في الفكر الشركسي
بقلم: علي كشت
منذ نهاية العام 2009 والساحة الشركسية تشهد العديد من الاحداث المتتالية والتي تعصف بالواقع الشركسي بكافة جوانبه وتشير الى كم هائل من التحديات امامه، الا ان المتابع للمشهد الشركسي يلاحظ انه ينقصه شيء ما، وان هناك امر منقوص في هذا المشهد، فالحديث عن التحديات والاحداث وغيرها يشعر المرء انه امام شعب له قضية خاصة به، ، لكن وعندما ينظر الى المشهد الشركسي فانه يرى حالة من الفوضى والتخبط والتناقض وعدم القدرة على طرح القضية الشركسية بالشكل المفترض ، ويلاحظ تعدد المرجعيات واختلافها وبصورة تظهر ان هناك مشكلة واضحة في قمة الهرم الاجتماعي بالنسبة للشعب الشركسي، فالشراكسة وبحكم عوامل الهزيمة والتشرد في عام 1864 امسوا يظهرون بلا فكر او طموح او حتى هوية قومية خاصة ومحددة، بل ان مستوى التدهور والانحدار لديهم دفع بالاخرين بالتجرؤ على الادعاء بانه ليس هناك قضية شركسية بل انه لا يصح اطلاق مصطلح او لفظ “شعب” على الشراكسة لانهم شعب بلا وطن.
لقد خيب الشراكسة امل اصدقائهم واعدائهم على السواء، نظراً للمستوى الوضيع الذي وصل اليه الفكر الشركسي مما ادى الى فقدان القضية الشركسية للكثير من “المصداقية” و”الموضوعية”، وبدل من توجيه اسئلة حول ماهية القضية الشركسية، اصبح الاخرون يتساءلون، هل هناك شعب شركسي اصلاً حتى تكون له قضية؟؟!! واصبح السؤال الذي يواجه الشراكسة هل يمكن اعتبار الشراكسة شعباً؟!! وفي ظل هذا الانحدار الفكري والعقائدي للقضية الشركسية قد يكون من الضروري ايجاد وقفة “لجرد الحساب” واعادة صياغة المشهد الشركسي الذي تسيطر عليه حالة الفوضى والتناقض المسيطرة على الواقع الشركسي، وتعمل على تشويه القضية الشركسية بكاملها وتشكك في مصداقيتها ووجودها، ففي ظل هذه الحالة المعقدة يحاول البعض ايجاد رؤية “اولية” للواقع الشركسي تكون المرتكز الاساس في محاولة تناول هذا الواقع لتحليله واعادة تحديد مدخلاته ومخرجاته، من خلال تناول المواضيع التالية:
1.كيف يفكر الشراكسة؟ (الفكر الشركسي)
2.من يمثل الشعب الشركسي؟ (الشرعية)
- واقع القضية الشركسية (السياسة الشركسية)
مع قناعة تامة واكيدة ان الموضوع لا تكفي مقالة واحدة لتناوله بل انه اكبر من ذلك بكثير وبحاجة ماسة الى دراسات وابحاث علمية متخصصة لدراسة كافة جوانب الظاهرة (الشركسية) ولكن قد يفيد تقديم بعض الملامح الاولية لها:
اولاً: كيف يفكر الشراكسة؟ (الفكر الشركسي)
ان ابرز ما يميز الفكر الشركسي هو ان مجموعة القيم والمبادئ التي تعتبر من المسلمات لدى بقية شعوب العالم مثل الكرامة القومية والسيادة والمصلحة العليا وغيرها وهي غير قابلة للنقاش او المساومة لدى اي شعب اخر لكنها تعتبر امراً قابل للمناقشة لدى الفكر الشركسي بل انها قابلة للمساومة والتنازل، وذلك بسبب كون الشراكسة في حالة من الغياب الفكري القومي (فاقدين لمفهوم الايدلوجية) الذي يؤدي الى تدني مستوى العمل والتخطيط، وبالتالي فهم يملكون “غالبية جاهلة قومياً“ لا تدرك ما يدور حولها ولا تستوعب المخاطر والتحديات امامها، ويمكن تشبيه الحالة الشركسية بحالة المجتمع الايطالي وقت حكم الدويلات، وعندما كان كلا من الانقسام والتشرذم بفعل العوامل الداخلية والخارجية هما ما يتصف به الموقف العام آنذاك، ووقتها كانت مقدرات الشعب الايطالي تذهب للاخرين، ولكن عندما ظهر مفكرين من ابناء ايطاليا عملوا على اعادة الوحدة وتوحيد الفكر والعقيدة واعلاء المصلحة العليا للشعب، وعلى اي حال فان الفكر الشركسي يمتاز بعدة ميزات هي:
