لا مساومة على الوطن الأم
إذا كان الشيئ بالشيئ يذكر، فإن عنوان هذا المقال جعل ذكر الوطن والمساومة عليه من قبل النّفعيّين والإنتهازيّين مادّة لتقييمها وتقديمها لمن أراد البحث والتّمحيص بأمور الإلتصاق بالوطن وأسسه ومكوناته حيث استند الموضوع على المقال المنشور على الموقع الألكتروني قوقاز تايمز بعنوان “مساومة للوطن“، حيث بدأ كاتب المقال بأن يتهجّس من أن يفهم الموضوع لأوّل وهلة على عكس ما يرمي إليه، حيث ذكر في البداية بأن “عنوان هذه القصة قد يبدو تجديفا” بحيث أنّه يتابع بأن هناك من ينظر إلى الوطن “على وجه الحصر بأنّه سلعة” ويمكن الإستفادة الذّاتيّة من ذلك! ولكون الوطن الشّركسي في شمال القوقاز لا يزال محتلّا والغالبيّة العظمى من الأمّة الشّركسيّة تقيم في الخارج بسبب التّهجير القسري الّذي لا تزال تعاني من آثاره الكارثيّة لما يقارب المائة وخمسون عاما، فإن النص الأصلي لا ينطبق على الحالة الشّركسيّة بالشكل الموصوف أصلا إلّا ان المضمون متشابه من حيث تشابه اللاعبين والإنتهازيّين والأقزام والمنشدين والطّارئين.
ويعتبر المقال بأن هناك إختلافا في تفاصيل وأنماط النمو المهني، ويُكمل بحيث يبيّن وضوح السّلوك في هكذا حالات وتحديدا اتخاذ منهج “الخوارزميّة” أساسا وارتكازا وهي اتّباع منطق الحلول الرّياضيّة، من أجل “الحصول على السلطة بأيّة وسيلة”، والحصول عل الموارد الحكوميّة ويمكن أن يرد في هذا الباب الحصول على الجاه والسّلطة المعنويّة والسّطوة وإعادة توجيه كل ذلك نحو المنفعة الشّخصيّة والأنانيّة الّتي عادة ما تكون مكبوتة في نفس كل من تسوّل له نفسه العبث بمصائر النّاس والشّعوب وهدر الطّاقات والحقوق واختصار واجبات وشؤون الأفراد والجماعات بالأمور الآنيّة وغير المجدية والمصالح الضّيّقة، هذا إن نظرنا نظرة شاملة نحو أمّة يحتضر وجودها كأمّة محترمة بين الأمم لتذوب وتنصهر في أتون شعوب أخرى. إن وصف هؤلاء المنتفعين الّذين يكمن سلوكهم الحياتي بتكريس “الهجرة وزرع صورة عبقريّة يساء فهمها، ومقاتل في سبيل الديمقراطيّة والّلجوء السّياسي وهلم جرا”، وذلك يعطي فكرة عن مدى شخصنة المراكز القياديّة في المؤسّسات الشّركسيّة القائمة وكذلك الوظائف العامّة المخصّصة للأقلّيّات الشّركسيّة في ديار الشّتات والإغتراب عن الوطن مثل المجالس النّيابيّة وما شابهها وكذلك الوظائف الحكوميّة الأخرى.
يقول الكاتب بأنّ “هناك تنوّعا كبيرا في كيفيّة تغيّر أبطال وقتنا”، وانّ هناك “متغير ثابت هو إصرارهم على الإستشهاد – أو حتّى وصول مرتبة القدّيسين”، ويضيف: حتّى الآن “فإنّه مهما كانت مظاهر المبرّرات، فإن المساومة على الوطن قد تم تعريفها تاريخيّاً بمصطلح محدّد – الخيانة. إن التحولات القاسيّة والسّريعة في القناعات الأيدولوجيّة تشارك نوعيّا مع ما يسمّى المهنة الأقدم في العالم…”
و”ثمة سؤالا كلاسيكيا يطرح نفسه وسط هذه الهستيريا: من الذي سيدفع ثمن الوليمة؟ لا تضحكون على أنفسكم — كما جرت العادة”، فيجب وزن العقول “إنها أموال دافعي الضرائب” وهنا يجب التنبيه بأن الدّماء الّتي سالت في الدّفاع عن الوطن وأهله، هي الّتي تعتبر الضريبة الأعلى الّتي قدّمت للوطن سلفا، بل وفوق ذلك هناك من دفع ثمنا باهظا أعلى للوطن، ألا وهو الأرواح الطّاهرة الّتي قدّمت فداءا لأغلى ما يملك الإنسان العاقل السّوي وليس الّذي لديه أولويّات أخرى!
