يمتد تاريخ الرصيفة قديما عبر آلاف السنين ، وتقع في الحوض الأعلى لنهر الزرقاء ، ويخترقها بمصاطبه ومنحدراته اللطيفة حيث يطلق عليه في هذا الجزء اسم “سيل الرصيفة” ، الذي يحاذيه عن يمينه ويساره مجموعة من التلال تفصلها الأدوية الصغيرة . وقد إتخذها الرومان قديما محطة على الطريق الرومانية المسماة طريق “تروجان “، والتي تصل ما بين البتراء وبصرى الشام . وقد أظهرت الدراسات والتنقيبات الأثرية فيها عن وجود عدة مواقع أثرية مثل : خربة الرصيفة ، رجم المخيزن ، جريبا ، منطقة النقب ، وتل ابو صياح ، إضافة إلى الكهوف التي ترجع إلى العصور القديمة .
وكلمة الرصيفة هي تصغير مؤنث لكلمة رصيف ، أو رصفة ، وتعني اما الطريق المرصوفة بالحجارة أو الحصى ، والتي كانت تتشكل عادة على مجرى السيول عندما تنحدر اليه الحجارة وتتفتت ، ويتحول مسيره الى مفترش للحصى المرصوف ، فتصبح مرصوفة أو رصيف أو رصيفة . وكانت هناك طريق رومانية مرصوفة قديمة تمتد على طول وادي الزرقاء لغاية الرصيفة ، كما تدل على ذلك الأحجار الرومانية على الطريق القديمة بين الرصيفة وماركا ، وهكذا جاء إسم الرصيفة .
زار موقع خربة الرصيفة الرحالة السويسري “Johann Burckhardt” مكتشف البتراء ، وكتب عنها عن رحلته عندما وصف فيها عمّان أيضا في 1812 ، وتابع سيره عبر مجرى نهرها مرورا بعين غزال ، حتى وصل إلى خربة الرصيفة . و وردت عن الرحالة “Sula Merle” في 1877 ، بقوله : “لا بد أن الرصيفة كانت مدينة مهمة في أيام الرومان كما تدل آثارها الباقية”. وأشار الإنجليزي الميجر “Condor” إليها في عام 1889 بقوله : “وهي الى الشمال الشرقي من قرية عمّان ، وتنتشر أساساتها لأكثر من خمسين ياردة ، وفيها برج مركزي مسطحه 40 قدم مربع ، وإرتفاعه 10 أقدام ، وتبعد أربعة أميال الى الغرب من العيون والينابيع” .
أما الرحالة “Laurence Oliphant” فقد تحدث في العام 1939 عنها واصفا بقايا القلعة : “ويتراوح مساحتها 800 ياردة طولا و50 ياردة عرضا” . وذكر”Lankester Harding” بالقول : ” لقد كانت أجزاء من شرقي الأردن تحت البحر في العصور الموغلة في القدم ، ويستدل على ذلك بوجود أنواع من المحار والصدف المتحجرة التي يعثر عليها في جوانب كثيرة من البلاد . وتحتوي مناجم الفوسفات في الرصيفة قرب عمّان على عظام وهياكل أجسام لأنواع كثيرة من السمك والسلاحف البحرية ، التي يعود عهدها الى حوالي ثمانين مليون سنة “.
ظلت الرصيفة مهجورة فترة طويلة من الزمن ، حتى نزل بها المهاجرون الشركس ، و قاموا بتأسيس قرية الرصيفة الشركسية في عام 1909 ، وبنوا فيها أول مسجد في عام 1910 ، ولايزال قائما ويسمّى مسجد الشركس القديم ، وأعادوا الحياة للمنطقة من جديد . أخذوا الشراكسة يحولون الأراضي الواقعة على جانبي سيل الرصيفة إلى بساتين غناء بزراعة أشجار الفاكهة مثل اللوز والإجاص والمشمش التي إشتهرت فيها . وكان من العائلات الشركسية التي إستوطنتها : قوشحة ، السيِن ، خوران ، سِجاجة ، باشتة ، ألتود قُموق ، بردوقوة ، ماخسة ، أرخاغة ، قوة رّش ، كِشوقة ، تُوقة ، مّشوقة ، شِة بِت ، أبشّو ، حؤبش ، حّموقة ، طِفْ ، يلجروقوة ، ألتدوقوة ، لوستان ، تاجكة ، زارة موك .
