من ذاكرة الدكتور حسين عمر توقة / محاولة اغتيال الملك الحسين رحمه الله بتاريخ 1 / 5 / 1975

من ذاكرة الدكتور حسين عمر توقة

PHOTO-2020-04-15-12-13-11

محاولة اغتيال الملك الحسين رحمه الله بتاريخ 1 / 5 / 1975

بقلم الدكتور حسين عمر توقه

باحث في الدراسات الإستراتيجية والأمن القومي


حين يختلط الحلم بالحقيقة وحين يختلط الخيال بالواقع وحين تتلاشى الفوارق بين الإنسان والإنسان. حين يسجد الإنسان لربه وحين تنحني هامة الحسين في ركوعه وسجوده لرب العباد فجر كل صباح وحين يقرأ الملك بصوته الخافت الرخيم ”والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى“ حين يسجد الملك يؤدي صلاته في مطار ماركا وحين يقبل تراب وطنه ورغم العواصف والأمطار يصر الملك الإنسان أن يتلفح بالكوفية الحمراء ويقف من سقف السيارة ويصر أن يلوح بيديه الى الملايين التي أبت إلا أن تخرج وتصطف على الطرقات  ترحب بصقر قريش وهو يعود من رحلة علاجه مؤمنا بقضاء الله راضياً مرضيا بما قدمت يداه مرتاح الوجدان والضمير  وقد عاد الى وطنه الأردن الأغلى والى شعبه هذا الشعب الطيب هذا الشعب الأردني الفلسطيني الشامي الكردي الشركسي الشيشاني الحجازي الدرزي  العراقي اليمني.

حين كان الشعب الأردني يغط في نومه مطمئن البال في أمن وسلام كان الحسين الإنسان يصل الليل بالنهار كي يؤمن لقمة العيش الى شعبه ويدرأ الأخطار عن وطنه العربي وأمته الإسلامية. لقد تعلمنا نحن الذي حبانا الله بمشيئته وقدرته بأن نكون قريبين من الحسين وكان لكل منا معه قصة  أو طرفة أو رواية  لا زلنا نعيش على وقعها وأصدائها طوال سنين العمر واليوم أرجو من الله أن يوفقني في سرد قصة بقيت منذ  1 / 5 / 1975 طي الكتمان وبعد تفكير طويل قررت أن أكتبها بالقلم رغم أنها كانت تعيش في فكري وفي وجداني طوال سنين.

كلية الشرطة الملكية:

في عام 1950  تقرر إقامة  جناح الشرطة والدرك  في مركز تدريب المشاة في العبدلي. وفي عام  1953 تقرر إنشاء  مدرسة الشرطة والدرك في نفس الموقع السابق  وفي عام 1956  تقرر استحداث كلية الشرطة الملكية في العبدلي حيث اقتصرت مهمتها  على إعداد وتأهيل  التلاميذ المرشحين.

وفي عام 1969 تم نقلي من القوات المسلحة الى الأمن العام وكان مدير الأمن العام في ذلك الوقت اللواء عزت حسن قندور  وتم تعييني قائداً لجناح الرياضة في كلية الشرطة الملكية ولقد قمت في ذلك التاريخ بتحديث برامج جديدة من التدريب هي أقرب ما تكون الى تدريب الصاعقة منها الى الرياضة بالإضافة الى تدريب الجودو والقتال بالأيدي ولقد قمت بتدريب الدورة الأولى لتلاميذ شرطة الدول العربية من الخليج العربي من البحرين ودبي وأبو ظبي وقطر وعمان والكويت ولقد تخللت فترة تدريبهم فترة من أصعب حقب التاريخ التي مرت بتاريخ الأردن ولا يعادلها صعوبة إلا صعوبة فقدان الضفة الغربية وكنا نحن المدربين نحاول قدر جهدنا أن نجنب هؤلاء التلاميذ المرشحين الضيوف أي أذى وأذكر أن جلالة الحسين الراحل كان دائم الإتصال مع مدير الأمن العام للسؤال عن أوضاعهم وعن أحوالهم وبعد تلك المرحلة المؤلمة تمكن الأردن من تخطي المأساة . واستمر التدريب في كلية الشرطة الملكية  نودع أفواجا ونستقبل أفواجا جديدة. كانت موسيقى الأمن العام تصدح أنغامها صبا ح كل خميس حيث يقوم مدير كلية الشرطة الملكية باستعراض طابور الإستعراض .  ولقد تسلم معالي السيد عبد المجيد الشريدة منصب مدير العام  والسبب أنني أذكره أنه كان مدنيا حين تسلم مهام مدير الأمن العام كما أذكر بمزيد من الفخر والإعتزاز دورة المرشحين الرابعة عام 1971 هذه الدورة التي أفتخر أنني كنت أحد مدربيها والتي رفدت الأمن العام بثلة من أكفأ الضباط خلقا وكفاءة وإخلاصا وتحملاً للمسؤولية.