- مفهوم الزعامة او القيادة عند الشراكسة يخلو من الايمان بالزعيم او القائد الاوحد بحيث يفتخر الشراكسة بانهم لا يخضعون لقائد معين بل للحكم”المستنير” الممثل في طبقة كبار القوم ، وان نظام الحكم عندهم يجمع بين “الارستقراطية والديمقراطية” فالحكم في النهاية للمجموع اي الشعب بكامله وبالتالي لا يوجد اذعان او رضوخ لقائد او زعيم بعينه؛ ان بقية شعوب العالم ارتبطت امجادها باسماء قادتها وزعمائها، اي ان القيادة الصالحة كانت تخدم الشعب بكامله والسيئة كانت تطيح به، وحتى الشراكسة انفسهم عندما عرفوا الممالك والدويلات ارتبط تاريخهم باسماء زعماء وامراء تمكنوا من تجميع الشراكسة تحت قيادتهم فصنعوا لهم المجد والعلياء، هذا الحديث يقودنا الى اولى مميزات الفكر الشركسي ، لقد ادت عوامل التهجير والهزيمة عام 1864 الى انحراف الفكر الشركسي في موضوع القيادة والزعامة وبدل ان تكون الطبقة الحاكمة من العقلاء والحكماء ، فرضت الغوغاء نفسها حاكمة على الشعب الشركسي، فبعد سقوط شركيسيا في عام 1864 وبدء عملية التهجير والتشريد ، أخذت السلطات الروسية بالبدء بعملية الترويس وهي إحلال الفكر والهوية الروسية مكان الفكر والهوية الشركسية ، وصبغ مناطق الشراكسة بصبغة روسية كاملة ، وكانت إحدى الوسائل لتحقيق ذلك فرض مجموعات أو قيادات موالية لسلطات الاحتلال فكان يتم مدها بالقوة والمال لكي تتمكن هذه المجموعات من تبوّء مراكز القيادة في المجتمعات الشركسية وما أن تصل لهذه المراكز حتى تبدأ بالعمل على تحقيق مصالح من وضعها ، وهذا ما يفسر قيام السلطات الروسية بالتهجير والقتل والتنكيل للزعامات القومية التي رفضت التعاون معها ، سواء في الماضي أو الحاضر ، وعلى نفس المنوال عانت المجتمعات الشركسية في المهجر فكان يتم فرض زعامات ترتبط بشكل مباشر مع مصالح الاخرين ولا تمثل الارادة الشعبية الشركسية هناك ، وهكذا تم فرض زعامات على المجتمع الشركسي في المهجر أيضاً كما تم فرضها في القفقاس اذاً ساعدت فكرة الحكم لدى الشراكسة وهزيمة عام 1864 والسياسة الروسية في تدمير راس الهرم الشركسي ، فاصبحت “الغوغائية” هي راس الهرم الاجتماعي لدى الشراكسة وهو ما ادى الى فسادها وبالتالي فساد الشعب ككل .
- التبعية والرعوية هناك تناقض واضح لدى غالبية الشعب الشركسي فيما يتعلق بنظرية الحكم فهم يفتخرون انهم حكموا بلدان خارج حدود وطنهم ولكنهم في ذات الوقت يرون انفسهم دوماً يعيشون في اطار حكم وتوجيهات الاخرين، فالشركسي يفتخر بحكم المماليك ويناقش اسباب استبعاد الشراكسة في مراحل معينة من المراكز القيادية في بعض دول المهجر مثل تركيا مثلاً، ولكنه لا يتحدث عمن يحكم وطنه ، اي ان الشراكسة بشكل او باخر يتفقون على حكم الاخرين سواء كانوا محكومين او حاكمين ولكنهم يرفضون فكرة ان يحكم الشراكسة انفسهم.