ومن أشهر أبنائها عباس باشا محمد مرزا توقة ، الذي ولد في القفقاس ووصل بمعية المهاجرين مع والديه وهو في الثانية من عمره ، وبعد وفاة والده وهو طفل صغير ، تزوجت والدته عزيز زكريا لوكاشة من وجهاء جرش ، فإنتقل إليها ودرس الإبتدائية فيها ، ثم سافر إلى دمشق وإلتحق بمدرسة عنبر الإعدادية ، ثم إنتقل إلى كلية صلاح الدين في القدس . إلتحق بجامعة دمشق ودرس الحقوق ، وعمل في الشام في عهد الملك فيصل الأول ، ليعود إلى الأردن ويعمل في وزارة الداخلية في عهد الإمارة . ثم تولى وزارة الداخلية وأصبح أول وزير للداخلية في عهد المملكة الأردنية الهاشمية في 4/2/1947 ، وشغلها لثلاث مرات ، ثم أصبح عضوا بمجلس الأعيان الأردني الخامس خلال 1955 – 1959 .
سكن بعض العائلات الدرزية في قرية الرصيفة الشركسية ، وكان أول من سكنها منهم حسيب ذبيان سنة 1918 ، وبعد ذلك أخذ الدروز يتوافدون للإقامة فيها . وتذكر زكية علي اسماعيل راشد (أم مشهور) التي حضرت من قرية (جندل) بجبل الشيخ مع عائلتها ولم يتجاوز عمرها أربعة أعوام ، فتقول : “كانت الرصيفة عبارة عن غابة يتخللها نهر كبير لا تسمع فيها غير صوت طيور القطا ، وهي تشرب من ضفاف النهر ، وخرير الماء وحفيف أوراق أشجارالصفصاف والحور والدفلة ، وقصيب السيل الذي صنعوا منه سقوف بيوتهم الاولى ، ولا تشاهد غير اللون الاخضر الذي لا يحده بصر ، وأسماك النهر المتقافزة والتي كانوا يصطادونها كلما اشتهوا أكل السمك ” .
وتذكر أم مشهور أسماء جيرانها الشركس عبر ذاكرتها ، فتقول : “شمس الدين جرندوقة وأخوه محي الدين ، الحاج شاستو ، وعائلة ناشخو ، وعمر داغستاني “. وتذكر أيضا الدروز ، فتضيف : “عائلة حسيب بيك ذيبان صاحب منتزة لبنان الذي كان من أشهر معالم الرصيفة ، وعائلة أبو ياسين سلطان ، الذين ما زالوا يحتفظون بقدور الطعام الكبيرة التي كانوا يعدون فيها الطعام للأمير عبد الله بن الحسين عند حضوره إلى الرصيفة مع ضيوفه للراحة والاستمتاع تحت خمائلها .
وتردف بأن النسوة كن يعجن طحين القمح في اليل ، ويشعلن قبل الفجر النار تحت الصاج لخبزه ، وكن يجمعن البيض من قن الدجاج ، ثم يحلبن البقر لاعداد وجبة الافطار لعائلاتهن . وكان تسخين الماء على الحطب ، وكان الغسيل بالجلوس لساعات امام لجن الغسيل كل يوم ، في زمن لم يعرفن فيها الكهرباء ، بينما كان الماء ينقل بالقرب وجرار الفخار الى البيوت . وكان أيام العمل اليومي متواصل بالارض ، وإعداد ثلاث وجبات يوميا للعائلة والعمال أيضا ، وكلما حضر ضيف كانوا يصطادون السمك من السيل ويقدموه له مشويا طازجا .
كتب الشيخ حمزة العربي إمام حضرة الأمير عبدالله وناسخ ديوانه ، في كتابه بعنوان جولة بين الآثار ، بقوله : “أما الرصيفة فتبعد عن عمان خمسة عشر كيلومترا الى الشمال ، يمر بها النهر أولا ، فيسقي مزارعها وبساتينها ، ثم ينساب ما يفضل عن حاجتها الى الزرقاء ، تعززه بعض الينابيع الفياضة على طول الطريق ، وما يفضل عن حاجة مزارع الزرقاء ينساب كالأفعوان في واد بين الجبال الى أن يخرج الى الغورغربا” . ويضف بالقول : “الرصيفة قرية صغيرة ، إلا أنها كثيرة الثمار والفواكه ، منها تأتي أكثر الفواكه الى عمّان ، فتباع في أسواقها بأثمان رخيصة ، من ذلك الخوخ والمشمش والكمثرى واللوز والسفرجل والتين والعنب الى غير ذلك من الثمار . وهي من منتزهات شرقي الأردن يخرج اليها أرباب الثروة وكبار الموظفين للاستجمام والراحة في أيام العطلة والأعياد ” .
وتاريخ البلدية ومن قبله المجلس القروي يمكن تتبعه منذ الخمسينات من القرن الماضي ، حيث كانت الخدمات تقدم للرصيفة في البداية من قبل بلدية الزرقاء ، حتى تم تشكيل أول مجلس قروي في الرصيفة بتاريخ 1/6/1957 ، برئاسة محمد علي ذياب حتى عام 1959 ، وتم ترفيع المجلس القروي إلى بلدية بتاريخ 16/4/1964 برئاسة المرحوم مصطفى حسن حيدر . ثم تم ترأسه في 1/1/1967 عز الدين شعيب أرخآغة ، وفي 1/8/1971 أصبح شمس الدين جراندوقة رئيسا للبلدية .
