شيركيسيا : أمة صغيرة ضاعت في اللعبة الكبرى – ترجمة وليد هاكوز
في العام 1864 ، وبعد نهاية حرب متصاعدة تدريجيا إستغرقت أكثر من 75 عاما ، إستطاعت خلالها الجيوش الروسية من هزيمة الشركس ، ودفعت الغالبية العظمى من الأمة الشركسية إلى سواحل البحر الأسود ، حيث إنتظروا في العراء لأكثر من سنتين تقريبيا ، وتم تحميلهم بعد ذلك على متن السفن ، ونقلهم إلى الإمبراطورية العثمانية ، مما أدى لهلاك أكثر من نصفهم وهم في طريقهم إليها ، وحتى بعد وصولهم الى تركيا بوقت قصير .
إن العدد الفعلي للشركس الذين نزحوا لا تزال مسألة متضاربة عليها ، على الرغم من أن الرقم المقبول عموما هو المليون ، وربما أكثر بكثير . لقد أدت عمليات الترحيل إلى انخفاض 94% من عدد السكان في المنطقة ، على الرغم من أنه تم إملأ الفراغ بسرعة من قبل المستوطنين القوزاق والروس . ويبدو أن هذا كان أول عمل في العصر الحديث لأعمال التطهير العرقي ، إن لم يكن إبادة جماعية صريحة ، وكان فعلا شاذا وعملا قاسيا شديدا ، كان ينبغي أن يكون عليه إجماع للإعتراض عليه من قبل جميع الدول ، مع إنه كان في ذلك الوقت إهتمام قليل جدا بمصير الشركس .
وفي الواقع ، فقد كانت كانت شركيسيا معروفة جيدا في جميع أنحاء أوروبا منذ عام 1800 ، ولكنه ، وبعد منتصف القرن العشرين ضاعت ذكرى الترحيل من الوعي الأوروبي تماما ، كما فقدت الذاكرة عن الأمة نفسها في حد ذاتها ، ولكنها بقيت ماثلة لبعض المتخصصين القلائل في المنطقة ، وخاصة من الشراكسة المتحدرين من صلب المبعدين أنفسهم .
هذا النسيان للإبادة الجماعية الشركسية جاء نتيجة عدة عوامل ، بدءا من الطريقة الأسطورية التي كانت قد صورت شركيسيا في حيثيات الأدب والثقافة الأوروبية ، وكأنها أرض من المحاربين في العصور الوسطى ذوطبيعة جميلة خلابة . هذا ، بالاضافة الى طبيعة اللعبة الكبرى في القرن التاسع عشر ، عندما كانت القوى الكبرى لا تعير إنتباها لحقوق الإنسان ، أو الحق في تقرير المصير الوطني ، والتي أدت ظروفها بالسماح للروس على ترحيل الشراكسة جماعيا من وطنهم ، مع الحد الأدنى من الاعتراضات الدولية على ذلك .
وبعد أن تم التضحية بشركيسيا للأهداف الاستراتيجية الأوسع ، وبدأت تتهيئ لوضع قدوم الحرب العالمية الأولى ، فقد وجدت القوى الاوروبية بضرورة نسيان المأساة الشركسية ، والتي إحتلت مكانا رومانسيا في الوعي الأوروبي في البداية . وقبل بدء دخول شركيسيا في الحسابات الجغرافية السياسية الأوروبية ، كانت صورة الشعب الشركسي الكلاسيكية إستشراقية ، وهذا أدى إلى عرقلة الأوروبيين في نهاية المطاف من مشاهدة الكارثة الشركسية التي سيواجهونها في 1864 ، فقد وصف Edmund Spencer الشراكسة مبكرا في عام 1839 بقوله : “عند أول ظهور للشركسي أمامك ، هناك شيء هام للغاية وشعور بالقيادة العسكرية ، ولا يوجد شعب نصف متحضر في العالم لديه ذلك العرض الذي يرضي العالم الخارجي” . قد يكون هذا صحيحا ، لأن أهداف سبنسر وضع الخصائص الآسيوية عن الشركس بشكل واضح في المعسكر الآخر، الذي لا يملك إلا إعجابا معينا فقط .
