ويذكر كتاب ( الشركس ) أن قبيلة الشابسوغ كانت أول قبيلة شركسية وصلوا إلى عمان سنة 1868 عن طريق الشام قادمين من تركيا ، وعندما حطــُّـوا رحالهم في عمان ، لم يكونوا يحملون معهم شيئا إلا ما يحمله المهاجر من ألبسة ضرورية وبعض الحاجات البسيطة كالأمتعة والفراش والأسلحة التي تزين عادة اللباس القومي الشركسي ، كالخناجر (القامه) والسيوف والمدى ، وهي أسلحة تلازم الشركس ملازمة الظل للإنسان ، إذ أنها جزء مكمل للباس القومي ، وسكن المهاجرون في أروقة المدرج الروماني والكهوف الكثيرة المتوفرة في أودية عمان ، وأخذوا يفكـِّـرون في كيفية العيش في هذا الوادي الذي ليس فيه إلا سيل المياه التي تنبع من رأس العين متجهة إلى الشرق ، وكان على ضفتي السيل أشجار كثيفة تكثر فيها الحيوانات الكثيرة ، وتوفي الكثير من أطفال المهاجرين بالملاريا والتيفوئيد والحصبة ، وبقي المهاجرون من الشابسوغ على هذه الحالة المضنية إلى أن بدأت تفد أفواج المهاجرين الآخرين من القبرطاي والبزادوغ إلى عمان تباعا ، وعلى فترات متقطعة ، وشدَّ وصول المهاجرين الجدد من عزائم المهاجرين الأوائل ، وبدأوا في تنظيم حياتهم ومعيشتهم ، وأخذوا يشقون الأرض ويزرعونها بمحارث من الخشب من صنع أيديهم ، كما صنعوا أدوات حصد المزروعات وجنيها ودرسها ، وكانت كلها من الخشب .
وكان آخر فوج من المهاجرين الشركس قد وصل إلى عمان سنة 1900 عن طريق الشام وكانوا من قبائل الجلاخستنيه والقبرطاي وتمَّ نقلهم من محطة المزيريب في سوريا ، وكان خط السكة الحديدية ينتهي هناك في ذلك الوقت ، وكان قائد الدرك العام في سوريا في ذلك الحين خسروف باشا قد أمر باتخاذ المحطة المذكورة مركزا لتجميع المهاجرين الشركس الذين كانوا يفدون من تركيا إلى الشام عن طريق بيروت أو حلب ، تمهيدا لنقلهم إلى الأردن ، للالتحاق بإخوانهم الذين سبقوهم إلى هناك ، وقد تمَّ نقلهم على الجمال والبغال على شكل قوافل بإشراف خسروف باشا نفسه ، وساعده في ذلك ميرزا باشا الذي كان يعمل في الشام مع خسروف باشا ، وتولت لجنة خاصة برئاسة ميرزا باشا ومحمد أفندي حبجوقه إسكان هؤلاء في حي المهاجرين ، بعد ان عاشوا فترة من الوقت في زمهرير الشتاء وحر الصيف في المنطقة المحيطة برأس العين في الخيام والأكشاك ، وكانت الحكومة العثمانية التي أشرفت على إيصال المهاجرين الشركس إلى الأردن تعاني من صعوبات كثيرة في حفظ الأمن وجباية الضرائب ، ولذلك راعت الحكومة العثمانية في تحديد أماكن استيطان المهاجرين الشركس الإعتبارات الأمنية التي تساعدها في تذليل المصاعب التي كانت تجابهها في المنطقة ، بحيث تصبح أماكن القرى الشركسية أشبه بحزام أمني يضمن للحكومة العثمانية حفظ الأمن وجباية الضرائب والسيطرة على الغزوات والغارات التي كانت تكثر في تلك المرحلة ، فجاءت أماكن استيطان الشركس على الشكل التالي حول مدينة عمان من جميع نواحيها :
1 ) عمان ، وضمَّت معظم المهاجرين من قبيلتي الشابسوغ والقبرطاي والقليل من الأبزاخ .
2 ) وادي السير وضمَّت معظم المهاجرين من قبيلتي الشابسوغ والبزادوغ والأبزاخ ، وكان يكثر في المنطقة عشائر عبـَّـاد والمناصير .
3 ) صويلح ، وضمَّت معظم المهاجرين من القبرطاي والشيشان ، وكان يكثر في المنطقة عشائرالعدوان والعشائر التابعة لها أو المتحالفة معها .
4 ) جرش ، وضمَّت معظم المهاجرين من القبرطاي ، وكان يكثر في المنطقة عشائر بني حسن التي تمتد أراضيها ومضاربها شرقا حتى مدينتي المفرق والزرقاء ، ويذكر كتاب ( جرش … تاريخها وحضارتها ) لمؤلفه الدكتور أسامة يوسف شهاب العضيبات أن الشركس الذين استقرُّوا في جرش بنوا في عام 1298 هجرية ــ 1878 م مسجد جرش العثماني الذي لا يزال يعرف بمسجد الشركس في وسط جرش ، وينقل شهاب عن الرحالة روبنسون الذي زار جرش في عام 1890 م أن الشراكسة الذين كانوا حوالي ألف نسمة بنوا منازلهم بعيدا عن آثار جرش الرومانية ، وينقل عن الرحالة وليم ليبي والرحالة فرانكلين هوسكين اللذين زارا جرش في عام 1902 م قولهما إن جرش كانت قرية شركسية .
5 ) الرصيفة ، وضمَّت معظم المهاجرين من القبرطاي ، وكان يكثر في المنطقة عشائر الدعجة .
6 ) الزرقاء ، وضمَّت معظم المهاجرين من الشيشان الذين وصلوا إلى الأردن عام 1902 – 1905 م مع شيشان صويلح وأفراد قلائل من القبرطاي ، وكان يكثر في المنطقة عشائر بني حسن .
7 ) ناعور ، وضمَّت معظم المهاجرين من الأبزاخ والبزادوغ وقليل من القبرطاي والشابسوغ ، وكان يكثر في المنطقة عشائر العجارمة وغيرها .
وبعد هذا التوطين الأمني ، لجأت الحكومة العثمانية إلى تجنيد الشركس والشيشان في صفوف قوات الدرك والفرسان ، وفي غضون ذلك وصل ميرزا باشا من بيروت ، وكان مسؤولا عن الأمن في بيروت وصيدا وصور ، وقام بتشكيل فيلق الفرسان الشركس ، وكان من مهام هذا الفيلق صيانة الخط الحديدي من عمان إلى تبوك ، وفي هذه الأثناء كلف ميرزا باشا بتوزيع الأراضي لجميع سكان القرى الشركسية من المهاجرين .