وفي عهد الفريق أنور محمد تم نقل كافة المدربين الى معسكر الزرقاء وتم إنشاء مدرسة لتدريب المستجدين من أفراد الشرطة كما تم إعادة إحياء سلاح الفرسان في زمنه. ولقد انتقلنا من منطقة العبدلي الى معسكر الزرقاء مع أننا جميعا كنا نفضل البقاء في منطقة العبدلي. كنت في تلك المرحلة أقوم بالإشراف على جناح الرياضة بالإضافة الى تدريب الرماية على المسدس.

وأذكر أن هناك بعض المتفوقين من التلاميذ لا سيما في الرياضة والرماية ولا زلت أذكر أحد أولئك التلاميذ وأحب أن أسميه في هذه القصة باسم ”مصطفى“ وهو بالطبع ليس اسمه الحقيقي ولقد تخرج مصطفى بكل تفوق.

وبعد تلك المرحلة تم نقلي الى وحدة الأمن والحماية  في عهد السيد أحمد علاء الدين الذي شغل منصب قائد وحدة الأمن والحماية وكان قبلها قائدا للشرطة الخاصة في الأمن العام بعد أن تم نقله من القوات الخاصة في القوات المسلحة وكان واجب وحدة الأمن والحماية في ذلك الوقت حماية طائرات عالية ”الملكية الأردنية“وحماية السفارات الأردنية في الخارج وحماية السفراء الأردنيين بعد تعرضهم الى عمليات الإغتيال من قبل بعض الفصائل الفلسطينية ولعل أشهر هذه الفصائل ما كان يعرف بمجموعة أبو نضال. وبحمد من الله وطوال خدمتي في وحدة الأمن لم تنجح أي محاولة اختطاف لأي طائرة. وفي صيف عام 1974 وأثناء عودة الطائرة الملكية من القاهرة استدعاني السيد محمد رسول الكيلاني وكان في حينها مديرا للمخابرات العامة وأخبرني بأن جلالة الملك يرغب في التحدث الي. وذهبت الى قمرة القيادة وابتسم جلالته وسألني عن العارض الأمني في مطار القاهرة وأجبته على سؤاله ثم التفت الى السيد محمد رسول الكيلاني وأخبرني بأنه يريد مني الإنتقال الى المخابرات العامة من أجل تشكيل وحدة الأمن والحماية بحيث تكون هذه الوحدة مسؤولة عن حراسة الملك السرية. وكما أخبرني جلالته بأنه سيتم نقل السيد أحمد علاء الدين الى القوات المسلحة ليكون قائداً للقوات الخاصة.

وبتاريخ 1 / 5 / 1975 تم الإحتفال للمرة الأولى بعيد العمال وتم الإعداد لهذا الإحتفال تحت الرعاية الملكية السامية وتم إبلاغي بأن هذا الإحتفال سوف يشرفه جلالة الملك المعظم بحضوره السامي …

في كل دورات الأمن والحماية وفي دورات حراسة الشخصيات كنا نركز على مفهوم الإرهاب والخطر الناجم عن هذا الإرهاب. فالإرهاب يستهدف الأشخاص أو الأماكن العامة أو المنشآت الحكومية أو المرافق الإستراتيجية أو الطائرات ولعل أقسى درجات الإرهاب هو الإرهاب النفسي والمعنوي والفكري وبالتالي المادي وفي كل الظروف والمناسبات كان واجبي الأساسي  المحافظة على حياة سيد البلاد من أي خطر .  فما هو هذا الخطر الذي كنا نتحدث عنه  والذي تهدف عمليات الإرهاب  الى تجسيده وتحقيقه.

إن الخطر يتكون من ثلاثة عناصر هامة:

1:  الأول منها هو الشخص الإرهابي المدرب  للقيام بالإعتداء  والمشحون  بالإشباع السياسي أو العقائدي  لا سيما في أوساط الطلبة وصغار السن وتدريبهم ليصبحوا خبراء  ومتخصصين في عالم الإغتيالات والقتل.

2: العنصر الثاني هو أداة الإعتداء أو وسيلة الهجوم فقد يستخدم الإرهابي المسدس أو المتفجرات أو الأسلحة الرشاشة أو أية أداة تتراوح بين السكين والقنبلة أوجرعة سم وكل ما يمكن التفكير فيه من وسائل قد تصل الى مستوى القصف والتدمير.