كما تأسس في الرصيفة فرع للجمعية الخيرية الشركسية في العام 1961 ، وقد تشكلت أول هيئة إدارية رئاسة شمس الدين جراندوقة ، وعضوية كل من : جانكري حبجوقة ، عدنان سلمان السين ، شريف محي الدين خطة ، أحمد شابسوغ ، صلاح أرخآغة ، جلال والي ، والحج علي الروسي .
تم إكتشاف الفوسفات في الرصيفة عام 1932 ، وكان إستغلاله على نطاق محدود ، فقد كانت عمليات التنقيب يدوية ، فكانت تتم عمليات الحفر والنقل ، ثم نثره على الأرض لتنشيفه . وتعثر الإستثمار فيه بسبب قيام الحرب العالمية الثانية ، ولكنه عاد للعمل عندما تأسست شركة الفوسفات الاردنية عام 1953، وأصبح العمليات تتم بواسطة أليات ضخمة ، وتزايد إنتاج الفوسفات ، وتم تصدير اول شحنة منه الى الخارج في ذات العالم . كما تطورت صناعتها ، ودخلت التقنيات الفنية العالية بعد قدوم الخبراء من يوغسلافيا . وبدأت الأيدي العاملة تأتي من كل أنحاء الأردن ، وصارت قرية الرصيفة الشركسية نقطة جذب صناعي وزراعي ، مما ساعد في نموها السكاني . وتم إغلاق منجم الرصيفة في نهاية الثمانينات من القرن العشرين ، إلا أنه لا تزال بقايا المنجم قائمة الى الآن .
وكان خط سكة الحديد يمر في الرصيفة ، وتم إستخدامه لفترة طويلة في نقل الفوسفات ، كما كانت هناك محطة الرصيفة وهي إحدى محطات خط سكة حديد الحجاز، وتقع على الكيلو 212 في مساره ، وتقع في وادي القطار الذي سمي بهذا الاسم نسبة إلى خط السكة الذي يمر به ، وهي تحاذي مناجم الفوسفات من الجهة الشرقية ، لا يوجد أثر للبناء الأصلي الذي زال نهائيا . والبناء الحالي بني في مطلع الأربعينات ، لنقل الفوسفات بالقطار منها الى رأس النقب ، ومن ثم براً حتى خليج العقبة . وهي الآن محطة لقطارات الركاب والبضائع من وإلى الشام .
تطورت قرية الرصيفة الشركسية سريعا ، وقفزت خطوات واسعة نحو التقدم وأصبحت مدينة زاخرة حيث أقيمت فيها العديد من الشركات الصناعية . وإزداد عدد سكانها عبر مراحل بزيادة سكانية كبيرة . ولجأ الآلاف اللاجيئين الفلسطينين إليها في العام 1948 إثر نكبة فلسطين ، حيث أقيم مخيم شنلر بالقرب منها ويعرف اليوم بمخيم حطين ، ثم نزح آلاف النازحين من الضفة الغربية وقطاع غزة جراء نكسة حزيران 1967 . وكانت الهجرة الأوسع في أعقاب حرب الخليج الثانية في عام 1990 ، وتكونت أحياء جديدة كحي القادسية وحي الرشيد ، اضافة الى تكدس الأحياء القديمة ، مما أدى ألى الزحف السكاني الى مناطق الفوسفات ، حتى اصبحت تلال الفوسفات وسط المدينة .
تعد مدينة الرصيفة اليوم من كبرى مدن المملكة ، وتتميز بموقعها الاستراتيجي الواقع بين العاصمة عمان ومدينة الزرقاء ، ويبلغ عدد سكانها نصف مليون نسمة ، ومساحتها نحو 38 كم2 ، وتبلغ كثافتها السكانية حوالي 15000 نسمة في الكيلو متر المربع الواحد ، اي انها من اعلى المستويات عربيا وعالميا .
وليد هاكوز
تورونتو – كندا
الأول من شباط 2012
Reference:
1. E.L.Rogan. Frontiers of the State in the Late Ottoman Empire, Cambridge, UK – 1999.
2. Mamedkhir Hkhandoukh. The Circassians, Amman, Jordan – 1985.
3. Paul W. Copland. The Land and people of Jordan. London – 1972.
4. Laurence Oliphant The land of Gilead. London – 2004.
5. Jordan Phosphate Mines Company : http://www.jordanphosphate.com.
6. Zarqa News: http://www.zarqanews.net, 3/6/2011.
7. http://jormulti.blogspot.com/2011/03/123_8799.html.
8. Muflih Adwan. A-lRai: http://archive.alrai.com/pages.php?news_id=370992.
نقلا عن: موقع الأخبار الشركسية
http://www.circassiannews.com/?p=7747