وعند تحول إهتمام أوروبا نحو شمال القفقاس ، كان ينظر الأوروبيون للشركس مثل “المتوحشين النبلاء” الذين يدافعون عن أرضهم ضد الروس . لقد تصاعدت الحرب ببطء شديد ، وبدأ في وقت متأخر بعد عام 1830 كما لو أنه تم التوصل الى تسوية مؤقتة بين الطرفين . إضافة للعمليات العسكرية التي لم تبدو وكأنها تستهدف الغزو ، بل السيطرة على القبائل التي تعيش على ضفاف نهر كوبان . وأدت الاتفاقات التجارية والبروتوكولات المعمول بها آنذاك ، للتفاعل الاقتصادي بين الشركس والروس حتى قبل بداية 1820 ، لتحويل قلق الأوروبيون خلال تلك الفترة إزاء العدوان الروسي في بولندا بدلا عن شيركيسيا .
كما أعتبرت تصرفات روسيا في قلب أوروبا ، أكثر أهمية لمعظم القوى الأوروبية مما كانت تبدو ، وأدى إلى انخفاض مستوى الصراع في بقعة غامضة من إمبراطوريتهم . وبالنسبة للروس أنفسهم ، فقد عملوا في ظل إفتراض أن الشراكسة هم من رعايا الإمبراطورية العثمانية ، والتي من شأنها حق التصرف بمصيرهم . وفي الواقع ، فإن تأثيرالعثمانيين كان ظاهرا في غرب الأراضي الشركسية فقط ، وحتى ذلك الحين تعامل الشركس مع العثمانيين من أجل الحفاظ على مستوى معين من الاستقرار ، ولم يعتبروهم حكامهم أبدا . أما القبائل في الشرق فلم تقع أبدا تحت النفوذ العثماني .
كتب الجنرال Grigorii Filipson في مذكراته عن حرب القفقاس ، بأن الحكومة الروسية في سان بطرسبرغ لم تشك أبدا بأن الجيش الروسي كانت تتعامل مع مليون ونصف من بواسل سكان القفقاس العسكريين ، والذين يمتلكون أقوى الحصون الطبيعية في كل ركن من غاباتهم الجبلية الكثيفة ، ولم يعترفوا بأي سلطة عليهم . لقد ظنوا في بطرسبرغ أن الشركس هم عبارة عن متمردين على الحكم الروسي ، تنازلت عنهم السيادة القانونية السلطانية العثمانية لروسيا في معاهدة Adrianopol . لقد إعتقد الروس فعلا ، إلى أنه تم تسخيرالشركس من قبل العثمانيين ، ليروا المقاومة الشركسية وكأنها تمرد معترف بها ، وإن كانت غير مرغوب فيها ، في حين أن الشركس تعتبر نفسها كيانا مستقلا ، وصراعها مع روسيا كانت حربا وطنية للبقاء على قيد الحياة .
وعلاوة على ذلك ، فقد إستطاع الشركس في مناسبات عديدة بالفوز في عدة معارك ، وحاربوا بشدة في تلك الحروب ، وكانوا مستعدين للقتال إلى أقصى الحدود لعدم الوقوع تحت الهيمنة الروسية . ومع ذلك ، فقد تم إستمرار هذه الخرافة عن السيادة الروسية على شركيسيا ، وتم إحيائها في شكل جديد مع إحتفال الحكومة الروسية في الذكرى 450 لإنضمام الأمة الشركسية طوعا لروسيا في عام 2007 .
كما إدعى الروس بأن عمليات التوغل الروسي في شركيسيا الأولية لم تكن في واقع الأمر موجهة للفتح ، وإنما كانت الجهود المبذولة لدفع العثمانيين من السواحل الشرقية للبحر الأسود . وكجزء من إستراتيجية شاملة للسيطرة على المنطقة ، تم إنشاء مستوطنات القوزاق الى الشمال من نهر كوبان ، وشيدت القلعة الروسية في بلدة موزدوك الشركسية في عام 1763 ، حيث كانت بداية الحرب الروسية على الشركس ، وهذا يمكن أن ينظر إليه بوصفه الحدث الذي ولد العداء . وفي الواقع ، ففي 1777 قبلت الأرستقراطية لقبيلة القبردي السيادة الروسية ، ولكنه كانت هناك معارك تقليدية قليلة : ففي شهر أبريل 1779 خاضت وحدة روسية معركة كبيرة مع الشركس على نهر مالكا في منطقة Laten ، وفي شهر نوفمبر إشتبكت قوة صغيرة من فرسان القبردي مع حوالي 3000 جندي روسي ، وهزموهم في عقر دارهم بمنطقة Baksan ، ولكن جميع الأعمال العدائية الأخرى كانت مناوشات طفيفة .