الملك المؤسِّس ينقذ عشرات الشراكسة من التسليم للروس
في عام 1948 م ، وفي غمرة انشغال الحكومة الأردنية في استقبال اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة الفلسطينية التي أسفرت عن نزوح أكثر من مليون لاجيء عن فلسطين ولجوئهم إلى البلاد العربية ، وصل إلى عمان شاب شركسي يدعى عبد الكريم شوابزوقه قادما من روما ، وقابل وزير الداخلية في ذلك الحين السيد عباس باشا ميرزا ، وطلب منه التوسط لمثوله بين يدي الملك المؤسِّـس الشهيد عبدالله الأول بن الحسين ، وشرح لجلالته وجود عدد من الشركس لاجئين في روما في أعقاب انهزام ألمانيا الهتلرية ، وهم معرَّضون لتسليمهم إلى روسيا السوفياتية بموجب اتفاقية ( يالطه ) ، باعتبارهم رعايا سوفياتيين انضموا إلى قوات ألمانيا عند احتلالها لبلاد القفقاس في الحرب العالمية الثانية ، وكان هؤلاء قد لجأوا إلى الفاتيكان ليبقوا في حماية قداسة البابا ، الذي رحب بهم ، وأبى ان يشملهم تبادل الأسرى بين الحلفاء وروسيا السوفياتية ، وقد أمضوا في رعاية قداسته فترة ليست بقليلة والتمس السيد شوا بزوقه من الملك المؤسِّـس قبول هؤلاء الشركس المسلمين كرعايا أردنيين ، أسوة بأخوانهم الموجودين في الأردن ، فاستجاب الملك المؤسِّـس وأمر فورا باتخاذ الإجراءات الكفيلة بترحيلهم من روما إلى الأردن ، كما صدرت الأوامر بصرف تذاكر مرور لهم ، لكن الشركس سرعان ما جمعوا المال اللازم ليوفروا على الحكومة نفقات الترحيل ، واستقبل الأردن الفوج الأول من هؤلاء المهاجرين الشركس ( البزادوغ ) وعددهم 38 بين رجل وامرأة وطفل ، وبعد مرور فترة أخرى وصل إلى عمان جانجري حبجوقة من روما للغاية ذاتها ، والتمس قبول الفوج الثاني وعددهم ( 86 ) شخصا من المهاجرين القبرطاي من الملك المؤسِّـس ، فأجيب الآخر إلى طلبه وصدر الأمر باستقبالهم .
أطماع الإمبراطوريات القديمة في القفقاس
الموقع الإستراتيجي المتميِّـز جغرافيا ً وثروات ٍ طبيعية جعل بلاد القفقاس مطمعا لكثير من الدول الإستعمارية مما جرَّ على الشعوب القفقاسية ويلات الحروب وكوارث الغزوات ، فقد كانت السيطرة على القفقاس تعني في الواقع التحكـُّـم بالممرات البحرية والنهرية للقارات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقيا ، وقد غزت بلاد القفقاس جميع الإمبراطوريات التي ظهرت في الشرق على مرِّ العصور من الآشوريين والكلدانيين والمصريين القدماء والمغول ، ووقعت تحت نفوذ بيزنطة في القرن الثالث الميلادي بعد انتشار الدين المسيحي ، وفي القرن الرابع الميلادي استولت الصين على جنوبي القفقاس ، كما أن إمبراطوريتي الفرس والرومان تزاحمتا على احتلال القفقاس بهدف الوصول إلى أرمينيا ، وعندما انتهى حكم المغول في القفقاس ، بدأ الصراع بين الدولة العثمانية والدولة الفارسية للاستيلاء على القفقاس ، وفي القرن الخامس عشر الميلادي ، تم إخضاع معظم شعوب القفقاس ، ومن بينهم الشركس ، لنفوذ الدولة العثمانية ، ثمَّ دخلت روسيا القيصرية في الصراع ، وأخذت في تطبيق الخـُـطـَّـة التي وضعها القيصر بطرس الأكبر للإستيلاء على القفقاس ، وأخذت روسيا تتوغل في المنطقة ، فأطبقت على دولة القبرطاي التي كانت قد استقلت عام 1739 ميلادي ، وادَّعت روسيا القيصرية أنها المسؤولة عن حماية جورجيا المسيحية والشعوب القفقاسية التي كانت تدين بالمسيحية ، إلى أن أتمت روسيا القيصرية السيطرة على بلاد القفقاس عام 1777 ميلادي ، وذلك بعد حروب طويلة دامت أكثر من 100 عام .
الشراكسة .. قرون طويلة في مواجهة الغــزاة
يتحدث كتاب ( دليل أهلنا ) الذي أصدرته الجمعية الخيرية الشركسية في الأردن ( فرع صويلح ) عن الحروب التي خاضها الشراكسة ( مع إخوانهم الشعوب القفقاسية الأخرى من شيشان وداغستان وغيرهم ) ، فيذكر أنه على الرغم من أن الشراكسة ( وبقية الشعوب القفقاسية ) كانوا ميـَّـالين بطبيعتهم للسلم ويرغبون في مواصلة تطوير حياتهم ، إلا أنه لم يمرَّ عليهم قرن واحد خلال الفترة من أوائل القرن السادس قبل الميلاد إلى القرن التاسع عشر الميلادي إلا واضطرُّوا لاستخدام السلاح دفاعا عن أوطانهم وحرِّيتهم بما مكــَّـنهم من الحفاظ على استقلالهم طوال خمسة وعشرين قرنا ، ومن هذه الحروب :
الحرب ضد الأسكيث
دمَّر الأسكيث مناطق واسعة من آسيا الصغرى والقفقاس وحكموا روما مدة قرن كامل وقد تمَّ طردهم من القفقاس من قبل الشراكسة .
الحرب ضد القوط
عندما غزا القوط القفقاس تصدَّى لهم ( باقسان ) إبن أمير القبرطاي ( داو ) الذي قتل في المعركة مع إخوته السبعة ، فقامت أختهم الوحيدة بدفنهم ، وأقامت تمثالا ضخما لأخيها باقسان لا يزال قائما حتى الآن .
الحرب ضد الأوار
غزا الأوار القفقاس بقيادة الخان بايفان الذي أنذر الشراكسة بوجوب الخضوع له فأجابه ( لاورستان ) أمير القبرطاي : ” سنقاتلكم حتى لا يبقى شركسي واحد قادر على حمل السلاح ” ، وقتل لاورستان في المعركة ، ولكن أمير الشابسوغ ( ينالقوه ) الذي هبَّ لنجدة القبرطاي هزم الأوار .