- التعايش والاندماج يلاحظ ان الشراكسة يتميزون بسرعة التاقلم مع البيئة المحيطة بهم الا ان هذه”الموهبة” ان جاز التعبير يعيبها ان ليس لها حدود وبالتالي فهي تتحول الى مفهوم اخر خطير الا وهو الانصهار والاندماج، ففي ظل غياب مفهوم التربية والمصلحة القومية لا يدرك الشراكسة اهمية وجود روابط وحدود في تعاملهم مع الاخرين خاصة وانهم في اغلب الاماكن هم اقلية، فمثلاً لا يقدر الشركسي اهمية ان يعيش في حي كله من الشراكسة خاصة في المهجر بعكس بقية الاقليات الاخرى التي تسارع الى البقاء في مناطق معينة بغية المحافظة على لغتها وعاداتها وثقافتها بل ان تركز الاقليات في مكان واحد يعطيهم نوعاً من الثقل الديمغرافي وهو ما يكسبهم الثقل الاجتماعي الذي يصون حقوقهم، الكثير من المجتمعات الشركسية التي تعيش في المهجر تتميز بعدم ممانعة افرادها بيع منزله او ارضه رغبة للانتقال الى منطقة اخرى حتى وان كان الشركسي الوحيد فيها بعكس ابناء الاقليات الاخرى الذين يفضلون العيش في احيائهم ويرفضون بيع منازلهم للغرباء عن ابناء جلدتهم، ان انسياق الشراكسة خلف الاندماج والتعايش جعل الفكر الشركسي يتأثر بغيره وكونه يمثل فكر اقلية في معظم الاوقات فقد ادى هذا الى زيادة التسارع في عمليتي الانصهار والاندثار التي تعاني منها اي اقلية مهما كانت.
- عدم المبالاة او الاكتراث، فالشعب الشركسي بحكم غياب التربية القومية لا يهتم للعديد من الامور التي لو انها حدثت لاي شعب اخر لثار عن بكرة ابيه خاصة في المهجر، فالانسان الشركسي لا يبالي باعطاء الاراضي للبلقر مثلاً على حساب الشراكسة، وهو لا يبالي باولمبياد سوتشي ولا يكترث لمقتل عدة قادة شراكسة في تشركيسك ولا يقشعر بدنه عندما يسمع ان مجموعة من ابناء العرقية الوافدة من القرشاي تقوم بمهاجمة فتاة وفتى شركسيان ويعتدون عليهما بالضرب ولا يحرك ذلك ساكناً وعندما تتحدث قناة روسية على ان الساحل الشركسي هو بالحقيقة ساحل روسي وغيرها من الاحداث والامور الاخرى، حيث ان غياب التربية القومية يجعل الشعب الشركسي في حالة عجز وهذيان وعدم الاهتمام بهذه الامور التي تمس كرامة وشرف الشعب بكامله وتسيء الى تاريخه وقيمه، وردة الفعل الشركسية على هذه الامور تكاد تكون اقل من المقبولة.