وفي أعقاب حروب نابليون أصبح دور روسيا نفوذا على نحو متزايد في أوروبا ، وقوتها العسكرية أصبح مقلقا لبعض شرائح المجتمع الأوروبي ، وكان القلق الوحيد في هذا السياق الأوسع ، أن مصير الشراكسة دخلت حيز الوعي من السياسيين الأوروبيين ، ولا سيما في إنكلترا ، وكانت حركة المعارضة المتخوفة من السياسة الروسية ، والمعنية في المقام الأول بتصرفات روسيا في بولندا أثناء قمع الثورة البولندية ، قادرة على التأثير على السياسة الخارجية البريطانية لبعض الوقت ، خصوصا بعد التحالف الروسي التركي في معاهدة Skelesi Unkiar في عام 1833. كما أن الصحافة البريطانية حذرت مرارا من خطورة مخالب الدب الروسي ، ولكنها لم تقم بإدخال شركيسيا للمناقشة ، إلا حين بدأ دبلوماسي شاب يدعى David Urquhart ببعض التأثير على السياسة الخارجية البريطانية .
كان توجه معظم المتخوفين من الروس في بريطانيا حينئذ ، في توسع روسيا المحتمل في جنوب شرق أوروبا ، بينما تحول إنتباه أوركهارت ، وهو معجب صادق للثقافة الإسلامية ، إلى جهود روسيا لطرد العثمانيين من الساحل الشمالي للبحر الأسود . لقد كان يفترض ، أنه بمجرد أن الروس سيطروا على القفقاس فإنها ستكون قادرة على إطلاق حملات إلى إيران وآسيا الوسطى والهند ، مما قد تسبب هذه الحركة المحتملة ، إمكانية اغتصاب روسيا للمصالح الاقتصادية البريطانية في جنوب آسيا . ربما كان اوركهارت قد ظهر كبطل للشعب الشركسي ، إلا أن تصوره كان بلا شك مزيج من الأسطورية للمحارب الشركسي ، وتصوره الخاص للرومانسية في العالم المسلم . وفي الواقع ، فقد زار شيركيسيا مرة واحدة فقط ، ولم يستطيع إعطاء صورة دقيقة للشعب الذي عاش معها .
لقد أرسلته المخابرات البريطانية في عام 1834 إلى شمال القفقاس الغربي ، وسرعان ما تولى على عاتقه مهمة تحريض الشركس على التمرد . ففي قلعة أنابة ، اجتمع 15 زعميا شركسيا ومجموعة كبيرة من الشيوخ الذين كانوا بالفعل في حالة غضب من سلوك روسيا ، وسعى أوركهارت بمهمته بقوة لنشر المبررات للتدخل البريطاني في الداخل ، وإثارة الشركس في شركيسيا . وبعد عودته إلى القسطنطينية أخذ خطوات عدوانية على نحو متزايد ضد تصرفات روسيا في شركيسيا ، وبلغت ذروتها في محاولة واضحة للتحريض على الحرب بين بريطانيا وروسيا ، بإنتهاك الحصار الروسي في ساحل البحر الأسود في 1836 . لقد كانت هذه الخطوة ، التكلفة النهائية في حياته السياسية ، وأدت طبيعة حدة حجج حركة المعارضة المتخوفة من روسيا بصفة عامة ، إلى فقدان نفوذهم بحلول 1840 ، وتمتعت إنجلترا وروسيا فترة وجيزة من علاقات ودية ، ليتم غض الطرف عن قضية الشركس .
ومع ذلك ، وفي حين أن فصائل اوركهارت من القوة البريطانية تسللت بنشاط في شمال القفقاس ، مع غيرها من المخابرات ، التي هدفها هو تشجيع الشراكسة في حربهم ضد الروس ، واعدا لهم الدعم المادي والعسكري في هذا الجهد . ولم تكن هناك سياسة رسمية بريطانية ، ويمكن أن يكون هناك شك في أن هذه العوامل كانت تعمل بعلم وموافقة الحكومة البريطانية ، أو كما يلاحظ Paul B. Henze ، فانهم لن يستمروا وقتا طويلا ، حيث يقول : ” … وتألفت جهودها بما يعرف الآن باسم عمليات العمل السري ، ومع ذلك ، فقد كان المستوى الفعلي للمساعدات العسكرية للشركس أقل بكثير مما يلزم ، لتحقيق النجاح ضد الجيش الروسي . لقد كان البريطانيون يعدون الشركس بمستوى من الدعم العسكري ، ولكنهم كانوا في وضع لايسمح لها بتقديمها ” .