الحرب ضد الرومان
أرسل يوليوس قيصر إنذارا بوجوب خضوع الشراكسة له ، ولكن الهجمات التي قام بها عليهم فشلت كلها في إخضاعهم .
الحرب ضد التتار والقبجاق
جاء التتار من الجنوب والأتراك من الشمال ولكن بفضل تعاون القبرطاي وشراكسة الكوبان استطاعوا هزيمة الجيشين في مزدوك ( الغابة الصمـَّاء ) .
الحرب ضد التتار
عاد التتار من الشمال فاحتلوا معظم روسيا وحرقوا موسكو وقضوا على دولة الخزر وأقاموا مكانها دولة الجيش الذهبي ، وقضى عليهم تحالف الروس والشراكسة في عهد إيفان الرهيب الذي تزوَّج الأميرة (ماريا) ابنة أمير القبرطاي (تيمورقوه ).
حملة أمير تتار القرم كيتاي خان
عرض كيتاي خان على القبرطاي المبارزة بدلا من الحرب وفي حال تغلب الشراكسة سيقوم التتار بالإنسحاب ، وبعد إنتهاء المبارزة فرَّ كيتاي خان بجيشه مذعورا حين علم أن من صرع بطله وألقاه قتيلا بين قدميه بضربة واحدة لم تكن سوى امرأة شركسية من عامة الشعب تدعى ( لاشن ).
معركة قنجال ضد التتار القرم والترك
حشد ( قبلان غيري) خان القرم 80 ألف مقاتل وعسكروا في سفح جبل قنجال وقاموا بإنذار الشراكسة للإستسلام ، ولكن الشراكسة أرسلوا قبيل الفجر مئات الدوَّاب التي تحمل الهشيم المشتعل إلى معسكر التتار ثم أطلقوا عليهم حجارة ضخمة من المرتفعات المحيطة بالمعسكر مما أثار الذعر والإضطراب في صفوفهم وبالتالي سهل على الشراكسة هزيمتهم فقتل من قتل وفرَّ الباقون إلى الجبال ، وقد وقعت هذه المعركة عام 1708 م .
الحرب الروسية القفقاسية
في عام 1722 م قاد بطرس الأكبر حملة برِّية وبحرية واحتل مدينة باكو ، وكانت هذه الحملة هي بداية الحرب الروسية القفقاسية التي استمرَّت قرنا وربع القرن حتى 1864 م هلك فيها 1.5 مليون جندي روسي والملايين من القفقاسيين الشماليين المسلمين المدافعين عن حريتهم وأوطانهم ، وقد بدأ الروس حربهم ضد مسلمي شمالي القفقاس بتجميع القوزاق المشرَّدين في أنحاء روسيا وتوطينهم على ضفاف أنهار الكوبان والتيرك وسونجا ،كما بدأ الروس أيضا ببناء الحصون والقلاع على شواطئ البحر الأسود فكان الشراكسة يغيرون على هذه الحصون ويدمـِّـرونها ويبيدون القوات المتواجدة فيها وينسحبون إلى الجبال ، فيعود الروس إلى إعادة بنائها وتزويدها بالمدافع وبقوات أكبر ، كما كان الشراكسة يغيرون على قلاع القوزاق ومستوطناتهم ثم ينسحبون إلى الجبال .
وفي عام 1873 م تمكـَّـن الروس من احتلال شبه جزيرة القرم وأخذت الخـُـطط الروسية تركـِّـز على أحد هدفين ، إما تنصير الشراكسة حسب المذهب الأرثوذكسي ، أو طردهم من أراضيهم ، وواجه الشراكسة كل ويلات الحروب عندما هاجمهم الروس والقوزاق بوحشية وحرقوا القرى بما فيها من المساجد والبيوت وزرائب الماشية والمزارع ومخازن الحبوب ، ولكن الشراكسة تمكنوا من طرد الروس من معظم المناطق بعد أن أوقعوهم في كمائن بين الوديان ، وأرسلت الدولة العثمانية بطال باشا ليقود الحرب في القفقاس و ليصبح حاكما عليها ، ولكنه انضمَّ إلى الروس بعد أن سلب 800 كيس من الذهب ، ورغم ذلك تابع الشراكسة مقاومتهم للروس والقوزاق الذين رفعوا شعار ” يجب قتل كل قفقاسي لا يترك دين الإسلام ” ، وكانت هذه الحرب بالإضافة إلى طابعها الديني صراعا بين الحرية والعبودية ، وقد ضرب كارل ماركس فيلسوف الحركة الشيوعية ” الأممي الأول ” المثل بعشق الشراكسة للحرية قائلا : ” يا شعوب العالم ، أيتها الإنسانية ، تعلموا من الشراكسة معنى الحرية ، وانظروا ماذا يستطيع شعب يطلب الحرية أن يعمل ، وشاهدوا البطولات التي قدَّمها هذا الشعب مع قلة قدراته من أجل الحفاظ على حريته ، فعليكم ان تأخذوا العبر منهم ” .
واستمرَّت الحرب لمدة ربع قرن تعرَّض فيها المسلمون القفقاس لأبشع الأساليب البربرية والهمجية حتى 5/12/1864 ، ولكن رغم القتال البطولي الذي خاضه القفقاسيون المسلمون دفاعا عن دينهم وحريتهم فقد اضطرُّوا للهجرة من وطنهم .
وحشية الروس وفظائعهم
ضد شعوب القفقاس المسلمة
وعن الفظائع التي أنزلها الروس والقوزاق بشعوب القفقاس المسلمة يقول الجنرال زيسيرمان والأمير برياتنسكي وهما من قادة الروس في تقريرهما المحفوظ في الأرشيف الحكومي الروسي :
” لقد تعرَّض الشراكسة أثناء اقتلاعهم من الوديان وسفوح الجبال إلى كل أهوال الإبادة الحربية وأنواع العنف والحرمان والجوع والعري والأمراض المختلفة بما فيها الأمراض السارية كالتيفوس والطاعون والكوليرا والتيفوئيد والسل وغيرها .