- ان ما يميز الفكر الشركسي ايضاً هو عدم قدرته على تحديد “مصلحة عليا” للشعب الشركسي او حتى تحديد طموحات او احلام هذا الشعب، فلا يوجد فكرة”عقائدية” جوهرية يتمترس الشراكسة كلهم حولها مثل ما يحدث لبقية الشعوب، ولهذا يكون من الهام جداً في البداية، العمل على تحديد مشاكل الشعب الشركسي وحصر تطلعاته وطموحاته القومية من خلال اجابة على سؤال”ماذا يريد الشراكسة؟!” حيث يبدو ان الاجابة على هذا السؤال صعبة للغاية وهي ليست سهلة، لان الشعب الشركسي فاقد للقدرة على ردة الفعل او وضع الخطط او العمل على تحديد مستقبله بعبارة موجزة؛ الشعب الشركسي لا يوجد لديه فكر خاص به هو فاقد لهويته وتابع للاخرين في كل شيء، فلا يمكن لاي شركسي ان يجيب على سؤال “ما هي المصلحة او المصالح العليا للشعب الشركسي ؟!” حيث لا توجد اي جهة شركسية قادرة على تحديد هذه المصالح الامر الذي يطرح تساؤل في خضم العالم المعاصر، هل يعقل ان يطلق مصطلح “شعب” على الشراكسة وهم لا يعرفون ماهي مصالحهم العليا؟! و”لا توجد جهة تقوم بالعمل على تحقيقها؟!”، واذا ما تمت محاولة طرح سؤال حول “ماهية المشاكل التي تواجه الشعب الشركسي؟” فانه سيتم الحصول على قائمة طويلة من المشاكل وهذا امر عادي لكن الامر الغير طبيعي هو ان تكون جميع هذه المشاكل لها الاولوية نفسها ولها نسبة التأييد نفسها اي ان كل مشكلة لديها جمهورها الذي يرى انها هي صاحبة الاولوية وانه لا بد من حلها ، لو تم طرح الاسئلة السابقة على ابناء عرقية اخرى قد تتشابه مع الشعب الشركسي في قضية الكفاح والهوية ، مثل الشعب الكردي مثلاً، فانه سيلاحظ وجود اجماع على مشكلة او تحدي واحد واتفاق على طموح قومي واحد ، فلو طرح سؤال ماهي المشاكل على الكرد سواء في الوطن او المهجر لاجابوا “كردستان!!” ولو طرحت سؤال الطموح والحلم القومي او ماذا يريد الشعب الكردي سيكون الجواب “كردستان”، ونفس السؤال لو طرح على الارمن لاجابوا سواء في الوطن او المهجر “الابادة الجماعية للارمن او ارمينيا”، ولو طرح السؤالين السابقين على الايرلنديين الشماليين لاجابوا المشكلة هي في علاقة بريطانيا بنا مثلاً او اننا نريد دولة مستقلة (مثلاً)، طبعاً هناك اختلاف بين الشراكسة وهذه الاقوام في عدد كبير من الامور ولكن يقصد الوصول هنا الى النتيجة التالية وهي”ان كل شعب لديه قضية مركزية جوهرية (مصلحة قومية عليا) لا يختلف عليها المجموع وهذه القضية تحرك مشاعر ومصائر هذا الشعب وهي بالتالي تحدد قيادة هذا الشعب فلو جائت قيادة لا تتبنى هذا الطموح ولا تعمل على المشاكل الجوهرية يتم تغييرها وتسقط شرعيتها”.
- استناداً لعدم وجود “قيادة مؤهلة “ولعدم وجود مصلحة او” تربية قومية عليا” فان الشعب الشركسي اصبح في الحقيقية مجموعة شعوب شركسية، فبعد التهجير واستقرار الشراكسة في دول الشرق الاوسط وتركيا واوروبا وامريكا، اصبح كل مهجر شركسي بحد ذاته شعباً فكل مجتمع شركسي لديه فكر وعقيدة خاصة به وبالتالي لديه “شخصية” خاصة به ولديه طموحات وامال واهداف تختلف عن نظرائه حتى ان الكثير من المجتمعات الشركسية تأثرت بالمحيط او البيئة المحيطة بها، ان المجتمعات الشركسية اصبحت تلتقي في التسمية “شراكسة” فقط لا غير، ولا تلتفت الى المصلحة العليا للشعب الشركسي او لصالحه، ان تعدد هذه “الشخصيات الشركسية” ساهم في انحدار مستوى الفكر الشركسي نظراً لتعدد المرجعيات الفكرية، وادى الى حالة من الفوضى والتبعثر بشكل واضح، وقد ادت عملية التشريد التي وقعت للشعب الشركسي الى تكوين عدة شخصيات له في المهجر والوطن الام وبالتالي اصبح كل مجتمع شركسي في المهجر لديه شخصية خاصة ومستقلة به، ونظراً لحالة الفساد التي اصابت القيادات والزعامات الشركسية فان هذه المجتمعات لم تحاول ابداً البحث عن مصلحة مشتركة تجمع بين ابناءها،ويمكن القول ان الزعماء الشراكسة كان لهم دوراً في تشويه الفكر الشركسي، واستمرار تغييب المصلحة الشركسية الفعلية عن ابناء الشعب.
