البحث عن مصالح روسية عظمى مع الدول العربية في حين تقول لنا الإحصائيات: إن مجمل أحجام التبادل الاقتصادي الروسي مع جميع الدول العربية لا يتجاوز العشرة مليارات من الدولارات في حين تستأثر دولة وحيدة مثل تركيا بأكثر من ثلاثين مليار دولار من التبادل التجاري مع روسيا سنويًّا. أين هي المصالح إذًا؟
لا ينبغي أن نستمع كثيرًا للنخب الروسية المرتبطة بدرجات متفاوتة بالسلطة وهي تتحدث عن مؤامرة غربية على العالم العربي ولا ترى أن الغرب في عقر الدار بموسكو وغيرها من حواضر روسيا.
سر الموقف الروسي كامن في أمرين متلازمين، وهما: الحفاظ على السلطة، والحفاظ على بلد تحكمه هذه السلطة. المطلوب أولاً هو الترويج للعداء مع الغرب كعملة سهلة للتدليل على الروح الوطنية التي يتحلى بها الحاكم بأمره. والمطلوب ثانيًا هو إيقاف الربيع العربي هناك بعيدًا قبل أن يقترب ويزداد اقترابًا.
رب ضارة نافعة. قد يفعل الموقف الروسي الحالي فعله في الخيال العربي، ويخلخل الصورة السوفيتية القديمة التي لا تزال على قيد الحياة فيُفلت التحليل السياسي العربي من ثنائيات الحرب الباردة. بعد عشرين عامًا على انهيار الاتحاد السوفيتي تغيرت موسكو كثيرًا والتوجه الغربي في سياساتها مهيمن على غيره، ومصالحها الاقتصادية الحقيقية ليست مع غير الغرب، أما العرب فهم مثل الروس موسومون بلعنة الخام في صادراتهم ولا يمكن أن يقدّم أحدُهما للآخر الآن سوى كثير من الأوهام وقليل من المنافسة. عندما يسأل العرب أنفسهم عن السر في تعنت الكريملن إزاء الثورات العربية لا يجب أن يجيبوا بسر آخر أكثر طلاسم من قبيل الذهاب إلى أساطير المصالح العظمى المتبادلة.
ستثبت الأيام إلى متى سيدوم هذا التناغم بين عاصمتي “الممانعة” العربية والعالمية: دمشق وموسكو! لنا أن نتصور لو عاد الغرب وقدَّم الضمانات اللازمة لموسكو في ملف الدرع الصاروخية، وأغمض عينيه عن المسرح الانتخابي، وسمح لبعض رجال أعمالها، على وجه الإرضاء بأموال الغير، بالحصول على بعض الصفقات في ليبيا؛ هل ستترك موسكو يومئذٍ نظام الأسد لمصيره الحزين الذي تكلّم عنه ميدفيديف ذات مرة؟ لذا لا ينبغي للأسد أن يطمئن كثيرًا كما لا ينبغي للمعارضة السورية أن تجعل من استرضاء موسكو سببًا رئيسيًّا لنجاحها؛ فالأمور في سوريا لن يحسمها سوى الشارع السوري.
_____________
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/196AEE54-FFF1-4C76-A3AE-59410AF1D371.htm?GoogleStatID=24