ويقول دروزدوف في كتابه الصادر عام 1887 م بعنوان ( الصراع الأخير مع الجبليين ( المسلمين ) في غرب القفقاس ) : ” كنت في شباط 1864 م ضمن وحدة روسية تطرد الأبزاخ ، وواجهتنا في طريقنا مناظر مرعبة ، جثث أطفال ونساء وشيوخ ملقاة في كل مكان وقد أكلتها جزئيا الكلاب ، وشاهدنا المهجـَّـرين الضعاف الأجسام يئنـُّـون من الجوع والمرض ، وبالكاد يحرِّكون أقدامهم للأمام ، ويتساقطون من الوهن ، وتبدأ الكلاب بالتهامهم وهم بعد أحياء ، أما الأصحـَّـاء منهم فلم يكن لديهم الوقت للتفكير بالذين يموتون ، لأننا كنا نسوقهم بأسرع ما يمكن إلى شاطئ البحر ” .
ويذكر الجنرال فاداييف في إحدى رسائله : ” لن نستطيع أن نقبل بقاء أي شركسي في ساحل البحر الأسود حتى لو خضعوا لنا ، لقد تطلب الأمر منا ثلاث سنوات من الضرب المستمر للأبزاخ حتى يصلوا إلى الشاطئ ” .
وفي الأرشيف الحربي الروسي يذكر الجنرال داخوفسكي : ” في أول آذار من عام 1846 م وفي الأيام الثلاثة الأولى من تحرُّكنا في أراضي الشابسوغ قمنا بإحراق كل شيء بين التلال الساحلية والشاطئ بحيث لم يبق شيءٌ واقفا ، وفي صباح 19 آذار 1846 م دخلت قواتنا أراضي الوبيخ في منطقة فاردانا الأكثر ازدحاما بالسكان ، وتمَّ إحراق كل القرى ” .
وجاء في كتاب ( جبليُّـو القفقاس ) للمؤرِّخ أبراموف الصادرفي عام 1972 م : ” كان كامل الشاطئ الشمالي الشرقي للبحر الأسود مليئا بالجثث ، والناس في طور النزع الأخير ، وكان باقي الناس في حالة من الوهن الشديد لا يستطيعون حتى دفن موتاهم ، وكان الموظفون الروس الذين يشرفون على طرد القفقاسيين المسلمين يطلبون تحميل أكبرعدد منهم مدَّعين أن الدفع سيكون بعد التحميل على أساس العدد ، وكانت السفن تقف بعيدة عن الشاطئ وينقل إليها الناس بالقوارب ، وبعد امتلاء السفن ، كان الموظفون الروس يعمدون إلى خرق السفن من الأسفل فتغرق بمن فيها من المهجـَّـرين والبحارة وأصحاب السفن ، أما المال المخصَّص لأجرة السفينة فيبقى في جيوب الموظفين ” .
وبالإضافة إلى الذين تمَّ تهجيرهم قسرا عبر البحر الأسود فقد تمَّ طرد أعداد أخرى عبر الممرات الجبلية في القفقاس ومات الكثيرون منهم في الطريق قبل الوصول إلى الأراضي التركية ، وحسب وثائق الأرشيف الروسي والأرشيف العثماني فقد تم تهجير 1.4 مليون من المسلمين القفقاس ما بين 1859 م إلى 1879 م وصل منهم إلى الأراضي التركية 1.1 مليون ، وفي نفس العام أغرقت نتيجة حريق متعمد سفينتان قرب شواطئ قبرص ، وكانتا تحملان مهجـَّرين إلى قبرص وبيروت ، وفـُـقد في الطريق إلى تركيا ما يزيد عن 300 ألف شركسي ، وبينما ظنَّ الناجون أنهم وصلوا إلى بر السلامة إكتشفوا أن الروس قد ألقوا بهم على شواطئ مهجورة بدون طعام ولا شراب أو خيام تؤويهم ، ففتك بهم الجوع والبرد والمرض وبدأوا يتساقطون بالعشرات ، فاضطرُّوا إلى مهاجمة القرى القريبة منهم والإستيلاء على مواشيهم ليأكلوا من لحومها ، وهاجموا مخازن الحبوب المليئة بالفئران فانتشر بينهم الطاعون .
أما البحر الأسود فسيبقى على مر العصور شديد السواد بالنسبة للشراكسة فقد ابتلعت مياهه عشرات الألوف منهم ومات على شواطئه مئات الألوف ، وبقي الشراكسة المقيمين على شواطئ البحر الأسود الجنوبية في تركيا لا يأكلون السمك لفترات طويلة خشية أن يكون من بين الأسماك من تغذى على أجساد أهلهم وأحبائهم عند التهجير المشؤوم ، وقد فاقم من مأساة شعوب القفقاس المسلمة تخاذل إخوانهم المسلمين عن نجدتهم .
وعندما قامت الثورة البلشفية ضد حكم القياصرة وجد من تبقى من الشراكسة في القفقاس الفرصة للإنتقام من القياصرة الذين ساموهم سوء العذاب ، فشكــَّـلوا فرقا من الفرسان قاتلت مع قوات الثورة الاشتراكية مع إخوانهم المسلمين في شرق وغرب بحر قزوين ضد القوات القيصرية حتى تم إسقاط الحكم القيصري ، وكان من أشهرقادة هؤلاء الفرسان قالمق بيطال مؤسِّس جمهورية قبرطاي – بلقر ذات الحكم الذاتي الذي قال عنه مكسيم غوركي الكاتب الروسي المشهور ” من مميزات هذا العصر ظهور أناس في مثل شجاعة وحكمة زعيم القبرطاي قالمق بيطال ” .
الحرب ضد النازيين
عندما وصل النازيون إلى القفقاس هبَّ القفقاسيون المسلمون في الشمال والجنوب للدفاع عن أوطانهم ، فدمـَّـروا القسم الأكبر من القوات النازية التي عجزت أوروبا كلها عن تدميرها .
الحرب ضد المستعمرين الإنجليز
في بدايات عام 1918 م شارك المتطوعون الشركس إلى جانب العثمانيين تحت إسم ( المجاهدون ) في الحرب ضد الإنجليز في حرب السويس بقيادة ميرزا باشا ( والد الوزير عبَّاس ميرزا ) ، وبعد معارك حامية الوطيس ، تقدَّم الجيش الإنجليزي بأعداد هائلة نحو فلسطين فاضطرَّ الجيش العثماني مع المتطوعين الشركس إلى الانسحاب إلى الأردن والتصدِّي لقوات الجنرال اللنبي المتوجهة إلى الأردن في الغور والسلط وعمَّان ، وقد قتل الكثيرون من الشركس أثناء احتلال الإنجليز لعمـَّان بعد أن دخلوها من جميع الجهات ، وبعد احتلال عمان جوبه الإنجليز بمقاومة عاتية في وادي السير التي حاصرها المحتلون وقاومهم الشركس فيها ساعات طويلة ، وسقط خلال القتال الكثير من الإنجليز والشركس ، وبعد سقوط وادي السير ، اعتقل زعماؤها من الشركس وسيقوا إلى أريحا.