- مشكلة الانتماء للوطن الشركسي والتي يمكن تلخيصها في ظاهرة تعدد “الاوطان” لدى الشراكسة هي ظاهرة مميزة للفكر الشركسي ايضاً، فمثلاً مفردة “الوطن”، فاذا كانت شعوب العالم كلها قاطبة تتغنى بوطنها حتى وان كان في حالة مزرية وتمقت المهجر والشتات فان الشراكسة هم وحدهم الذين يتغنوا في المهجر الجميل ويرون ان وطنهم جميل ولكنه هو وطن الاجداد، وهنا يظهر مفهوم تعدد الاوطان الذي ساهم في افقاد الشراكسة لكرامتهم الانسانية وفقدوا شعورهم القومي، هذا المفهوم ظهر بعد ان اصبح الشعب الشركسي خارج وطنه حيث وجد نفسه في ظل احباط شديد فهناك مثل شركسي يقول “من يفقد وطنه يفقد كل شيء” وكون اي شعب لا بد له من وطن ومعادلة شعب بلا وطن اثبتت انها معادلة فاشلة وغير منطقية فقد قرر الشراكسة وبمساعدة العثمانيين والروس احلال مفهوم الانتماء والولاء للحكام مكان مفهوم “الوطن” ولهذا كان مفهوم الولاء والانتماء للحكام هو المرادف للوطن و اصبح جزءاً من المنظومة الفكرية الشركسية، ويجد المرء لدى الشراكسة عدة اوطان فهناك وطن للاجداد وهناك وطن للاباء وغيره للابناء واخر للاحفاد وغيره للابناء العمومة وهكذا دواليك، اي ان الشعب الشركسي اصبح شعب “العولمة” الاول فهو يجمع كل ما تريده العولمة من صفات مادية والانقياد وراء الغرائز الانسانية فقط والابتعاد عن الفكر ، فاصبح الشركسي يهتم بالمأكل والمشرب والعمل الخاص به، وبالطبع الرقص الشركسي وهذا امر يمكن ملاحظته من خلال الثقافة القومية المتدنية لدى الشباب الشركسي.
- الشعب الشركسي هو شعب”الفلاسفة” كل شركسي بحد ذاته فيلسوف لا يمكن ان يذعن لغيره او ان يخطئ، فقد ادى عدم الانقياد وراء رموز (زعامات او قيادات) الى اعتقاد كل فرد من افراد الشعب الشركسي بانه فيلسوف زمانه، وبسبب غياب النخبة المثقفة سالفة الذكر اضحى الشراكسة بلا “كبير” ان صح التعبير حيث لا توجد مرجعية فكرية واحدة تحدد الطموحات والاهداف والخطوط العريضة التي يجب على كل شركسي التقيد بها، فاصبح كل شركسي ملم بالقضية الشركسية وله رؤى ونظريات معينة حول القضية الشركسية، وهذا الامر ادى الى حالة من الفوضى الفكرية، فلم يعد الشركسي يهتم او يؤمن بالعمل الجماعي للوصول الى المصلحة العليا للشعب الشركسي، بل ان مستوى التواصل والاستماع بين الشراكسة منقطع وخارج “التغطية” ولكن بالنسبة الى الاخرين فالانسان الشركسي ينصت بكل اهتمام ليتلقى الاوامر وينفذها دون اعتراض، وبالتالي لم يعد الشراكسة يتحكمون في مصيرهم بل تركوا هذا الموضوع “الجانبي” لغيرهم مثل روسيا الفدرالية، حيث ادى هذا الوضع الى ضياع التاريخ الشركسي، فمثلاً تم سابقاً تجنب ذكر اسماء بعض الامراء الشراكسة الذين توحدت الامة على ايديهم مثل تامبي قبارد واينال وغيرهم وذلك بسبب وجود خلاف كبير بين الشراكسة حول اصولهم فهناك من يراهم ابخاز وهناك من يراهم روس الى غير ذلك من “الفلسفة” الشركسية، فاذا كان يضرب المثل في عقم الحديث بوصفه بـ”الجدل البيزنطي” فان الشراكسة تفوقوا على الجدل البيزنطي باشواط عديدة.