إن الشّركسي المقدام يعمل على بناء مقوّمات الوطن بالسّبل المتاحة ويقوم بتشييد وتقوية ركائزها مهما اختلفت الأمكنة الّتي ترتكز فيها، لأنّ في النّتيجة سيكون هناك صرحا قوياّ شامخا ومتينا في الوطن الشّركسي أي في شركيسيا؛ فعزّة الوطن من عزّة أهله ويزداد قوّة وعنفوانا بهم وبعطائهم وتضحياتهم. إن حب الوطن والوفاء له لا ينضب وهو مزروع في المهج والأرواح وسوف تحفر تلك الأعمال البطوليّة في صفحات المجد والسؤدد الخالدة الّتي ستحتفظ بها على مدى الأزمان.
وفي مقال آخر بعنوان “الوطن الأم أم الوطن البديل؟” بقلم بسّام درويش، يقول في إحدى فقرات المقال: “وحين ننتقل بفكرنا إلى حيث نقيم، إلى موطننا الجديد، نجدُهُ مقراً لنا ولعائلتنا ومصدراً لرزقنا، وفرصةً للإبداع لم تكن متوفرة لنا حيث كنا لأسباب أكثر من أن تُحصى”، وهنا يمكن القول بأن الأمّة الشّركسيّة الّتي بقيت في حالة حرب دائمة مع عدوٍ لا يكل ولا يمل نتيجة لتمتعه بالإمكانات المادية والبشرية والعسكريّة، ما أدّى إلى البقاء لعشرات السنوات في حصار دائم وحرب ضروس للدفاع عن الوطن بكل ما أوتوا من إمكانات محدودة في ذلك الزّمان. ويزيد المقال: “إذا كنا نعتبر هذا البلد وطناً ثانياً لنا فأنَّهُ سيصبِحُ لأولادنا من بعدنا، وطناً أولاً، ومن ثم لأولادهم، وطناً وحيداً. لا أولاً ولا ثانياً. لذلك، فمن حقِّهم علينا أن نترك لهم فخرالانتساب الينا ليقولوا لأيّ كان: لقد قدَّم أجدادنا لهذا الوطن ما قدَّمه أجدادكم”، وهذا ما كان حيث قدّم الشّراكسة الشّجعان ما استطاعوا للبلدان التي عاشوا بها حيث يفخر الأبناء والأحفاد بما قدّموا من غال ونفيس، إلا أن حق الوطن الأم يوجب عدم الوقوف عند ذلك بل بالمطالبة المستمرّة باسترجاع الحقوق المسلوبة.
ويكمل الكاتب بصيغة الإعجاب: “لنا في المهاجرين الأرمن الذين وجدوا في بعض الأقطار العربية كمصر ولبنان وسورية والعراق والأردن ملجأ لهم، بعد أن هربوا من الشيوعية ومن فتك العثمانيين، مثالٌ يُحتذى به. إنَّهم مع احتفاظهم بعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم التي علموها لأولادهم وأحفادهم، لم يبخلوا على أوطانهم الجديدة بعطائهم، بل شاركوا في نشاطاته الإجتماعية والسياسية وحملوا السلاح مدافعين عنه عند الملمات وقدَّموا من أجله الشهداء، ولم يقف إيمانهم بدينهم حائلاً بينهم وبين الولاء للبلد المضيف الذي يدين بغير ما يدينون به. ونرى كثيراً منهم وقد هاجروا للمرة الثانية من البلاد العربية إلى أميركا يفتخرون بقولهم، لمن يسألهم عن أصلهم، أنهم سوريون أرمن أو لبنانيون أرمن أو عراقيون أرمن..”، فيمكن التّذكير من خلال ما ذكر أن الأرمن لم ينسوا وطنهم وحقوقهم رغم أن جمهوريّة أرمينيا قد استقلّت عن الإتّحاد السّوفياتي المنحل في عام 1991، ولكن لم ينس الأرمن بأن لهم حقوقا كادت أن تضيع لولا مطالباتهم المستمرّة والحثيثة لاسترجاعها وكذلك مطالبتهم المحدّدة بالإعتراف بالمذابح الجماعيّة الّتي اقترفت ضد أمّتهم، وها نحن نرى الدّول المختلفة تعترف بالمذابح الّتي جرت ضد الأرمن، مع العلم بأن المذابح الجماعيّة الّتي تعرّضت لها الأمّة الشّركسيّة في القرن التّاسع عشر هي أقسى وأمر وخلّفت ضحايا أكثر، وكذلك ألمّت نتائجها بشركيسيا وبمواطنيها أشد الإيلام ورشح عنها نتائج كارثيّة لا تزال إلى يومنا هذا لم تجد إلى الحل سبيلا.
إنّنا هنا أمام تقرير مصير لأمّة عانت الكثير وليس في حساب المخلصين من أبنائها أن يقبلوا وطنا بديلا…
إيجل