الحرب ضد المستعمرين الفرنسيين
أثناء تقدم الجيش الفرنسي عام 1920 م لاحتلال سوريا بعد قيام الدولة العربية في دمشق بزعامة الملك فيصل بن الحسين ، بادر فيلق المهاجرين الشركس بقيادة ميرزا باشا إلى المشاركة في نجدة القوات العربية ضدَّ المحتلين الفرنسيين على أثر ورود برقية من الملك الراحل فيصل بن الحسين إلى ميرزا باشا ، ويذكر سعيد باشا المفتي حبجوقة القبرطاي ( الوزير ورئيس الحكومة لاحقا ) الذي كان مع الحملة بصحبة ميرزا باشا أنهم وصلوا إلى محطة المزيريب للاشتراك في المعركة إلى جانب القوات العربية في ميسلون ضد الفرنسيين إلا أن مسؤولا في سوريا أبلغهم بأن الشام قد سقطت وأن الفرنسيين دخلوا عاصمة الأمويين ، ولهذا لا فائدة من مواصلة السير ، فعاد الشركس أدراجهم إلى عمان .
الحملات الإسلامية في القفقاس
يذكر كتاب ( الشركس ، أصولهم ، عاداتهم ، تقاليدهم ، هجرتهم إلى الأردن ) لمؤلفه الباحث محمد خير حغندوقة أن الفتوحات الإسلامية وصلت إلى بلاد القفقاس في القرن السابع الميلادي ، ويورد رواية تقول إنه بينما كان سراقة بن عمرو يتابع فتوحاته زحف عبد الرحمن بن ربيعة واستولى على مدينة باب الأبواب ( دار بنت ) على ساحل بحر الخزر ، وقد خضعت أرمينيا وكورجستان (جورجيا ) وجبال (اللان ) القصحه للقوات الإسلامية التي كان يقودها سراقة بن عمرو الذي أقام حكومة عربية إسلامية في تفليس عاصمة الكرج ، ودعا الناس إلى الدخول في الإسلام ، وكان أول من اعتنق الدين الحنيف هم الكرج ، ثم الداغستان ، وتبعهم القبرطاي ، إلا أن هؤلاء ارتدوا عن الدين الإسلامي لعدم رسوخ الإيمان الصحيح في نفوسهم ، بعد ان ضعف الحكم الإسلامي ، الذي زال بعد ذلك نهائيا عن تلك البلاد .
وفي عام 32 هجرية وصل عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي إلى بلاد الخزر واستولى على عدد من مدنها الكبرى ، إلا ان المسلمين انهزموا أمام حشود الخزر ، وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه أرسل وإلى الشام معاوية بن أبي سفيان حبيب بن مسلمة فواصل فتوحاته حتى وصل إلى تفليس عاصمة الكرج للمرة الثانية ، ولكنه فشل ولم يوفق في فتح بلاد الكرج ، وفي عهد هشام بن عبد الملك أعيدت الكرة ، وشنت غارة على بلاد الخزر وأرمينيا ولكن المسلمين فشلوا أيضا في هذه المرة ، وانتهى الأمر بالتراجع .
وفي عام 114 للهجرة دانت معظم بلاد القفقاس الجنوبية لمروان بن محمد الذي أرسله الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ، ثم عيـَّـنه واليا عليها بعد ان استولى عليها نهائيا باستثناء بعض المناطق الوعرة التي يقطن فيها الشركس ، وهي مناطق حصينة ومنيعة ، ولا سيما المناطق التي يقطنها القبرطاي ، وفي نهاية عهد الدولة الأموية استقرَّ حكم المسلمين في القفقاس ولكن بعد انتفاضات عديدة ، وبسبب عدم رسوخ الإيمان الصحيح في النفوس ارتدَّ عدد كبير منهم عن الدين الإسلامي ، وعادوا إلى المسيحية الأرثوذكسية .
واستمر الحكم الإسلامي في القفقاس أكثر من 400 عام ، وفي العصر العباسي بدأت عناصر الضعف تنتشر في الحكم العربي الإسلامي في القفقاس ، وانقسمت البلاد إلى عدة أقسام ، إلى ان انتهى حكم العباسيين ، وحلَّ محلهم السلاجقة عام 1072 ميلادي عندما احتلوا جنوبي القفقاس ، وجاء بعد السلاجقة عصر المغول ، الذين قضوا خلال فترة حكمهم للقفقاس على عدد كبير من الشركس ، قتلا وتشريدا ً ، وفي تلك الفترة بدأ الشركس لأول مرة يفدون إلى مصر حيث أسَّسوا دولة المماليك الشراكسة واستمر حكم المماليك في مصر أكثر من 300 سنة ، ويشاء الله جل شأنه ان يتصدَّى للمغول أحد ملوك مصر من الشراكسة ، وهو السلطان سيف الدين قطز ، وقائد جيشه المغوار بيبرس ، وهُـزم المغول في موقعة عين جالوت الشهيرة ، بعد ان كانوا قد أحرقوا بغداد وحلب والشام أثناء زحفهم إلى أرض الكنانة للإستيلاء عليها .
ويذكر كتاب ( الشركس ، أصولهم ، عاداتهم ، تقاليدهم ، هجرتهم إلى الأردن ) لمؤلفه الباحث محمد خير حغندوقة أن الشركس عاشوا في مناطق بعيدة عن الأقوام القفقاسية الأخرى التي اعتنقت الدين الإسلامي قبل الشركس ، كالداغستانيين وقبائل القمق وغيرهم ، ولم ينتشر الدين الإسلامي بين القبائل الشركسية بشكل عام إلا في نهاية القرن السابع عشر الميلادي ، وقد عمد العثمانيون الذين كانوا يسيطرون على جنوبي القفقاس والداغستان إلى إرسال الأئمة والمشايخ من الداغستانيين والقرم والأتراك ، ولكن بالرغم من وصول هؤلاء إلى المناطق التي يقطنها الشركس لم ينتشر الدين الإسلامي كما يجب وبشكل واسع ، وظل الشركس متمسكين بالدين المسيحي ، ما عدا القليل منهم ، ثم أخذ العثمانيون والداغستانيون يعدون الشراكسة بتقديم المساعدات لهم لمواجهة أعدائهم الروس الذين كان الشركس في حالة حرب دائمة معهم ، وهكذا أخذ الشركس يدخلون في دين الله أفواجا بعد أن توفرت لدى الشركس القناعة التامة لاعتناق الإسلام ، ولا سيما وقد بدءوا يشعرون بكرامتهم بعد ان علموا بأنه لا واسطة بين المسلم وبين خالقه ، وأنه لا كهانة في الإسلام ، وأن المسلم يستطيع ان يخاطب ربه دون وساطة من أحد ، وأن المساواة والاخوَّة قاعدتان أساسيتان في الإسلام الذي منح الإنسان حرية المعتقد واختيار الدين الذي يرتأيه .