3: أما العنصر الثالث فهو الشخص المستهدف فقد يكون هذا الشخص رئيس دولة أو وزير  أو سفير أو طفل أو امرأة أو مبنى أو طائرة أو مصفاة بترول أو مدرج لأحد المطارات أو قطار.

وإن أفضل وسيلة  لإبطال مفعول هذا الخطر ومنع وقوعه هو العمل على تحقيق المبدأ التالي. ”عدم اجتماع  عناصر الخطر الثلاثة  في نفس المكان والزمان  في آن واحد“ ويجب علينا كرجال أمن وحماية أن نعمل على عزل هذه العناصر  وفصلها عن بعضها البعض وعدم السماح بإجتماعها في نفس المكان والزمان ومن هذه المعادلة البسيطة يأتي مفهوم الأمن  ويأتي دور أجهزة الأمن والحماية والحرس الشخصي في السيطرة على هذه العناصر.

كان الحرس الملكي الخاص في ذلك الوقت هو المسؤول المباشر عن أمن وحماية جلالة الملك المعظم وكان الحرس الملكي الخاص من أكفأ وحدات الجيش العربي الباسل وكان أفراده من ضباط وضباط صف وأفراد يطلبون الشهادة أكثر من طلبهم الحياة  وكان الحسين بالنسبة اليهم القائد والأخ والصديق.

 وتم اتخاذ كافة الإجراءات الأمنية وتسلم الحرس الملكي مهام الأمن داخل قصر الثقافة الملكي وبدأ المدعوون بالتوافد وما أن  حان موعد الإحتفال حتى أطل الحسين ببسمته الساحرة وجبينه ألأسمر العريض الملفوح بالشمس العربية  وأخذت الحضور موجة من الحماس وأخذوا يصفقون وهم يرقبون الملك وهو يسير نحو المكان المعد لجلوسه وبدأ الإحتفال بآي من ذكر الله الكريم  وفي إحدى الفقرات تقدم رجل كبير السن يحمل بيده ورقة واتجه الى مقعد الملك وما أن حاول الحرس ورجال الأمن اعتراضه حتى أشار لهم الحسين بيده أن اتركوه ونهض من مقعده واتجه صوب الرجل الكبير الوقور وأخذ منه الرسالة واحتضنه….

في تلك اللحظات اجتمعت عناصر الخطر الثلاثة ”مصطفى“ وهو يحمل مسدسه وجلالة الملك في نفس الزمان والمكان وفي تلك اللحظات شاهدني مصطفى من بعيد وشاهد كيف تعامل الملك الإنسان مع الرجل الكبير .

فانهمرت الدموع من عينيه وقام بتسليم سلاحه وأعترف بأنه كان مكلفا بمهمة  إغتيال جلالة الملك وأنه قد تدرب في أحد المعسكرات في لبنان وأنه كان تابعا لإحدى المنظمات وأن هذا التخطيط والإستعداد قد استغرق أربعة أعوام…

ولم تنته القصة عند هذا الحد إذ أن جلالة الملك الحسين كان مقررا له أن يسافر في إحدى الزيارات الرسمية فما كان منه إلا أن طلب من مدير المخابرات العامة  أن يحضر بمعيته ”مصطفى“ الى المقصورة الملكية وأمام الجمع الحاشد من المرافقين والمودعين وسفراء الدول المعتمدين قام الحسين بوضع يده على كتف ”مصطفى“ وسارا معا بعيدا عن الناس كي لا يسمعه أحد من الحاضرين فسأله الحسين عن أهله وعن عائلته ثم سأله ماذا تريد يا مصطفى وهل ينقصك أي شيء.

وبالفعل قام الحسين بعد ذلك بإصدار أوامره المشددة بتحقيق طلبات مصطفى للبدء في حياته مواطنا أردنيا فلسطينيا في جبل التاج وتم إيصاله الى أهله وتمت تلبية كافة مطالبه والتي تابعها الحسين شخصيا.

فيا سيدي أيها الملك الراحل أيها الإنسان الرحيم لقد تعلمنا منك أن نؤمن بالله أن نؤمن بالوطن أقوياء أتقياء كرماء شرفاء لا تنحني هاماتنا إلا لله وأقسمنا أن نبقي الراية الهاشمية خفاقة بالعز  تعانق السماء. لقد تعلمنا أن الإخلاص لا يشترى ولا يباع  ولا يجزأ تبعا للأهواء.

لقد تعلمنا من الحسين أن نحول الدمعة الى بسمة والحزن الى إرادة والإرادة الى نصر وبناء. وستظل يا أغلى الرجال في القلب والوجدان والضمير أنشودة للحق وشمساً للحرية لن تغيب وتبقى ذكرياتنا في معسكر العبدلي ومعسكر الزرقاء خالدة الى الأبد.

Share Button

اترك تعليقاً