في الوقت نفسه ، كانت حركة المعارضة البريطانية المتخوفة من الروس ، تشجع الشراكسة لتصعيد القتال ضد الروس في لحظة حرجة للعلاقات الروسية الشركسية . والأكثر أهمية في هذا الصدد هو James Bell ، الذي عاش في شركيسيا لفترات طويلة بين 1837 و 1839 ، فقد أصبح أول المهتمين في وقف التوسع في روسيا ، نتيجة للتدخل مع المؤسسات التجارية على طول نهر الدانوب ، بهدف إنشاء قيادة موحدة من الأرستقراطية الشركسية ، وشجع الشركس إلى رفض العروض الروسية . كما انه أحبط محاولات بعض قادة الشركس لتشجيع التسوية مع الروس . وكان يدرك جيدا أن الحل البريطاني للحصول على الدعم المتواصل للشركس كان متعثرا . في حين ، كان هناك شك في أن الحرب الروسية الشركسية قد تصاعدت على أي حال . لقد كانت أنشطته في شركيسيا ، جزء من المقامرة الجيوسياسية التي كان الشركس يأخذون العبء الكامل لمخاطر فشلها .
في 1840 ، كان المهاجرين البولنديين يحلمون بالعودة إلى حدود بولندا لعام 1772 ، وكانوا الأكثر وضوحا بين النشطاء الموالين للشركس . وعلى الرغم من أنه تم مساعدتهم من قبل السياسيين البريطانيين المناوئين لروسيا ، فقد سعى بعضهم مثل الأمير Adam Czartoryski إلى خلق حلف مناهض واسع لروسيا ، وعمل بنشاط مع البريطانيين في 1830 . كما أن بعض الشخصيات البريطانية كانت قد خططت لاقامة دولة شركسية مستقلة تحت حمايتهم ، ولكن إهتمام البولنديين كان في زيادة الصعوبات فقط ضد الجيش الروسي ، من أجل نجاح خططها لإعادة بعث دولة بولندية من جديد .
وفي عام 1841 ، بدأ المهاجرون البولنديون في إسطنبول يأخذون دورا نشطا في تحريض الشراكسة والقوزاق أيضا ضد الروس ، كما أشار Mihail Czaikowski ، مديرالنشاطات السرية البولندية في اسطنبول في العام 1841 : “… ومن أجل إعطاء مزيد من النفوذ للأمير Adam Czartoryski مع إنكلترا ، وبعد إجراء اتصالات مع السلاف ، فقد قررت إجراء إتصالات مع الشركس ، والذين هم أكثر الناس أهمية من الشعوب الآسيوية الآخرى الذين يعيشون بين البحر الأسود وبحر قزوين ، ومن خلالهم نستطيع تخويف الروس ” .
وبينما كانت الجهود البولندية التي توضح القضية برمتها ، بإعتبار أن شركيسيا منطقة إستراتيجية ، فقد لفت إنتباه القوى العظمى البعيدة عن المنطقة ، أن المصالح الشركسية في حد ذاتها لم تكن تشكل أي قلق ، وعلى الأقل لبعض تلك الأطراف ، التي لا ترى تلك الأهمية الإستراتيجية . في حين يبدو أن مؤيدي العمليات البريطانية السرية مثل جيمس بيل وأوركوهارت ، فقد شعرا بصدق عن تعاطفهم مع الشركس ، وإعتقدا بإخلاص بأنها ستكون أفضل حالا في ظل الحماية البريطانية لشيركيسيا ، بينما كان الأمير البولندي Czartoryski وحلفائه العثمانيين ، مهتمين فقط في الشركس كأداة لكسر القوة الروسية في البحر الأسود ، وشل قدرتها على التأثير في الأحداث أوروبا .
إن الدعم البريطاني القليل لشيركيسيا الذي استمر خلال 1840 ، كاد أن يكون من أشد المناقشات التي قوضته القوى الأوروبية ، وقامت بالتركيز في حرب القرم بدلا عنه . لقد كان فعلا خسارة آخر فرصة لبقاء الامة الشركسية ، وذلك نتيجة لقرار إستراتيجي خاطئ من قبل فرنسا وإنكلترا ، والذي ضمن الترحيل الجماعي خلال المفاوضات في نهاية الحرب .