ونشر موقع ( وقف القوقاز) وهو موقع من المواقع الشركسية على الانترنت مقالا لباحث شركسي أديغي جاء فيه : ” لم يقض ِالأديغة ( الشركس ) أية فترة من فترات التاريخ المعروفة دون دين فقد اعتنقوا على مر التاريخ ثلاثة أديان هامة يشكل المسيحية والإسلام اثنين منهما ، ولكن الدين المسيحي وإن كان له وجود في القفقاس قبل مجيء الإسلام إلا أنه لم يكن فعّالاً ، أما
الإسلام فقد دخل القفقاس في فترة الفتوحات التي قام بها (الخليفة) عمربن الخطاب رضي الله عنه إذ دخل داغستان عقب فتح إيران ( بلاد فارس ) ، وقد اضطرت الجيوش الإسلامية التي دخلت القفقاس في القرن السابع الميلادي لخوض حرب طويلة الأمد مع الخزريين ، وفي هذه الفترة بدأ كلٌّ من الداغستان والشيشان وقسم من سكان المنطقة الوسطى للقفقاس باعتناق الإسلام .
دور الشراكسة في الحفاظ على الهوية
العربية والإسلامية في الشرق العربي
أثناء غزو التتار للقفقاس وقع بعض الأسرى من الشراكسة ومعظمهم من النساء والأطفال بيد التتار ، فكان المجاهد صلاح الدين الأيوبي يفتديهم بالمال لتحريرهم من الأسر ، وكان هدف صلاح الدين من تحريرهم تهيئة الشباب منهم لتولي مراكز القيادة في الدولة والجيش ، وفعلا وصل الكثير منهم إلى قيادة الدولة ، فتصدَّوا للتتار الذين دمروا بغداد وغزوا بلاد الشام ، وحين تواقح ثلاثة من رسل التتار مع السلطان قطز استلَّ سيفه وقطع رؤوسهم وأعادها إلى التتار في تحد ٍ واضح ٍ ، وزحف جيشه بقيادة بيبرس الشركسي وألحق الهزيمة بالجيش التتري عام 1260 م في معركة عين جالوت بعد سنتين فقط من تدمير بغداد عام 1258 م ، ثم جاء تيمورلنك وأرسل رسائل تهديد إلى السلطان برقوق الشركسي جاء فيها : ” إعلموا أننا جند الله مخلوقون من سخطه ، ومسلــَّـطون على من حلَّ عليه غضبه ، لا نرقُّ لشاك ، ولا نرحم باك ٍ ، وقد نزع الله الرحمة من قلوبنا ، إن خيولنا سوابق ، ورماحنا خوارق ، وأسنــَّـتنا بوارق ، وسيوفنا صواعق ، وقلوبنا كالجبال ، وجنودنا كعدد الرمال ” ، فردَّ عليه السلطان برقوق الشركسي : ” إعلموا أن هجوم المنية عندنا غاية الأمنية ، إن عشنا عشنا سعداء ، وإن قـُـتلنا قـُـتلنا شهداء ، أبَـعْـدَ طاعة أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين تطلبون منا طاعة ، لا سمعَ لكم منا ولا طاعة ” .
وقام السلاطين الشراكسة بالتصدِّي للحملات الصليبية المتتالية وساهموا في طردهم من البلاد الإسلامية ، فساهموا في الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية في الشرق العربي من أكبر خطرين تهدَّدهما ، التتار والفرنجة الصليبيين .
الشيخ عمر لطفي المفتي حبجوقة
أول مفتي عام في الدولة الأردنية
كان العالم الشركسي الشيخ عمر لطفي شادجي البسلاني الذي غلب عليه إسم عمر لطفي المفتي أول من تولى منصب المفتي العام الأول في تاريخ الدولة الأردنية بموجب إرادة أميرية أصدرها الأمير المؤسِّس ( الملك لاحقا ) عبد الله الأول بن الحسين في بداية تأسيس الإمارة الأردنية في عام 1921 م ، وبقي في هذا المنصب الرفيع حتى تقاعده في عام 1944 م ، وينتمي الشيخ العلامة عمر لطفي المفتي الى عائلة شركسية عريقة تدعى شادجي من قبيلة البسلاني ، وهي عائلة توارث أفرادها التخصص في علوم الفقه والشريعة الإسلامية منذ ما يقارب الأربعمائة عام ، حيث كانوا يتلقون العلوم الإسلامية قبل هجرتهم من وطنهم القفقاس في سمرقند التي كانت من أشهر مراكز تعليم العلوم الدينية ، وقد اختارت عائلة الشيخ الهجرة من القفقاس الى تركيا في وقت سابق للتهجير القسري للشراكسة من وطنهم وذلك تلافيا لوقوع نزاعات وفتن بين أمراء ونبلاء الشراكسة حيث اختلف البعض منهم مع العائلة عندما أعتقت أرقاءها عملاً بأحكام الشريعة الإسلامية ، وكان الشيخ عمر لطفي شادجي البسلاني قد تلقى العلوم الإسلامية في إستانبول ، وأمر السلطان عبد الحميد بموجب إرادة سلطانية ( فرمان ) بتخصيص كرسي لسماحته للتدريس في جامع محمد الفاتح في وسط إستانبول ، وكان مجيء الشيخ عمر لطفي شادجي الى الأردن قبل مجيء مصطفى كمال أتاتورك الى سدة الحكم في تركيا ، فقد جاء إلى الأردن بموجب تكليف من المشيخة الإسلامية في الدولة العثمانية ليشرف على تأسيس معهد للعلوم الشرعية في الأردن ، وكان شقيقه الشيخ يحي المفتي/ شادجي في ذلك الوقت مفتياُ في مدينة منبج في سوريا ، واستقرَّ المقام بالشيخ عمر لطفي في عمَّان بعد أن أسَّس معهد العلوم الشرعية وتولى إدارته والتدريس فيه ، ثمَّ عهد إليه الأمير المؤسِّس عبد الله الأول بن الحسين ليكون أول من يشغل منصب المفتي العام في الدولة الأردنية .