- يوصف الشراكسة بانهم يلتصقون بالتاريخ بشكل “انتقائي سلبي” فالشراكسة يمجدون الجازاتهم في الخارج، والمامهم بتاريخ قضيتهم وحضارتهم ضعيف لانهم دائماً يتحدثون عن الانجازات خارج الوطن، فمثلاُ لا يوجد شركسي لا يعرف المماليك الشراكسة وبطولاتهم، ولكن القليل من الشراكسة يستطيعون ذكر اسماء قادة شراكسة برزت اسمائهم اثناء الحرب الروسية الشركسية.
- الشراكسة لا يستمعون لبعضهم البعض، فهم اشداء اقوياء على بعضهم البعض، تظهر فلسفتهم وقدرتهم على كسب اي جدال من خلال مناقشاتهم العقيمة، فهناك فريق من الشراكسة متخصص في جعل اي موضوع او اي حديث (خاصة اذا ما كان ذو طابع قومي )، الى موضوع ونقاش عقيم ، ويتبنى معظم الشراكسة مبدأ(الذي يملك الصوت الاعلى فهو الذي على حق) وبالتالي فان اصحاب الحناجر القوية والاوتار الصوتية الشديدة تراهم يحتلون مراكز متقدمة في المجتمع الشركسي، حتى وان كانوا لا يفقهون ما يقولون المهم ان تكون طبقة الصوت عالية، حيث يتحدث الرويبضة بالامور العامة.
- الرقص والغناء الشركسي، ففي احدى برامج قناة روسيا اليوم تحدث احد الشبان الشراكسة قائلاً: ان الشاب الشركسي عندما يريد ان يعبر عن قوميته فهو اما ان يرقص او يغني او يعزف؟!!!” ان هذه الفكرة رائجة ومنتشرة بين الشراكسة سواء في الوطن او المهجر، وهي تحتل مساحة واسعة في حياة الشراكسة، وهم يرون ان الرقص جزء من شخصيتهم القومية، وقد ادت عوامل الهزيمة والتشرد الى ان يبتعد الانسان الشركسي عن الحديث عن وطنه او قوميته لان ذلك كان يتعارض مع النظام الروسي المنتصر في الوطن وايضاً يتعارض مع سياسة الاندماج في المهجر، لذا كان التعويض من خلال التركيز على الرقص والغناء لانه كان الطريق والسبيل الوحيد الذي يجعل الشراكسة يحتفظون بشيء من ثقافتهم دون اثارة غضب الاخرين ، لذا كان الخوف والرغبة في خداع الذات هو وراء تمجيد الرقص والراقصين بل ان الشراكسة قللوا من هيبة شعبهم عندما تحول شعار علمهم (السهم وهو اداة حربية ترمز الى القوة بغض النظر عن السلام وغيره) الى صورة الفتى الراقص او الفتاة الراقصة، واصبح شعار الرقص يرمز الى الشراكسة ، وهو ما افقر العقل الشركسي واسقطه في غياهب الجهل والتخلف، فكيف يمكن لشعب يحترم ذاته ان تتمحور قوميته حول الرقص؟!! ويناقض الفكر الشركسي عندما يذكر بطولات الشراكسة في القتال والحرب وتنتهي الرواية الشركسية بالرقص والغناء؟!! ان للشراكسة حضارة تمتد الى 6 الاف سنة ولكنهم يرون ان الرقص هو عماد ثقافتهم، اي انهم يتشابهون في هذا الاعتقاد مع العرقيات الغجرية التي تعتبر ايضاً الرقص جزءاً من شخصيتها القومية.
- المفكر او المثقف الشركسي وبحكم سيطرة فكرة العولمة على الشعب الشركسي امسى يحتل مرتبة متدنية ، وحل مكانه صاحب راس المال وصاحب النفوذ واصبح ذلك الموجه الاساسي للفكر الشركسي، فاذا كانت العديد من الشعوب والامم تدين بتطورها ورفعتها الى ظهور مفكرين ومثقفين من ابناءها والامثلة لا حصر لها في ذلك، فان الشراكسة لا مكان بينهم للمفكر او المثقف ، ويقصد هنا المفكر او المثقف ذو الطابع او التربية القومية فعدد المثقفين والمفكرين الشراكسة كبير ولكن قلة منهم يتوجه نحو خدمة قضيته وفي اغلب الاحيان تكون في نهاية سنين عمره وهذا الامر لا يسمح بوجود متخصصين في القضية الشركسية ومتابعين لها لان معظم المثقفين الشراكسة يأتون في اخر العمر ليتحدثوا في القضية دون المام تام وهذا امر يفقد الفكر الشركسي عنصر القوة ويجعله يتأثر بهؤلاء المثقفين الذين يصبحون فجأة شراكسة!!