ففي البداية ، قدّم إندلاع حرب القرم لحركة المعارضة المتخوفين من روسيا في انكلترا ، دفعة جديدة لمناقشة قضية إستقلال شركيسيا . وزار Edmund Spencer منطقة البحر الأسود في عام 1851 ، ونشر مذكراته في عام 1854 بعد رحلة كان حماسه فيها شديدا وغير مقيدا ، وداعما لفكرة التحالف مع الشركس ، حيث كتب قائلا : “… فيما يتعلق بالشركس ، فمجرد وجود إنجليزي شاب من الحرب لن يكون كافيا لإثارة كل رجل قادر على حمل السلاح من البحر الأسود إلى بحر قزوين” . وعلى ما يبدو فقد كان يجهل أن كل رجل قادر على حمل السلاح ، كان قد إنخرط في صراع مع الإمبراطورية الروسية ما لا يقل عن 20 عاما خلت . وتوقع في هذا العمل الإبادة الجماعية الشركسية ، مجادلا بأن الروس سوف يعملون على إبادة الشراكسة إذا إكتسبوا الحرب في أي وقت ، ولكنه كان متأكدا للإهتمامات الإنسانية ، وحاول تعزيز حجته المركزية لصالح دعم الشركس ، بأنه إذا سيطر الروس على شمال القفقاس ، فأنها سرعان ما تغزو كلا من إيران وتركيا ، وفي نهاية المطاف ستغزو الهند أيضا .
بدا الوضع واعدا من وجهة نظر الشركس ، فقد عززالعثمانيين مساعداتهم ، وأرسلوا أحد النبلاء الشراكسة المعادين للروس ، وهو الأمير Sefer-Bey Zanoko ، وكان يعيش منفيا في إسطنبول ، إلى شيركيسيا للتحريض ضد الروس . وعندما إجتمع مع الضباط الإنجليزوالفرنسيين والأتراك في مدينة Sukhum في أبخازيا ، عومل كزعيم شرعي لشركيسيا . لكن الشيخ محمد أمين ممثل الشيخ شامل ، كان قد رسّخ نفوذه على الكثير من زعماء الشركس ، وفتح الصراع بينهما ، الذي أعقبه صراع بين معظم قادة شركيسيا ، وبدأ الزعيمان بقتال بعضهما ، بدلا من تنسيق جهودها ، مما ساعد على هجوم الروس على قلعة أنابة وسقوطها بأيدي الروس . ولكن القوات المتحالفة مع الشركس أستعادتها ، ولما طلب من الأمير صفر بي بتسليم القلعة ، رفض الطلب لإنها ضمن السيادة الشركسية ، وهكذا ، فقد حرم الشركس من الفرصة الأخيرة للحصول على الدعم الدولي .
إتخذ القرار الروسي لغزو الأراضي بالقوة في سيفاستوبول ، إلا أن الحرب لم تدخل قط شركيسيا ، ولكنه تحدد مصير الشراكسة في معاهدة باريس عام 1856 . لقد أدت المعاهدة الى حد كبير إلى استياء الحكومة البريطانية لأنه تم إعطاء روسيا يد حرة في منطقة القفقاس ، فقد كتب الروسي Vladimir Degoev قائلا : “…. لقد كان القمع النهائي للمقاومة في شمال القفقاس ، والتي تخلى عنها الغرب لرحمة القدر ، من دون أية ضمانات قانونية دولية ، وهي مسألة وقت لاغير” .
في 1861 إتفق ممثلين عن الدولة العثمانية وبريطانيا عل وعد بالإعتراف الدولي للشركس ، من قبل الدول المتحالفة : بريطانيا وفرنسا وتركيا ، بشرط إتحاد الشركس معهم ضد الروس . وتم نشر عريضة الشراكسة في العام التالي في الصحافة البريطانية تطالب بالدعم العسكري ، إضافة لموجة من المقالات المناهضة لروسيا والتي ظهرت في وقت لاحق . وثبت ان القوة المتعددة الجنسيات كانت سيئة التنظيم وغير فعالة أبدا ، على الرغم من أن البريطانيين والفرنسيين واصلوا ممارسة الضغوط الدبلوماسية على الروس حتى عام 1864 ، إلا أنه تم طرد الشراكسة من وطنهم .