من أعلام الشراكسة
يورد كتاب ( دليل أهلـنا ) الذي أصدره فرع صويلح للجمعية الخيرية الشركسية أسماء بعض مشاهير الشركس في ميادين مختلفة ومنهم :
محمد أحمد بن الحنفي
والمعروف بابن إياس ، شركسي ولد عام 1448 ومات في القاهرة عام 1523 م ، وهو مؤرِّخ وموسوعي كبير له من المؤلفات الخالدة موسوعة ( بدائع الزهور في وقائع الأمور ) وكتاب ( مروج الزهور في وقائع الأمور ) ، وقد قام بتأريخ كيف احتفلت القاهرة أبان حكم السلطان الشركسي أينال شاه لمدة ثلاثة أيام فرحا بفتح السلطان العثماني محمد الفاتح للقسطنطينية ، وقد أرَّخ لمصر منذ أقدم العصور حتى نهاية عهد سلاطين الدولة الشركسية .
خير الدين باشا التونسي
ويلقب بأبي النهضة الحديثة بتونس ، شركسي من أبرز الشخصيات الوطنية في تونس الخضراء تولاه بأي تونس بالرعاية وتلقى علومه في الزيتونة ومن ثم انتقل إلى المدرسة الحربية وتخرج منها ضابطا والتحق في النخبة من سلاح الخيـَّـالة وتدرَّج في العسكرية حتى وصل إلى رتبة فريق ، وتولى مناصب وزارية حتى أصبح رئيسا للوزراء ورئيسا للمجلس الكبير ” البرلمان ” ، وقد أغضبت سياساته الإصلاحية قناصل الدول الإستعمارية التي لا تريد خيرا لبلد عربي مسلم وهي إنجلترا وفرنسا وإيطاليا ، فأخذوا في تحريض باي تونس عليه ، ورضخ الباي لضغوط الدول الإستعمارية وأبعد الفريق خير الدين التونسي عن السلطة في 21 تموز 1877 وفرض العزلة والحجز عليه فاشتغل بالتأليف ، وعندما ألف كتاب ( أقوم المسالك في أحوال الممالك “) استدعاه السلطان العثماني عبد الحميد إلى إستانبول ليشارك في الخروج بدولة الخلافة الإسلامية من حالة الفوضى والفساد وعيَّـنه وزيرا للعدل ثم رئيسا للوزراء ” الصدر الأعظم ” ، لكنه اختلف مع السلطان وعُـزل عن منصبه ، وقـُـيـِّـدت إقامته ، وتوفى سنة 1878 عن عمر يناهز 70 عاما ودفن في جامع أيوب ، وبعد 78عاما من وفاته أعادت تونس رفاته من استانبول إلى تونس ودفن في مقبرة الشهداء وكرَّمته الدولة والشعب في تونس بمنحه لقب ” أبو النهضة الحديثة في تونس ” .
الإمام الكوثري
محمد زاهد بن حسن الحلمي الكوثري نسبة إلى قرية الكوثري ( جوشري ) على ضفة نهر ” بسيج ” الكوبان من بلاد القوقان ، وهو من أصل شركسي سكن أجداده الضفة اليسرى من نهر الكوبان بالقوقان ، ولد عام سنة 1879م الموافق 1296 هـ بقرية حاج حسن بمنطقة دوزجه شرق الأستانة ( إستانبول ) ، انتقل إلى استنبول واستقرَّ في مدرسة الحديث ثم جامع الفاتح طالبا للعلم ، ثم مدرسا وشيخا للمشايخ حتى عام 1914 ، وعـُـيـِّن أستاذا لمادة الفقه وتاريخه في جامعة استنبول ، ويعد نتاجه العلمي من التعليق والتحقيق والكتابة لمؤلفات نادرة بلغت 51 موضوعا .
وعندما قام مصطفى كمال أتاتورك بانقلابه العلماني وأخذ في اضطهاد العلماء ارتحل الشيخ الكوثري إلى مصر واستقرَّ في القاهرة ، وتوفى فيها في عام 1952م الموافق 1371 هـ .
شمس الدين سامي غراندوقه
ولد شمس الدين غراندوقة في قرية لابسيشنا في قفقاسيا عام 1881 م من أبوين شركسيين ، وتوفي بالكرك في 17 أيلول عام 1950 م ، وهو أول أردني يحصل على شهادة الحقوق .
قاوم شمس الدين سامي ظلم حكومة حزب الإتحاد والترقــِّـي الماسونية التي سيطرت على الدولة العثمانية في أواخر سنواتها ، وعندما جثم المستعمرون البريطانيون والفرنسيون على بلاد سوريا الطبيعية ( فلسطين ، شرقي الأردن ، سوريا ، لبنان ) شارك شمس الدين سامي في الحركة الوطنية الأردنية الرافضة لسيطرة المستعمرين الإنجليز والفرنسيين ، وقاسى مع إخوانه الوطنيين مرارة السجن والنفي والإضطهاد والحرمان ، وكان من خطباء الحركة الوطنية المفوَّهين حتى وصفه شاعر الأردن عرار بأنه ” ميرابو العرب ” تشبيها بخطيب الثورة الفرنسية .
شارك شمس الدين سامي في صياغة أول قانون للانتخابات عام 1923 ، كان يؤمن بأن الأحزاب السياسية الوطنية هي أبلغ محطة نضالية في حياة الفرد فانضمَّ إلى عدد من الأحزاب السياسية الأردنية الوطنية المعادية للاستعمار وللصهيونية .
مختار بك كعبار قل
ينتسب إلى قبيلة شركسية من قول أوغليه ، ولد سنة 1296هـ في غريان بليبيا وفيها حفظ القرآن ، وفي سنة 1314هـ ذهب إلى مدينة طرابلس لتلقي العلوم ، وعندما احتل الطليان البلاد كان يناهز الخامسة والثلاثين من عمره فكان في مقدمة المحرِّضين على الثورة ضد المستعمرين الطليان ، ولما حصلت الثورة سنة 1915م كان في مقدمة الثائرين ، وأجلى الإيطاليين عن غيران بعد أن استسلموا له وغنم كل ما معهم من عتاد ومتاع ، ولما نشأت فكرة تأسيس الجمهورية ، كان من المرشحين لها ، ولكن إخلاصه لوطنه دفعه إلى التنازل عن ترشيح نفسه ليحل محله عبد النبي ، وعندما تشكـَّـلت حكومة القطر الطرابلسي سنة 1919م من ثمانية أعضاء كان أحد الثمانية ، وكان من المؤسِّسين للحزب الوطني الليبي ، ومن أكبر المساهمين في إنشاء جريدة اللواء الطرابلسي ، وفي سنة 1923م تغلبت جيوش المستعمرين الطليان على من بقي من أنصار الحق فتركوا وطنهم مكرهين وكان مختار بك من هؤلاء حيث لجأ إلى القاهرة وتوفي فيها سنة 1366هـ ــ 1947م .