- السياسة وقد تكون هذه النقطة هي السبب في عدم قدرة الفكر الشركسي على النهوض بواقعه وايجاد حلول لمشكلاته، فالسياسة كلمة محرمة على الشراكسة ونظراً لتخلف الشركسي في تناول مفهوم السياسة فقد اصبحت هذه الكلمة تثير الرعب في النفوس، هذا الخوف تم زرعه من قبل الاخرين في نفوس الشراكسة وهو المسؤول الاول والاخير عن حالة التردي الفكري وانحدار مستوى القيادات في المجتمعات الشركسية، لقد كان وما يزال الخوف من السياسة الحجة المثالية لاجهاض اي عمل او توجه قومي، والتركيز على مفهوم مغلوط الا وهو الثقافة والفلكلور وهو امر لا يمكن ان يتم بصورة ايجابية دون وجود اطار سياسي له ، فالسياسة هي التي تحدد طبيعية الثقافة هل هي ثقافة ايجابية تعنى بالمحافظة على الهوية القومية ام هي ثقافة ظاهرية سطحية كما هو الحال عند الشراكسة؛ اضف الى ذلك الظروف التي مروا بها الشراكسة، ففي الوطن الذي احتل بالكامل اصبح الكلام عن او ممارسة السياسة يعني السجن والاضطهاد بكافة انواعه، وفي المهجر يصعب ممارسة السياسة او التحدث بها او الخوض فيها، ويمكن القول انه قد تم حجب مصدر هام للالهام الفكري لدى الشراكسة الا وهو “الثقافة السياسية” وذلك لانعدام وجود هذه الثقافة ولم يتمكن الشراكسة من امتلاك وسائل التعبير والتمثيل الحقيقي لارادة الشعب، وقد ادى هذا الى حالة “عدم الادراك واللا وعي” الذي يعاني منهما الشراكسة في الوقت الحالي، حيث لا بد للشراكسة من التوجه نحو العمل السياسي، وهنا يجب عليهم ان يدركوا ان العمل السياسي والذي حرموا منه لسنوات طويلة لا يعني الاصطدام والتعارض مع الاخرين بل يعني اعادة ترتيب الصف الداخلي وبطريقة تضمن اخراج الغوغاء من مراكز القيادة والاعتراف الشركسي بشرعية القادة القوميين.
في النهاية فان المشكلة الاساسية في اعادة تاهيل القيادات والزعامات الشركسية لا تكمن في اثبات المستوى المتدني لهذه القيادات لان هذا الامر سهل جداً، ولكن الصعوبة تكمن في اعادة تثقيف “الغالبية الجاهلة قومياً” من ابناء الشعب الشركسي، فعند ظهور مجموعة مثقفة من الشراكسة بالشكل القومي والفكري الصحيحين فان اي زعامة او قيادة للشركس لن تتمكنا من استغلال المنصب والترويج لافكار الاخرين على حساب شعبها، لانه سيتم فضحها ومحاسبتها وهنا تكون بداية الطريق نحو اعادة تأهيل القيادات والزعامات الشركسية، وبالتالي اعادة بعث القومية الشركسية بفكر جديد يتناسب مع واقعها الحالي.
ان هذا المقال حاول ان يشير الى البيئة والمحيط الواقع الشركسي في محاولة لايجاد تصور مبدئي لفكرة “كيف يفكر الشراكسة؟” وسيتم في الجزء الثاني منه الحديث عن الكفاح والنضال السياسي الشركسي وعقد مقارنة بين توجهات المنظمات والهيئات الشركسية الفاعلة على الساحة الشركسية وبين ما يمكن اعتباره المصلحة العليا للشعب الشركسي .
نهاية المقال الاول(الفكر الشركسي)