لقد تم التستر عن عمليات الترحيل الجماعي الوحشي ، والخسارة الفادحة في الأرواح ، من قبل قيادة الجيش الروسي عن الحكومة في سان بطرسبرغ . ففي عام 1864 ، وجدت عدة تقارير مكتوبة من قبل المسؤولين المحليين عن الترحيل ، تشير إلى غياب لافت لتفاصيل الظروف المروعة التي يواجهها المبعدين . ولم توصف وصفا حقيقيا عن أهوالها ، حتى كشف عنها لاحقا في العام 1877 المؤرخ الروسي Ivan Drozdov ، ونشركشف حسابه الدقيق عن الأيام الأخيرة من الحرب في صحيفة Sbornik Kavkazskii ، ولسوء الحظ لم تترجم مذكراته للآن ، ولا تزال الغالبية العظمى من شعوب العالم تعيش في الظلام بالنسبة لحجم معاناة الشركس .
بعد حرب القرم مباشرة تحولت المنافسة الروسية – البريطانية إلى الشرق ، فتحركت بريطانيا شمالا عبر أفغانستان ، أما وروسيا فكانت قد بدأت غزوها لآسيا الوسطى . وتحولت الأنظار عن الإمبراطورية العثمانية التي ركزت إهتمامها بمنطقة البلقان ، فكانت خسارة الشراكسة في التاريخ . لقد تحقق لروسيا في نهاية المطاف ما أرادته ، وهو الهيمنة على شمال القفقاس ، وتحويلها بشكل فعال شأنا روسيا داخليا ، ولم تترك مصير الشراكسة فقط ، بل وجميع شعوب المنطقة ، لتقلبات السياسة الداخلية الروسية .
وهناك مجموعة متنوعة من العوامل أثرت على المراقبين الأوروبين المنزوعة الحساسية لما حدث للشراكسة . فالأساطير القديمة كوصف الرجل بالهمجي النبيل والمرأة كالجمال المثير ، صبغت الشركس كالشرقيين ، بينما أعرب الآخرين بطريقة مثيرة للإعجاب في بعض النواحي ، لكنها لم ترقى لمستوى الأوروبية المتحضرة . إن التصعيد البطيء في الحرب الروسية الشركسية ، والمناورات الروسية في أجزاء من أوروبا القريبة من القوى الكبرى ، أبقى الصراع بعيدا عن صدارة الإهتمام الأوروبي حتى الثلاثينات من القرن التاسع عشر، ولم تكن بعض تلك القضايا تتناولها الصحافة باستمرار.
لقد جاءت هزيمة الشركس في وقت كانت تبنى فيه الإمبراطورية الروسية على حساب القمع الشديد للشعوب المقهورة ، بما في ذلك إعادة توطينهم ، والتي لم تكن معروفة عالميا . لقد كان مخططا بأن تظهر للمراقبين المعاصرين في أوروبا في أن يكون الحادث عاديا نسبيا ، في حين أن الإستيلاء على الأراضي الشركسية للتوسع الروسي كان يشبه إلى حد كبير لتوسع الولايات المتحدة على حساب الأميركيين الأصليين ، وربما كان يجب النظر إليه بانها كانت تستحق قليل من الإدانة .
إن ترحيل الشركس إلى دولة أخرى كان العمل الوحيد غير المسبوق حقا ، وصورتها الحكومة الروسية بأنها عمليات ترحيل طوعية ، مما عمل على تقليل الإعتراضات حولها بشكل عام ، في حين أن القيادة العسكرية الروسية كانت متسترة حول الموضوع بكل عناية ، حتى عن سانت بطرسبرغ ، وذلك لوحشية العملية ، وإرتفاع معدل الوفيات بين الشراكسة . إضافة لذلك ، فإنه لم يحدث في التاريخ الحديث من قبل ، كما حدث مثل الإبادة الجماعية الشركسية ، مثلما يقول Paul Henze :”كان التهجير الجماعي أول نقل جماعي عنيف للسكان في هذا الجزء من العالم ، وفي العصر الحديث”.
وفي وقت لاحق ، بدأت تطغى على الساحة مأساة الأرمن في الأناضول الشرقية ، حيث إقتلع الملايين من الأرمن واليونانيين والأتراك والأكراد وغيرهم ، ومات مئات الآلاف منهم خلال الإضطرابات في الحرب العالمية الأولى وبعدها ، ولكن تلك الكوارث لم تكن لها علاقة عرقية كليا على الآخرين . بينما كان للإبادة الجماعية الشركسية أهمية خاصة بالنسبة لعمليات التطهير العرقي في المستقبل . ومع ذلك ، وبنفس الوقت ، فإنه كتب عليها أن تكون معزولة عن العالم على ما يبدو ، إذا الحدث كان مؤسفا جدا .