الأميرألاي مرزا باشا وصفي
ولد في القفقاس عام 1837 وهـُجـِّـر قسرا مع أسرته إلى البلقان فأقام في مدينة صوفيا ثم انتقل إلى الصرب عام 1872 ، وتمَّ تجنيده في الجيش العثماني فاشترك في الحرب ضد صربيا عام 1876 ، ثمَّ في حرب الجبل الأسود ، ثمَّ عاد إلى بلغاريا واشترك في معركة بلفينا مع المتطوعين الشراكسة الفرسان الذين كان عددهم 2000 فارس ورفض الإستجابة إلى أوامرالقيادة العسكرية بالإستسلام إلى القوات الروسية وتابع قتاله وقاد هجوما مضادا ونجح في إنقاذ قواته من الحصار وكان من بين القتلى في المعركة إبن عمه محمود .
عاد إلى استنبول بعد معاهدة برلين 1877 والتحق بأهله الذين أعادت تركيا تهجيرهم إلى البلاد العربية فوصل سوريا عام 1888 وعين معاونا لخسرو باشا الشركسي وأمر بنقل الشراكسة المهجـَّـرين بالقطار من تركيا إلى منطقة مزيريب ، ووصل المهجرون على ظهور الجمال والبغال إلى ياجوز في منطقة صويلح ثم إلى عمان ووادي السير وناعور والرصيفة ، وقام بتشكيل لجنة ضمـَّـت محمد حبجوقة والد الرئيس سعيد المفتي لتوزيع الأراضي الأميرية على الشراكسة في مواقع أقامتهم الجديدة ، ثم قاد كتيبة من المتطوعين الشركس إلى الحجاز واليمن لإحلال الأمن في ربوعها ، ثمَّ عاد إلى سوريا ، وفي الحرب العالمية الأولى قاد الكتيبة الشركسية إلى قناة السويس لمقاتلة الإنجليز وقاتلت قواته بشدة في غزة وأبان الثورة العربية الكبرى استجاب لطلب الأمير عبدالله بالانضمام إلى جيش الثورة العربية كما استجاب لنداء الواجب لنجدة الجيش العربي في معركة ميسلون مع القوات الفرنسية فقاد قوة من المقاتلين الشراكسة إلى سوريا لنجدة الجيش العربي ولكنه وهو في الطريق جاءت الأنباء عن استشهاد القائد يوسف بك العظمة وانتصار الفرنسيين ودخولهم دمشق فعاد إلى عمان ، وقد عيـَّـنه الأميرالمؤسِّس عبدالله بن الحسين مرافقا عسكريا وأنعم عليه بترقيته إلى رتبة فريق ، وتوفي عام 1932 م .
محمود سامي البارودي
فارس القلم والسيف والسياسة ، ولد محمود سامي البارودي الذي كان يُـعرف بفارس القلم والسيف والسياسة لأبوين من الشراكسة بالقاهرة في عام 1839م ، دخل المدرسة الحربية سنة 1852 ووصل إلى رتبة لواء وأصبح وزيرا ثم رئيسا للوزراء في مصر ، ولكن المحتلين الإنجليز تآمروا عليه وحكموا عليه مع عدد من زملائه بالإعدام ، ثم خـُـفـِّـف الحكم إلى النفي المؤبد إلى جزيرة سرنديب ، وبقي في الجزيرة 17 عاما تقريبا ، وفي منفاه فيها قال قصائده الخالدة ، ثمَّ عاد من المنفى في 12 من سبتمبر 1899م .
يعد البارودي ، وهو الشركسي ، رائد الشعر العربي في العصر الحديث ، وترك ديوان شعر يزيد عدد أبياته على خمسة آلاف بيت ، طبع في أربعة مجلدات ، وقصيدة طويلة عارض بها البوصيري ، أطلق عليها ” كشف الغمة ” . وله أيضا ” قيد الأوابد ” وهو كتاب نثري سجل فيه خواطره ورسائله بأسلوب مسجوع ، و ” مختارات البارودي ” وهي مجموعة انتخبها الشاعر من شعر ثلاثين شاعرا من فحول الشعر العباسي ، وتوفي في عام 1904 م .
أحمد محمد رامي
ولد أحمد محمد رامي الذي كان يُـعرف بشاعر الشباب في القاهرة في 9 أغسطس سنة 1892 م ، والده الدكتور محمد رامي هو إبن الأميرألاي الشركسي حسن عثمان بك الذي قدم إلى مصر سنة 1883 م وقتل في فتح السودان بواقعة كساب سنة 1885 م ، وقد غنـَّـت السيدة أم كلثوم أحلى أغانيها من قصائده .
الجنرال إسماعيل باشا برقوق
من مواليد 1889 م في بينار باشا من مقاطعة قيصري بتركيا ، وانتقل إلى استنابول ليواصل تعليمه في المدرسة العسكرية والأكاديمية العسكرية وقيادة الأركان ، بعد تخرُّجه أرسل إلى القفقاس لقيادة قوات الجيش التركي في القفقاس ، وشهد ولادة أول كيان سياسي في القفقاس وهي جمهورية القفقاس المستقلة عام 1922 م ، وعُيـِّـن قائدا لجيش جمهورية القفقاس ، وتمكـَّن من صدِّ ووقف زحف القوات الشيوعية وحلفائها من القوزاق والجورجيين ، ولكن تمكنت القوات الشيوعية وحلفاؤهم من اجتياح المنطقة فألقي القبض عليه وحكم بالإعدام ، ولكنه تمكن من الهرب والوصول إلى طربزون وأصبح رئيسا لهيئة الأركان في الجيش بعد أن رُفـِّـع إلى رتبة جنرال عام 1937 في عهد أتاتورك ، واستقال من الخدمة عام 1946 وفي عام 1950 تم انتخابه عضوا في البرلمان عن مقاطعته قيصري ، وتوفي عام 1954 ودفن في مقبرة الشهداء في أنقره ، كان واسع الثقافة ويتقن العربية والفارسية والشركسية والفرنسية والروسية ، وله عدة مؤلفات باللغة التركية .
http://almadenahnews.com/newss/news.php?id=58681&c=500#.Tmpty6DxgsM.facebook